الصراع في الحركة الكوردية السورية, بين تدويل القضية وعدم التدويل

(كل حقيقة بحاجة إلى جريء يفصح عنها- سيغموند فرويد)

جان كورد
10.08.2006

إذا ما نظرنا إلى تاريخ الحركة الكوردية “السورية”، وبخاصة منذ أول انشقاق في بارتي ديموقراطي كوردستاني – سوريا عام 1965، ذلك الانشقاق الذي اتخذ له واجهة آيديولوجية يسارية، فإننا نرى الصراع في هذه الحركة لم يقم يوما – في الحقيقة – على أساس آيديولوجي بحت، كما يحاول بعضهم تبرير ذلك الانشقاق، وما تلاه من انشقاقات وتفرعات أخرى على نفس المنوال، أو من قبل ذات المجموعات، لم تضر بمسار الحركة فحسب، بل جعلتها غير قادرة على تحقيق أي من أهدافها المعلنة حتى اليوم، رغم تاريخها المليء بالنضالات الكبيرة والتضحيات الجسام.
وكما يقول السياسي الأمريكي المحنك هنري كيسنجر في مذكراته المسهبة فإن التشدق الآيديولوجيليس إلا واجهة تخفي وراءها الاهتمام المستمر بتوازن القوى، فالواقع الذي كانت عليه حركتنا الوطنية الكوردية هو واقع الصراع على مراكز القوى بداخلها وعلى التحالفات الكوردستانية وعلى انتزاع أكبر عدد ممكن من الكوادر والهيئات الحزبية من الطرف الآخر في معادلة الصراع، كل ذلك في إطار من التسابق الآيديولوجي اليساري، الطفولي أحيانا، أو باقتناء وارتداء أزياء مزركشة، سرعان ما ينكشف عري حقيقتها الواهية، لدى البدء بالانشقاق التنظيمي التالي.
والغريب أن التحالفات الكوردستانية كانت تقوم بين طرفيساري مع طرف محافظ، بل كانت ذروة انتصار أي فصيل كوردي سوري هي اقامة علاقة كوردستانية بأسرع وقت ممكن، بغض النظر عن آيديولوجية الطرف الكوردستاني الآخر، يسارية أم يمينة…
أما اليوم فإن الحركة تعيش أجواء صراع آخر، خفت فيه حدة التشدق الآيديولوجي والتراشق المدفعي بالاتهامات إلى أدنى درجاتهما، إلا أنه صراع زوبعي قوي قد يقضي في النهاية على العديد من القيادات الكلاسيكية قضاء مبرما أو يحشرها في زاوية ضيقة أو يقعدها عن العمل، ولربما يكون الانتصار عكس ذلك من نصيب هذه القيادات المحتكرة حتى الآن لـ السلطة الكوردية !” غير الرسمية.

إنه الصراع بين التيار الكوردستاني الناشىء وبين التيار العامل على الغاء الطابع الكوردستاني للنضال التحرري القومي في غرب كوردستان.

إنه صراع بين الذين يعتبرون كوردستان مستعمرة دولية كما وصفها العالم التركي الاجتماعي الدكتور اسماعيل بشكجي وبين أولئك الذين لاينفكون عن إظهار القضية الكوردية في كوردستان سوريا كقضية داخلية بحتة يمكن حلها من خلال الحوار مع السلطة، أيا كانت، وبدون تدويلها مطلقا.

بجملة أوضح: إنه صراع بين التدويل واللاتدويل.
الجميع يتحدثون عن الديموقراطية ويحملون لافتات وأسماء ديموقراطية لأحزابهم ومنظماتهم، ولكن في الحقيقة فإن جسد الحركة الكوردية السورية يفتقر إلى الفيتامينات الأساسية للديموقراطية ومبادئها الواضحة.

ولايمكن دمقرطة مجتمع إنساني ما دون وجود وعي ديموقراطي وطليعة ديموقراطية منظمة وقوية ومؤمنة بالعمل الديموقراطي السليم
.

إلا أن نظام البعث السوري خلال حكمه الاستبدادي الطويل قد أضل كثيرا من البشر وأبعدهم عن طريق العمل الديموقراطي والوعي الديموقراطي.

وأعتقد بأن تجربتي المتواضعة داخل الحركة القومية الكوردية وعلى أطرافها وفي مراحل مختلفة، منذ أن كنت طالبا في الثانوية وإلى الآن تسمح لي بالقول بأن “التشدق بالديموقراطية شيء وما يجب عليه أن يكون التنظيم الديموقراطي شيء آخر”.
من المؤسف حقا أن تجد بعض رجالات الحركة الكلاسيكية وشيوخها المسنين، وكذلك أبطالها الجدد، يتحدثون بإسم الحركة دون علمها أو اذنها أو حتى استشارتها، يمتطون ظهرها ويحاولون تسييرها صوب تحالفاتهم الشخصية مع من يشاؤون، دون أن تكون لهم أي صلاحية أو تخويل بذلك، ومنهم من يعتبر نفسه أبا روحيا لها أو قدسا من الأقداس لمجرد أنه أمين عام لفصيل منها أو كان أمين عام، ويجعل حتى استقالته أو انشقاقه أو قيامه بنشاط في الشارع العام “منة” على الحركة… بل وصل الأمر إلى أن بعضهم لم يعد يقول:” أنا أرى هكذا أو أن حزبي يرى هكذا وانما يقول:” الشعب الكوردي يرى هكذا !” وهذا يذكرنا بقول فرعون مصر:”لا أريكم إلا ما أرى“… على الرغم من صعوبة التشبيه بين هؤلاء الأسياد الذين لم يحققوا أي شيء ملموس لشعبهم حتى اليوم وبين فرعون ذي الأوتاد الذي ترك على الأقل وراءه أهرامات وثروة سياحية ضخمة عبر العصور…
على كل حال، التيار الرافض لتدويل القضية الكوردية “السورية” لايزال ذا نفوذ بين الشعب الكوردي، يتقدم الولائم والتعازي والمجالس ومنصات الخطابة، يعقد الاجتماعات المشتركة للقيادات ويقابل رجالات النظام، يطالب بـ “الحقوق القومية والسياسية والثقافية للشعب الكوردي” ولكنه حذر بشكل عجيب ولايتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة من قبل النظام الحاكم قيد أنملة، ويعاقب كل واحد من منتسبيه إن تجرأ على ذلك.

هذا التيار يسعى لتجميد أي نشاط يستهدف تخطي أشعة الليزرهذه تحت ستار” الحفاظ على وحدة الصف الكوردي والقرار الكوردي والبيت الكوردي” إضافة إلى “المساهمة في تقوية أواصر الوحدة الوطنية والأخوة العربية – الكوردية ومراعاة الظروف الراهنة التي يمر بها الوطن المشترك“، ويتذرع بلقاءات حميمة مع مسؤولين ومسؤولات في النظام المنفتح على الشعب الكوردي، دون الاعتراف بأن هذا النظام لم يغير شيئا من نظريته العنصرية تجاه الكورد وكوردستان، وذلك في محاولة يائسة وبائسة لاعادة فكرة تدويل القضية الكوردية إلى الثلاجة عقودا أخرى من الزمن، بعد أن خرج العملاق من المصباح…
طبعا هنا استثناءات واضحة لفصائل تحاول جاهدة الخروج من القوقعة أو الشرنقة الحريرية وتنشط على الساحة الدولية، ولكنها مع التدويل سرا وضده علنا، تشارك في سائر المؤتمرات ولكنها ترفض التوقيع على أي وثيقة تستهدف تحريكا أكبر للقضية ، وتعلن منذ بداية أول اجتماع علنا وبقوة أنها لاتطالب “اليوم!” بتغيير النظام القائم في البلاد!
التيار الكلاسيكي الذي ذكرناه – خلا الاستثناءات- يجمع قواه الآن ويحاول اعادة تنظيم نفسه من خلال إيجاد “مرجعية قيادية مشتركة !” وعن طريق ابتكار المحاور واقامة العلاقات السرية على الصعيد الدولي وتحريك الدمى على المسرح الخارجي وتعديل خطابه الكلاسيكي إلى حد ما يهاجم أنصار التيار الآخر الذي يطالب ويعمل لتدويل القضية، كما لاينفك عن اتهام الخارجين عليه ومن ضمنهم هذه الاستثناءات المتمردة إلى حد ما على ال” مين ستريم” التيار العام…
أما تيار تدويل القضية فهو ضعيف، مشتت، ومتخاصم، بل تدخل فصائله باستمرار في معارك جانبية آنية صغيرة بين بعضها بعضا، ولكنه واضح الرؤية، حيث يرى بأن لاحل للقضية الكوردية “السورية” دون تدويلها ودون اقامة علاقات دولية قوية ، وبخاصة مع الأنظمة الديموقراطية العريقة والمنظمات الدولية القوية التأثير والنفوذ، وهي تعتبر النظام الحاكم في دمشق دكتاتوريا، ومثل قضية الشعب الكوردي في غرب كوردستان كمثل قضايا شعوب كوسوفو ومكدونيا والجبل الأسود وكرواتيا وسلوفينيا لن تحل إلا بعد تدويلها واخراجها من قبضة النظام البعثي الاستبدادي إلى الساحة الدولية…
هذا التيار لايملك إلا القليل من وسائل التأثير المباشر في الأوساط الشعبية لأن معظم كوادره ومنظماته ناشطة خارج البلاد، ولاتلقى أية مساعدة حاليا وعلاقاتها الدولية لاتزال في بداياتها، وكوادرها قليلة الخبرة سياسيا وديبلوماسيا ومن ناحية القانون الدولي..
إن محاولات التيار الكلاسيكي لعرقلة نشاطات هذا التيار الكوردستاني وصلت إلى حد العمل على افشال مشروع “المجلس الوطني الكوردستاني – سوريا” الذي بدأت به شخصيات كوردية سورية مستقلة وأحزاب كوردستانية سورية صغيرة، بحجة أنه عامل على بناء “مرجعية على قد الحال” داخل الوطن، ولايزال يعمل على تصفية أنصار تيار التدويل داخل المجلس الحالي الذي ولد ضعيفا حقا، وعلى الأخص الكوادر القادرة على تفعيل وتنشيط هذا المجلس، مستعينين في ذلك ببعض من يتقنعون بقناع كوردستاني زائف وببعض الذين يخوفون الشعب الكوردي من أخطار تغيير النظام البعثي الحالي، والذين تمكنوا من التسلل إلى داخل المجلس بعد أن انفضت الأحزاب الكلاسيكية عنه، بهدف افراغ المجلس من مضمونه ولمحاصرة تيار التدويل والناشطين من أجل تغيير حقيقي في البلاد.

ومع الأسف فإن الكوردستانيين في داخل المجلس وخارجه لم يفهموا بعد أهمية تقاربهم وتفاعلهم وتوحدهم ولم يشعروا بالخطر المحدق بهم وبأفكارهم بشكل جيد…
إنه صراع واضح في الحركة الكوردية السورية اليوم بين التدويل وعدمه…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…