قراءة في التحولات التركية – الكردية

صلاح بدرالدين

قد تبدو المراجعات الحكومية التركية المتسارعة للملف الكردي واعادة قراءته بنوع من الواقعية والانفتاح ومن ضمنها الاعلان عن مشروع  ( من دون الافصاح عن تفاصيله) لمعالجة القضية الكردية وعودة البعض من المنفيين والمطلوبين وبينهم مقاتلون في صفوف حزب العمال الكردستاني من دون التعرض لهم أمرا ملفتا للرأي العام داخل تركيا وخارجها ومثار اهتمام ومتابعة اقليمية ودولية بمزيد من الترقب لأن حكوماتها المتعاقبة منذ قيام الجمهورية – الكمالية –  في النصف الأول من القرن المنصرم قامت على فرضية – دفن القضية الكردية  – ودمج الكرد في بوتقة القومية السائدة كأتراك جبليين بشتى السبل بما فيها العنفية والتهجير وتغيير التركيب الديموغرافي واجراءات المنع عبر الدستور والقوانين
 في حين واذا كان لابد من تسجيل شهادة حق نقول أن محاولات ملامسة الحالة الكردية الآن من جانب القيمين على السلطة الحاكمة الى جانب التعاطي مع المأساة الأرمنية ولو بنوع من الحذر الا مظهرا متأخرا جدا – ليقظة ضمير – واعترافا غير معلن بخطل وخطايا نهج القوميين الترك بتجلياتهم المدنية والعسكرية ومنابتهم الاجتماعية ولبوسهم القوموية والاسلاموية خلال ثمانين عاما تجاه ما اقترفوه بحق شعوب وأقوام ومكونات وطنية غير تركية وفي المقدمة الشعب الكردي وما ألحقوا من أذى وأضرار بالوطن وبالشعب التركي بالذات واذا ما سار الانفراج سلميا حتى النهاية وقيض النجاح لارادة المصالحة الوطنية والحوار واستعادة الحقوق الكردية المشروعة لأكثر من خمسة عشر مليونا حسب مبدأ حق تقرير المصير فان ” تركيا ستعمل حينها لنفسها ولمصلحتها ” حسب أحد الاعلاميين ومهما تكن النتائج وعما سيكون عليه مآل المسار فان الحدث من حيث المضمون ورغم عمره الزمني القصير وتواضع انجازاته راهنا يستحق التوقف عنده لأنه تعبير بالغ عن حقائق جوهرية عميقة ومنها : 

 الأولى : القضية القومية الكردية في تركيا قائمة تفرض نفسها على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وعلى حاضر البلاد ومستقبلها تثبت حضورها في الساحتين الداخلية وبكل ما يتعلق بعلاقات تركيا الخارجية الاقليمية والأوروبية والدولية وأثبتت مسيرتها الدامية والمتعرجة عن فشل المعالجات العنفية واستحالة الحسم العسكري الدموي من طرفي المعادلة الذي لم يعد مقبولا تحت أي عنوان كان : من جانب الدولة العضوة في حلف الناتو مهما تعاظمت قوى الجيش والأمن عدة وعددا ومن جانب الحركات المسلحة وحرب الأنصار التي يمارسها عمليا منذ عقدين مسلحو ب ك ك والتي لم تعد تحظ بالدعم الشعبي الكردستاني والاحتضان القومي كما كان في السابق .
      الثانية :  ظهور بوادر عجز لدى قيادات ومؤسسات الأحزاب التقليدية الحاكمة منها أو المعارضة في المجتمع التركي في استيعاب ومواكبة أية حلول ديموقراطية للقضية الكردية في تركيا وتشتمل على القوى القوموية العلمانية السائرة في ركب الأتاتوركية ووارثتها الأوساط العسكرية – الأمنية وكذلك الجماعات الاسلاموية رغم تمايزها المظهري عن شقيقاتها الاخوانية والجهادية في بلدان المنطقة وبالمقابل صعوبة تحول قيادة ب ك ك الناشئة على العمل السري المقاوم والفردية والفكر الشمولي الاستئصالي للمخالف الفكري والسياسي الى محاور سياسي يتسم بالمرونة والتسامح والمضي الى آخر الشوط التحاوري بكل تعرجاته.
  الثالثة : التحول التركي – الكردي الناشىء الآن والسائر نحو آفاق السلام والمصالحة ليس ناجما عن فعل مشروع لحل رسمي للقضية الكردية من الوسط العسكري المشارك في الحكم من وراء الستار المعروف بسياساته العنصرية الى درجات الفاشية ولا عن برنامج حل اسلامي لمشكلة كردستان تركيا من الحزب الحاكم مقابل ذلك ليس ذلك التحول نتيجة خطة متكاملة مدروسة تحت السيطرة من جانب قيادة ب ك ك بثنائية مركزها الاشكالي بل هو من نتاج وصنع ومتابعة أجنحة فعالة في قوى المجتمع المدني التي أفرزتها العملية الديموقراطية البرلمانية والمحلية المتجلية تركيا بحزب العدالة وكرديا بحزب المجتمع الديموقراطي وما يتميزان من استقلالية نسبية الأول عن الجيش والثاني عن ب ك ك وما يمثلان شعبيا من طبقات اجتماعية واسعة من الصناعيين في مجال النفط والبناء وأرباب العمل والتجار الذين يرتبطون بعلاقات عمل وانتاج مع الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أوروبا ودول الجوار وبخاصة اقليم كردستان والطبقة الوسطى والمثقفين والأكاديميين وطلاب الجامعات وجمعيات حقوق الانسان والمرأة ومؤسسات الاعلام والمنظمات غير الحكومية الأخرى التي تتطلب مصالحهم الآنية والاستراتيجية تحقيق السلم والاستقرار في ظل نظام يؤمن شروط التعايش بين شعوب وأقوام تركيا وخاصة الأتراك والكرد ان هذا التحول التركي – الكردي بتجربته الناشئة يطرح بالحاح ضرورة التمعن واستخلاص الدروس والمزيد من المناقشات من جانب النخب الثقافية والسياسية في البلدان التي يتوزع فيها الشعب الكردي حول حقيقة وجدوى وامكانية ايجاد حلول سلمية للقضية الكردية عبر حركة المجتمع المدني ( الحل المدني ) التي تنبت في التربة الديموقراطية كخيار بديل لحالات الاخفاق والعجز التي تتكرر بكل مآسيها وكوارثها وآثارها المدمرة خاصة وأن  ثقافة المجتمع المدني في ظل الموجة العالمية تعود إلى الظهور في العقود الثلاثة الماضية، مصحوبة هذه المرة بدعوات الإصلاح والديمقراطية والتعددية والتداولية حسب المفكر العربي الدكتور ع – شعبان انطلاقاً من إمكانية أن تلعب مؤسسات المجتمع المدني، التي ينشئها الأفراد، دور إعادة صياغة المجتمع، أي قيام علاقة توسطية لتنظيمات المجتمع المدني غير مباشرة بينها وبين الدولة حسب غرامشي .


  الرابعة : السؤال الذي يطرح نفسه الآن على ضوء التحول الناشىء هو : هل يتم – حل تركي – للقضية الكردية بغياب حلول برنامجية – عربية – و – فارسية – لقضاياهم الكردية ؟ وفي ظل عدم استقرار الحل الفدرالي للقضية الكردية في العراق بسبب التردد العربي هناك هل ستكون تركيا أولا ؟ والجواب على ذلك وحسب المعطيات هناك مشروع تركي فيد الانجاز وضعه البروفيسور أحمد داود أوغلو المستشار والوزيروأن هناك مصلحة استراتيجية تركية في كسب ود اكثر من 40  مليون في المنطقة وتحويل الورقة الكردية من مستنزفة الى محايدة بل مفيدة ومنح تركيا موقع الريادة في التعاطي العقلاني الواقعي مع القضية الكردية في الشرق الاوسط تمهيدا للتمدد نحو تعزيز موقع الوسيط لحل مسالة الاقوام في العديد من البلدان منها فلسطين واسرائيل وبينها الاثنيات التركية المنتشرة من القفقاس وافغانستان وقبرص انتهاء بالصين وتتوفر عوامل مساعدة مثل الديموقراطية النسبية ووسائل الاعلام الحر وحرية منظمات المجتمع المدني والازدهار الاقتصادي ووجود اكثر من نصف كرد العالم في تركيا والموقع الغربي الأمريكي الأوروبي المؤثر بايجاب في السياسات التركية.



شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…