لِمَنْ تتلون مزاميركم ؟

علي الجزيري
ciziri@gmail.com
في حديثه الشهري ، كتب ( د .

سليمان ابراهيم العسكري ) ، رئيس تحرير مجلة ( العربي ) ، في العدد 564 شوال 1426 / نوفمبر 2005 ، إفتتاحيته الشهرية تحت عنوان : ( العربية والأقليات اللغوية / محاولة لتحديد النطاق ) ؛ يومىء فيها بوجود ما سماه محاولات : ( التمرد على اللغة العربية الجامعة من بعض الأقليات اللغوية ) !…
ثم يمضي ( العسكري ) قدماً في الإشارة الى ما وصفه بالتمرد على اللغة الروسية ، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق ، من لدن جمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية والجمهوريات الأوربية التي كانت تابعة له.
بادىء ذي بدء ، يُفترض في رئيس تحرير مجلة واسعة الإنتشار كالعربي ، أن تكون مقالته رصينة  وذات  طا بع موضوعي وأن يتحلى بقدر من الحكمة قبل إطلاق الأحكام الإعتباطية .

لكن ، للأسف جاءت مقالته هذه المرة مخيبة للآمال ومشوّهة للوقائع التي لايختلف بصددها إثنان ؛ من هنا يمكن تفسير محاولته للإغتراف من القاموس السياسي الذي ينص على إقصاء الآخر وتبخيسه ، واستعارة مفردة ( التمرد ) الدارجة فيه .

وما زاد الطين بلة ، زعمه : بأن اللغة الكردية تنتمي الى مجموعة اللغات ( السامية ـ الحامية) وتتصف بتعدد لغاتها (يقصد لهجاتها) ! … وهذه لعمري أخطاء لايقع فيها المبتدىء ، من هنا إرتأيت ألاّ أناقشه على هذا الصعيد.
ومن المؤسف أنه يتناول التاريخ بعد أن يُضفي عليه أحكاماً غير دقيقة ، بدليل تصنيفه لمدينة ( القامشلي ) بين أهم المدن السريانية ؛ وهي محاولة أشبه ماتكون بنقل زمرة دم مخالفة الى جسم إنسان آخر ، ولا يخفى ما في ذلك من مخاطر لأصحاب الإختصاص قد لاتحمد عقباها .

وقد يقول قائل وما أدراه بمثل هذه الأمور ، فأقول : طالما تنطح رئيس التحرير لمهمة كهذه ، كان يتوجب عليه أن يكون على دراية كافية بشأن الكرد ولغتهم والتركيب السكاني للمدينة المذكورة ، وألاّ يلزم نفسه بمعطيات المصادر المشكوك في مصداقيتها أوالشبيهة بترهات ( سليم مطر ) وخزعبلاته دون تمحيص ، لأنه ـ أعني مطر ـ إعتاد أن يدس السم في العسل ، فيما يخص الشأن الكردي في كل من العراق وسوريا على نحو خاص.
أما ما يتعلق بشأن مصطلحي ( التمرد والأقليات ) ، فحشرا قسراً ليؤديا وظيفة ايديولوجية بعينها ، وهذه المحاكاة الساخرة ما هي سوى موروث ثقافي استلهمه الكاتب من جعبة السياسيين وانساق وراءه ؛ من هنا نفهم وصفه للشعوب ـ ومنها الشعب الكردي الذي يناهز اليوم 40 م.ن ـ بالاقليات ظلماً ؛ ويشهد التاريخ مساهمة أعلام الكرد المميزة في إغناء اللغة العربية الى درجة إهمال لغتهم الأم ، ولايخفى ما كان لهذا الإهمال من نتائج سلبية ، أقل ما يقال فيه ، أنه كان سبباً لايستهان به في كبح الوعي القومي الكردي وإجهاضه .

أما شعوب الاتحاد السوفييتي السابق ، فكان تمردهم بمثابة مقاومة ضد سياسة الترويس التي مورست عن سبق الإصرار والتصميم ، الى درجة تهميش لغات الشعوب السالفة الذكر ، والتي وصفها الكاتب ذاته متجنياً باللغات (المحلية ) ، وكان حرياً بأمثاله ألا يغض الطرف عن سياسة التتريك الشبيهة بالترويس ، تلك التي مورست بحق العرب ولغتهم في ظل الإحتلال العثماني ، أو سياسة التعريب التي طبقت بحق الكرد والتي طالت البشر والحجر ، طالما أن الشيء بالشيء يذكر.
والظاهر أن بعض المثقفين العرب ، تشكل ثقافتهم إجتراراً أو إعادة إنتاج للايديولوجيا التي تروجها بعض الأنظمة العربية فيما يتعلق بالموقف من حقوق الشعوب الأخرى ، ومنها شعبنا الكردي ؛ لأن ثقافة هؤلاء ، تتصف بسمتين نسقيتين رئيسيتين ساهمتا في نمذجتهم :
الأولى ـ تغليب الخطاب الايديولوجي على الواقع العياني وقراءة التاريخ في ضوئه ، مما يدعونا الأمر الى القول بأن مثل هذه السمة ، تنطوي على أنساق سلطوية تتحكم بالمثقفين بشكل مباشر أو غير مباشر .
الثانية ـ التعالي على الآخر وتدنيسه أو تهميشه ، ناهيك عن شرعنة السياسة المنتهجة ضده ، إنطلاقاً من نظرية المؤامرة المتوارثة التي تعشعش في ذاكرتهم عنه ، ناهيك عن نزعة الوصاية تجاه الأمم والشعوب الأخرى كالكرد والبربر وغيرهم.
وأعتقد أن هؤلاء ، ما زالوا حبيسي مقولات البعث الدارجة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي ، تلك التي أكل عليها الدهر وشرب ، وليس صدفة أن تأتي أحكام ( العسكري ) الإرتجالية في هذا السياق وهي تعكس السياسة العرجاء للأنظمة الشمولية .

وقد بات من الضرورة بمكان ، إعادة النظر في بنية الذهنية العربية السائدة وآلياتها ، وهذا يتطلب أول ما يتطلب ، نزع غلالة الايديولوجيا التي نسجها بإحكام أمثال ( ميشيل عفلق ) وأتباعه ومن لف لفهم ، ممن يتلون مزاميرهم اليوم ، وينصبون أنفسهم أوصياء علينا ؛ ومن ثم التدقيق في الرؤى والتوجهات السلطوية المضمرة ، ذات الفاعلية الإستنساخية المتناسلة دون وعي في سلوكيات الرأي العام.
وقد سبق أن أدلى المرحوم ( ممدوح عدوان ) ، بدلوه في هذا الشأن ، ومارس نقداً منهجياً لهذا الخطاب في كتابه القيّم : (حيونة الانسان ) ، مبيناً كيف أن الزعيم الزنجي ( ستوكلي كار مايكل ) ، كان يقول : [ وأعتقد أن الشاب الأبيض الذي في مثل سني في الغرب اليوم ، لايُدرك عنصريته غير الواعية ، وذلك لأنه يتقبل كتابات الغرب ، التي دمرت التاريخ وشوهته ، وكذبت فيه حتى جعلت هذا الشاب ينطلق من إفتراض أساسٍ لتفوقه غير المدرك ].
أجل ، فالايديولوجيا البائسة ، قد فعلت فعلها وأينعت ثمارها السامة حقاً ، وأضحت قيداً يكبح جماح معتنقيها نحو التفكيرالحر، وهي بمثابة مانسميه في لغتنا الكردية ( سركَوش ) ، أعني بها تلك السيور الجلدية التي توضع عادة على رؤوس البغال أو الخيول ، حين تجر خلفها العربة أو الجرجر ، بحيث يتعذر عليها رؤية ما في الميمنة أوالميسرة .

ولم يبا لغ الطيب الذكر ( د .

علي الوردي ) ، لمّا شبه الايديولوجيا بالغلاف الجوي ، الذي نتحمل ضغطه دون أن نشعر به إلا إذا إرتقينا نحو الأعلى ، حيث يخف الضغط تدريجياً مع الارتفاع ؛ عندئذ ، نشعر كم كنا واهمين .

كذلك الإنسان ، فهو لايشعر بوطأة القيود الايديولوجية المحكمة الصنع ، إلا إذا إرتقى بتفكيره أو إنتقل الى مجتمع جديد ينعم بالحرية والديمقراطية ، وتسوده مفاهيم أكثر إنسانية حيال الآخر ، تختلف عن المألوف الذي هُندس له.
وأحمد الله الذي لايُحمد على مكروه سواه ، ألاّ يكون ( العسكري) قد أصيب هو الآخر بفيروس الإيديولوجيا المعدي أو أضحى أسير أوهامها الرائجة أو من المخدوعين بها أو غدا بمثابة العصا الغليظة في يد الساسة الشوفينيين .

ويكفيني تذكيره في الختام ـ وقد عانى الكويتيون كما نعلم من الإحتلال الصدامي البغيض ماعانوا ـ بمقولة ( ماركس ) المعروفة ، تلك التي أشار فيها الى أنه يتوجب على كل من يود أن يختبر إنسانية الإنكليزي معرفة موقفه من المسألة الإرلندية.
أظن أنه قد آن الأوان أن نقول بأن في وسعنا ـ نحن الكرد ـ أيضاً أن نختبركم ، فالموقف من القضية الكردية من لدن اخوتنا العرب ، هي المحك في الحكم على إنسانية الإنسان العربي ، لأن شفافية عالم اليوم لاتحتمل المزيد من الماكياجات ، ثم أننا ـ أي الكرد ـ  سبق أن دفعنا ضريبة الرهان على النوايا الحسنة ، ولدغنا من ذات الجحر مرات ومرات.
16 /8 /2006 م .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…