يجب أن ندرك كبقية ـ خلق الله ـ أنَّ المصالح هي التي تتحكم بالسياسات الدولية ، وأنَّ التفكير خارج هذا المفهوم هو ضرب من السحر والشعوذة لاأكثر .
فالحقيقة الكردية موجودة ومتجذرة في الشرق الأوسط منذ فجر التاريخ وحتى يوم الخلق هذا ، وأنَّ تجاوز هذه الحقيقة من قبل القوى الدولية المسيطرة والمتحكمة انسياقاً مع موازينها ومعاييرها ،وتجزئة كردستان بين أربع دول ، تندرج ضمن هذا السياق.
ومع ذلك لم يتمكن من تحقيق ماكان يصبو إليه إلاَّ بعد أن قررت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوربيون جعلِ كردستان العراق ملجأً آمناً .
فقد صرَّح الرئيس التركي أثناء زيارته لدمشق في يوم الإثنين 18 ـ 5 ـ 2009 م ، بأنَّ ” هناك استعدادات شاملة وجارية لحلِّ المسألة الكردية .
.
سموا ماشئتم هذه المسألة ، مسألة جنوب شرق تركيا ، أو المسسألة الكردية ، أو مسألة الإرهاب ، ولكن علينا حل هذه المسألة ، ويجب أن نجد عيوبنا ، ونسعى لإصلاحها .
” .
وبتاريخ 12 ـ 8 ـ 2009 م ، أكد أردوغان على برنامج حكومته بخصوص الإنفتاح الديمقراطي على المسألة الكردية في تركيا قائلاً : ” علينا أن نكوِّن ثقافة عامة مشتركة في تركيا ، تصبح رمزاً لجميع المكوِّنات التي تعيش في تركيا ، بغض النظر عن الانتماء العرقي ، ونحن عازمون على حلِّ المشكلة الكردية ” .
وبعد استلام أحمد داوود أوغلو حقيبة وزارة االخارجية ، طبَّق مقولته الشهيرة ” دعْ كلَّ الزهورِ تتفتح ” ، و ” إنَّ تركيا عليها أنْ تدشِّن سياسة خارجية جديدة تقوم على توفير استقرارٍ ليس فقط لنفسها ، لكن لجيرانها أيضاً ” .
وبذلك فتح أردوغان أشرعته وفق الرياح الدولية على الصعيد الخارجي والداخلي ، وأعلن من دون مواربة الإعتراف بالهوية الكردية وثقافتها .
وقد ترك هذا التحول العميق على الصعيد التركي الداخلي ارتياحاً واضحاً لدى الإتحاد الأوربي ، والولايات المتحدة الأمريكية .
وقد أظهرحزب المجتمع الديمقراطي الكردي في تركيا إزاء هذه التحولات مواقف مدروسة وواعية، منذ البدايات ، غير أنَّه بدأ يتلكأ ويتعثر ، ولم يستطع استغلال الفرصة ، ليمتطي الفرس التركي الجامح ، بهدف ترويضه ، وتثبيت وتعزيز توجهات حزب العدالة والتنمية ، واستقطاب االشارع الكردي حول مطاليبه القومية المشروعة ، وتطهير وعيه من لوثة التبعية ، والغيبية ، والتواكلية .
ولكن بدلاً من ذلك انسابت التصريحات ، وهدرت المواقف بالتعاطف مع زعيم حزب العمالي الكردستاني {يجب ألاَّ يفهم أنَّ زعيم حزب العمال الكردستاني لايستحق الدفاع عنه ، والمطالبة بإخلاء سبيله بل على العكس ، كان من واجب الطرفين معرفة خصوصيات المرحلة ، وعدم الخلط ، ودفع الأمور نحو التأزيم} ، وتبني اقتراحاته وآرائه ، ناسين أو متناسين ، أنَّ مثلَ هذهِ المواقفَ ـ وهم مازالوا في بداية الطريق ـ تستفرغهم من القدرة على القيادة ، وتعدم لديهم مهارات كسب الشريك ، وخاصة ، المنفتحين منهم على القضية الكردية.
وفي تلك المساحة الرمادية التي كانت تتطلب تكثيف النضال السلمي الديمقراطي الواعي والمدروس ، بهدف ايجاد روافع وحوامل لتوسيع دائرة الضوء الكردية ، لتشمل ، وتتغلغل بين ثنايا الوعي التركي بأكمله .
غير أنَّ الرياح التركية جرت بما لم تشتهيها الدبلوماسية الكردية البائسة .
فبدا زعيم حزب العمال الكردستاني من سجنه في جزيرة إيمرالي يحلل الوقائع السياسية ، ويُنظِّر لها ، ويصدر الأوامر ، ويرسم الخطط ، ويوزع الإرشادات .
وترافقاً مع ذلك أثارت قيادة حزب العمال زوبعة حول ماسمي ” بخارطة الطريق ” لزعيم الحزب ، ولم تكتفي بذلك بل أصدرت أوامر بتصفية عدد من جنود الأتراك ، معتقدة أنَّ بضعة بنادق في جبالٍ عاصيةٍ ستصنعُ ثورةً ، وأنَّ إطلاقَ الشعاراتِ المتوهجةِ ستُطعِمُ أيتامَ الشهداءِ ، وأنَّ قتلَ جنديِّ هنا أو هناك سيحررُ كردستان .
حتى بات المراقب والمتتبع لمجرى المشهد الكرديِّ في تركيا مقتنعاً بتبعية حزب المجتمع الديمقراطي تبعية مطلقة ، وصورة منسوخة لحزب العمال الكردستاني ، وبدا وكأنَّه مقودٌ من جبل قنديل ، ومن السجن ، لاقائداً يقود شعباً يتجاوز عدده العشرين مليوناً.
وقد أعطت المواقف المتتابعة الصادرة عن الأطراف الكردية ، إشارات واضحة ، وكأنَّ قيادة حزب المجتمع لاحول لها ولاقوة في المعادلة السياسية ، وهو ماأعطى الأوساط الطورانية الذريعة لحلِّهِ ، وحظرِ نشاطاته .
وتوافقاً مع الموقف الجديد ، راح أردوغان ينحني للعاصفة فأرسل وزير داخليته إلى بغداد لمطالبة حكومتها بالتعاون لإنهاء وجود قوات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل العراقية ، وإغلاق معسكراتها ، وتسليم كوادرها إلى تركيا ، نزولاً عند رغبات العسكر ، والقوميين العنصريين ، بهدف تهدئة جموح ثائرتهم ، وامتصاص نقمتهم وغضبهم ، والإستمرار في الوقت نفسه على نهج حكومته الداعية إلى الإنفتاح على القضية الكردية ، متجاوباً في ذلك مع المصالح الإستراتيجية التركية العليا .
وهذا مايجب أن يعلمه النخب الكردية المثقفة ، وخاصة أولئك المتأثرين بثقافة النظام في سوريا ، في كيل الإتهامات لأمريكا والصهيونية ، ناسين أننا مازلنا نجسِّدُ ونُمثِّلُ عصرَ ” الطوطمية ” بأجلى صورها.