بين الموقف المسؤول والقول الملتزم .. والأسماء المستعارة

عبدالرحمن آلوجي
  

تناولنا في مقالات سابقة دور الكلمة وأثرها المسؤول , وما تفعله في أفئدة وعقول الجماهير, وما لها من أثر متفاوت , قد يصل بعض الأحيان درجة الخلود في إبداع منقطع النظير , وبمقدار ما تملك من قوة وحركة وحيوية, ودفق حياتي , كما ركزنا على دور الكتاب والمثقفين, في إثارة القضايا الكبيرة, وإنارة العقول, ودفعها إلى الالتزام , وتبني القيم والمبادئ والتضحية من أجلها , وما لكل ذلك من أثر بالغ في الحركة السياسية ..إذ أن دور الإعلام المرئي والمقروء والمسموع – كسلطة مراقبة, ومحركة وناقدة – لا يقل عن دور الفكر والسياسة , بل يفعل الإعلام ما هو أكبر من مجرد مراقبة ودفع , إلى حركة تصحيح للمسار , ونقل الواقعة الجامدة إلى فعل حي من شأنه أن يبعث الطاقة, ويحرك الكامن , ويقود إلى بناء معالم فكر جديد, يحمل بذور الاستمرار, وقوة النماء, وقدرة الانبثاق إلى حياة عامرة بالنضج , ريانة بالعطاء ..
 وذلك حينما تكون الكلمة مسؤولة , والموقف سديدا , والقول محسنا ومقوما وقادرا على نقد بناء, بعيد عن المهاترة والمغالطة , والتشويش والتشهير , ليكون مرشدا وهاديا, يتحاشى الشتم والإقذاع , ويركب متن الباطل ومزالقه الملتوية, وحينما يتجنب البهتان والتزوير وتزييف الحقائق , ويبتعد عن تصيد الأخطاء وإخفاء المحاسن , ويضع نصب عينيه هدفا أنبل يحاول بلوغه , ويحاول الإرشاد إليه من خلال التقويم والتصويب, بلغة رفيعة , وبيان مقتدر, ومنطق متماسك, وأسلوب حي ومرن , بعيد عن الغلظة والفظاظة , في انعطاف يربأ بالفكر أن يتحدر إلى هاوية التشفي والحقد , وينجر إلى منطق الانتقام والكراهية, في انزلاق بائس إلى ذاتية الهوى الجامح, في حموة النيل من المنقود فردا أو هيئة أو جماعة أو حزبا , أو رادة أو قادة …

وحينما يأمن الناقد السياسي أو الناشط الاجتماعي أو الكاتب الملتزم , والمفكر الناصح عواقب ما يدفعه إلى التقويم و الثورة على الفساد , و بيان الخطل و الانحراف , لا بأس أن ينطق باسمه الصريح , فلا يستعير هذا الاسم أو ذاك ..

وهو من صلب الموضوع الذي أثارته المحاضرة التي ألقاها الأستاذ عبد المجيد درويش في قاعة د.

نور الدين زازا, و شن فيها حملة على الأسماء المستعارة و أهلها , و ما تنشره المواقع الالكترونية من كل هذا , و ما أعقبه من رد كتبه الأستاذ حسين عيسو , و ما دفع الأستاذ وليد حاج حسين (عبد القادر) من الرد على النقد المذكور ,  فكان لا بد من الوقوف على نقاط هامة :
1- إن مجرد الدخول بأسماء مستعارة لا يمكن – كما قال الأستاذ حسين – أن يكون معرة و خطيئة , بقدر ما يكون النقد الذي يختفي – بكل ملابساته – خلف تلك الأسماء , فإن كان النقد جادا و جريئا و منتجا , و بقدر ما يشكل خطورة على صاحبه , و تأثيرا على عطائه , نجد المبرر الموضوعي لهذا التخفي , و عدم الظهور بالاسم الصريح , و لكن الكلام الملقى على عواهنه – كما يقول الأستاذ الصديق وليد عن نقد الأستاذ حسين , و هو ليس كذلك , مع كامل احترامي له , كما أنه لا علاقة لنقده بتوقيع الكتاب للوثيقة المقدمة منذ فترة وجيزة , للتنصل من المهاترة والتشهير – هذا الكلام غير المسؤول , و النقد المنطلق من تشهير أو إغواء أو إثارة أو تجريح أو إهانة يفقد قيمته , سواء كان موجها إلى أفراد أو أحزاب أو قيادات..

أو كان باسم مستعار أو صريح , بل يصبح الاسم المستعار حينها , أداة سيئة و أمرا منكرا , و قبحا لا يحتمل , و قد رأينا – في البارتي, و في عمق خلافنا – نماذج قميئة من ذلك , لأشخاص اختفوا خلف براقع الأسماء المستعارة , و بأسلوب تشهيري أقل ما يقال عنه أنه مسيء و غير جاد و تشهيري بائس ..

و هو ما يوقع النقد في مزالق الهوى , و انحراف عن التصويب , و الدلالة على العيوب , التي ينبغي توقيها وتجنبها , مما يجعل في هذه الدلالة, إهداء ونصيحة لمن لم يدرك مواطن خطئه , كما يعد ذلك – لو كان موجها لحزب لم يتمكن من أداء دوره فائدة كبيرة يمكن الاعتبار بها , و قديما قيل ” رحم الله من أهدى إلي عيوبي ..” على أن تكون عيوبا حقيقية غير مصنوعة , أو مفبركة , أو هادفة إلى النيل و الإساءة , و بأسلوب حضاري لائق يعتمد المرونة و الهدوء و الحكمة و الجدل الحسن ..

و الموقف المسؤول ..

و قديما استعار كبار المصلحين أسماء و رووا حكايات على ألسنة الحيوانات خشية و تخفيا وتجنبا للبطش والتنكيل, و لا يزال هذا الأمر ساريا في كثير من بلدان العالم ..
2- أما بالنسبة للمواقع الالكترونية , فإنها متنفس حقيقي لنا جميعا – كما يقول الأستاذ حسين – و هي منابر إعلامية لمن (لا منبر له ..) من أمثالنا , و نافذة ينبغي الحرص عليها ودعمها , و عدم إثارة الزوابع في وجهها , و الأغبرة في وجوه الآخرين من خلالها , بالتزام الموقف المسؤول , و القول الفصل , و الرؤية النقدية البناءة و الناضجة ..

كما أن المطلوب من هذه المواقع – لتحترم رسالتها – أن تترفع عن نشر الأباطيل و الاختلافات و الترهات ..

سواء كان ذلك بأسماء صريحة أو مستعارة ..


و أن تتجنب النقد الهابط , و القول البذيء و العبارة الجارحة بحق الأفراد والهيئات والمنظمات  , فيما يسبب نفورا وإعراضا و يباعد و يزيد الشقة اتساعا بين المختلفين , و هو ما لا يحقق هدفا مسؤولا , و لا كلمة جامعة سواء كان ذلك على مستوى الأفراد على أهميتهم أم على مستوى الأطراف و القيادات كما أكدنا عليه.

وهي في ذلك تخرج من مسارها الطبيعي فلا تكاد تؤدي دورا في التعبئة و التوجيه , و إعداد الجماهير لتقبل التقويم و حسن الأداء , و الدفع بالموقف الحاسم , إلى أن تراجع الحركة مواقفها , و تبحث عن مخارج جادة لمعالجة أخطائها وعثراتها وجموحها وغرورها أحيانا , من خلال الكلمة المسؤولة , و التي تلعب دور الرقيب الحي , و الموجه و الناصح الأمين , و النقد المبدع ..


3- في رد الأمور إلى مواقعها الصحيحة , تبقى المواقع الالكترونية منبرا حيا و حرا , و إعلاما نشطا كما أشرنا, ومن أجل ذلك ينبغي أن يدرك القائمون عليها – في حدود إمكاناتهم و خبراتهم المتواضعة , و جهدهم الإداري العفوي – أن دور التوجيه و الإعداد و التعبئة لا يمكن الاستهانة به , كما أن التشنيع و تقبيح المواقف , و نشر الأضاليل لا يمكن أن تخدم الهدف المركزي للحركة , و للناقدين , و للكتاب الملتزمين , كفريق عمل متكامل من شأنه أن يحقق طموحات شعبنا , و أن يخفف من آلامه و أعبائه بشكل متآزر ومتعاضد ومتساند , بحيث لا تكاد الفجوة تتسع بمجرد نقد جريء أو موقف مصحح وصارم , وبخاصة في المسائل المبدئية , والقضايا التي لا يمكن المساومة فيها أو غض النظر عن تجاوزها , ومحاولة رفع ثقل الضغط عن  كاهل الكوادر النشطة والعاملة بهمة وإخلاص وثبات , مع بروز مختلف السياسات الاستثنائية , بشكل تتعاور الهيئات و الأفراد و المنظمات في بيان خطوطها , و توضيح وجوهها , و إثارة قضايا هي من أكبر اهتمامات الجماهير , ومن مستلزمات حياتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ..

مما هو مجال الكلمة المسؤولة , و الموقف الملتزم و الرؤية الجادة ..

4- لا يحق لنا – في الحركة الكردية – أن نمارس القمع , و لا أن نرتضي المواقف المرتجلة أيضا , بل ينبغي أن تدرك الحركة نواقصها أولا , و تبحث – بشكل جاد – عن تشخيص و تحديد هذه النواقص و عواملها و أسبابها , و أن تسأل – جادة أيضا – عن مواطن الخلل , و تسترشد في ذلك بالكتاب و المثقفين و الناشطين والوطنيين الذين يحترمون الموقف المسؤول , و الكلمة المؤثرة , و القول الصائب و الدقيق , و النقد المتوازن , فيتحقق التلازم و التحاور و التواصل , و تبتعد في ذلك عن مزالق التردي و الانحدار إلى اتهامات متبادلة , و مواقف متشنجة , و احتقان في الخطاب يزيد من أعباء و تراكمات الحركة , كما يعيق التحرك إلى معالجة الأخطاء و العيوب التي لا يمكن سترها أو الدفاع عنها , أو توهم العصمة , مع تزايد التشرذم و تضخم الانقسامات, و الترهل و التراجع التنظيمي الذي لا تكاد تخفى آثاره ..

ليأتي الموقف الإعلامي مبرمجا و منهجيا و بلغة نقدية عالية و منصفة , وهو ما نوهنا إليه مرارا , و أكدنا عليه في حلقات متواصلة في ” قواعد النقد و أصوله و مناهجه ..” , حيث لا تبقى إلا الكلمة الجادة , و الرؤية السديدة , و القول المبين و المثمر وهو جدير بالنشر بالاسم المستعار أو الصريح  ..

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الكردية السورية جُهوداً متقدمةً لتوحيد الصفوف من خلال عقد “كونفراس ” كردي جامع يضم مختلف القوى السياسية والمنظمات المدنية والفعاليات المجتمعية، بالتوازي مع الاتفاق المبرم في العاشر من آذار بين قائد قوات سوريا الديمقراطية وحكومة أحمد الشرع الانتقالية، تفاجأ المواطنون في مناطق “الإدارة الذاتية” بقرارٍ غيرِ مدروس ، يقضي برفع…

عزالدين ملا بعد ما يقارب عقد ونصف من الحرب والتشظي والخذلان، وبعد أن استُنزفت الجغرافيا وتفتتت الروح، سقط بشار الأسد كأنّه خريفٌ تأخر كثيراً عن موعده، تاركاً وراءه بلاداً تبدو كأنها خرجت للتو من كابوس طويل، تحمل آثار القصف على جدرانها، وآثار الصمت على وجوه ناسها. لم يكن هذا الرحيل مجرّد انتقال في السلطة، بل لحظة نادرة في…

إبراهيم اليوسف ليس من اليسير فهم أولئك الذين اتخذوا من الولاء لأية سلطة قائمة مبدأً أسمى، يتبدل مع تبدل الرياح. لا تحكمهم قناعة فكرية، ولا تربطهم علاقة وجدانية بمنظومة قيم، بل يتكئون على سلطة ما، يستمدون منها شعورهم بالتفوق الزائف، ويتوسلون بها لإذلال المختلف، وتحصيل ما يتوهمونه امتيازاً أو مكانة. في لحظة ما، يبدون لك من أكثر الناس…

د. محمود عباس   في زمنٍ تشتد فيه الحاجة إلى الكلمة الحرة، والفكر المُلهم، نواجه ما يشبه الفقد الثقافي العميق، حين يغيب أحد الذين حملوا في يومٍ ما عبء الجمال والشعر، ومشقة النقد النزيه، إنها لحظة صامتة وموجعة، لا لأن أحدًا رحل بالجسد، بل لأن صوتًا كان يمكن له أن يثري حياتنا الفكرية انسحب إلى متاهات لا تشبهه. نخسر أحيانًا…