تُركيا تُجددُ أدواتِهَا السياسية والإقتصادية في ظلِّ العولمةِ . . !!

بابليسوك حسين
 

ماميز العثمانيين منذُ بدايةِ احتلالِهم لأسيا الصُغرى ، وحدةُ الموقفِ ، والتماسكِ في الرؤيةِ ، وقدرةٍ عاليةٍ في النشاطِ والحركةِ ، واستخدامِ العنفِ والقسوةِ في الغزواتِ ، واتخاذِ الأممِ والشعوبِ المغلوبةِ على أمرِهَا ، وثقافاتِها وعقائدِهَا مطيةً للوصولِ إلى تحقيقِ الأهدافِ .

وماإنْ تمددتِ الغزواتُ إلى قلبِ أوربا حتى شرعَ العثمانيون يقتبسون أفكارَ وتجاربَ أممِها وشعوبِها .

وقدْ استطاعَ الكثيرُ مِنَ المتنورين منهم تمثلِ مبادئِ ” العلمانيةِ ” وراحوا ينقلونَها إلى المدارسِ العسكريةِ ، وخاصةً بعدَ الثورةِ الفرنسيةِ ، إلى جانبِ المدارسِ الدينيةِ القويةِ والمهيمنةِ أصْلاً .
وقد أحدث هذا التفاعل فرزاً بين صفوف النخبة المتعلمة : ـ نخبة متنورة متأثرة بأفكار وثقافات الغرب .

ـ ونخبة متعلمة ظلت متمسكة بمنظومة المعتقدات الإسلامية .

وقد استفاد كمال أتاتورك فيما بعد من المقدمات الغنية التي تأسست قبل مجيئه بحوالي قرنين من الزمن ، وتمكن بذكاء فذ كأسلافه من ركوب موجة التناقضات بين الغرب الرأسمالي ، والشرق الشيوعي ، وعرف جيداً ” من أين يؤكل الكتف ” .

وبقيت تركيا ديمقراطية الممارسة ، علمانية التوجه { باستثناء تعاملها مع القضية الكردية في تركيا ، فكانت تتقن جيداً تغيير ” بنطال ” الديمقراطية ، وارتداء ” دشداشة ” الطورانية ، لتمارس في ظلها القتل والذبح والإبادات الجماعية بحق أبناء الشعب الكردي } .
وفي حقبة التسعينات التي شهد فيها العالم تحولات عميقة ، انعكست على مجمل الأصعدة ، وتسنمت فيها الولايات المتحدة الأمريكية المقدمة ، وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن تتغير التحالفات ، وتتبدل المواقع بهدف مواجهة المستجدات .

وكانت تركيا سباقة في ترتيب أوراقها الداخلية بوضع مقدمات منذ عهد أوزال وحتى زمن أردوغان عبرتدرج ذكي ، وارتقاء مرن وسلس بالدخول في مسار العولمة ، وتثبيت نفسها كأول دولة فاعلة ، وناشطة ، ومقبولة في رقعة ” الشرق الأوسط الكبير ” ، ولاعبة سياسية براغماتية ، تحرك أحجار ” اللعبة ” ، وفق مصالحها المنسجمة مع التوجهات العولمية العالمية .

ودأبت أوساطها السياسية على وضع صياغات جديدة لمسار سياساتها الخارجية ، والتوجه نحو العالم الإسلامي ، وأسواقها المتعطشة إلى صناعات وابتكارات وفنون لها نكهة إسلامية .
 ولكي تعزز هذا التوجه عارضت قيادتها فتح أجواء تركيا أمام القوات الأمريكية ، وعمقت علاقاتها مع معظم الدول العربية والإسلامية ، فتسنمت رئاسة المؤتمر الإسلامي ، وأصبحت مراقبة في الجامعة العربية ، وبذلك تحركت مصالحها عبر مسارين ، أولاهما : مسار إسلامي حاولت الحكومات عبره تنفيذ إجراءات فعالة على البنية الفكرية للنظام بهدف خلق أجواء من الثقة وبالتالي المصالحة مع تاريخها ومع محيطها .

وثانيهما : مسار علماني  حاولت النخب السياسية عبر الحكومات المتعاقبة من السعي الدؤوب لإقناع الدول ، والأوساط السياسية ، والإجتماعية الأوربية من الموافقة على ثبيت عضوية تركيا في الإتحاد الأوربي .
ولتعزيزهذا الموقف ، وتماشياً مع الرغبة الأوربية في تطبيق شروط ومقاييس الإتحاد ، ولاسيما في مجال حقوق الإنسان .

أسرعت في إدخال قضيتين مستعصيتين في دائرة الحلحلة ، وهما : ـ القضية الكردية : والتي  بدأت ملامحُ الإهتمام بها تطفو على السطح منذ أيام الراحل ” أوزال ” ، غير أنها دخلت  ” دائرة الضوء ” مع اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان ، وأُضيْئَتْ أكثر ، وفُهِمَتْ أبعادها بعمق بعد خطاب الرئيس الأمريكي الأسبق ” بيل كلينتون ” ، أمام البرلمان التركي ، وبعد جريمة الاعتقال ، والذي أكد فيه بأن ” العقدَ الأولَ مِنَ الألفيةِ الثالثةِ سيكونُ عقدَ الأكرادِ بامتيازٍ ” ، وكذلك التقاء الرئيس الأمريكي الحالي ” باراك أوباما ” أثناء زيارته الأخيرة لتركيا مع رئيس المجتمع الديمقراطي الكردي أحمد ترك .

ولِمَا لذلك من إشارات معبرة لتركيا بضرورة إيلاء الإهتمام بقضاياها الداخلية .

وكذلك النشاط الخلاق الذي اتبعته قيادة ـ حزب المجتمع الديمقراطي ـ على كافة الصعد ، وتمكُّنه من اكتساح وانتزاع رئاسة معظم البلديات في المناطق الكردية ، بعيداً عن لغة العنف والسلاح ، والإحتكام إلى صناديق الإنتخابات .
وبموازاة ذلك بدأت الحكومة التركية الحالية بقيادة رجب طيب أردوغان ، وخاصة بعد تعزيز موقع حزبه في الإنتخابات الأخيرة من الإنفتاح التدريجي والشجاع على القضية الكردية ، وتجاوز أسوار العسكر ، وحدود الأحزاب التركية المتطرفة .
القضية الثانية : وعلى نفس المسار ، استطاعت حكومة أردوغان من تجاوز ” عقدة المجازر الأرمنية ” ، التي حدثت أيام السلطان عبدالحميد الثاني ، وذلك من خلال اتفاق تم بموجبه إقامة علاقات دبلوماسية ، وفتح الحدود بين الدولة التركية ـ والأرمنية .

والعمل على تبييض صفحتها المدماة على إثر مجازر طالت مئات الآلاف من أبناء الشعب الأرمني في تركيا عام ألف وتسعمائة وخمسة عشر .
إن الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها ” الحكومة الأردوغانية ” ، أثبتت ، مرة أخرى عن ” ديناميكية ” بارعة ، ووعي حضاري فذ ، لأنها حققت بذلك ثلاث قفزات نوعية عبر فضاء ” العولمة ” :
ـ الأولى : تمكنت هذه الحكومة من سحب الذريعة من أيدي دول نافذة في الإتحاد الأوربي مثل فرنسا وألمانيا ، الممانعتين دخول تركيا الإتحاد الأوربي بسبب خروقاتها المستمرة في مجال حقوق الإنسان .

كما وعززت مكانتها الإقتصادية في السوق الأوربية المشتركة .
ـ الثانية : وتماشياً مع العولمة واستحقاقاتها ، واطروحاتها القائلة : ” بأَنَّ اِرتفاعَ المدِّ يَرْفَعُ جميعَ القواربِ ، وَأَنَّ بعْضَ القواربِ المثقوبةِ ، لابُدَّ أَنْ تغرِقَ ” ، لم تشأ النخب السياسية التركية ترك قواربها ” لمشيئة القدر ” لإغراقها ، بل زادت من تعميق علاقاتها مع الدول العربي والإسلامية ، وحققت في المرحلة الأخيرة ” ضربة معلم ” عبر ضمانها الإستئثار ” ببوابتين ” ، استراتيجيتين ، وهما البوابة السورية ، والبوابة العراقية ، والمطلين على عالم يزخر بالنفط ، والزراعة ، والأسواق المتنوعة .
 ـ الثالثة : وعلى اعتبار وقوع تركيا على ” حدود التصدعات ” العولمية ، أسرعت بحلحلة وضع ملفاتها الخارجية والداخلية ، فقوَّت بذلك جبهتَها الداخليةِ ، وأمَّنَتْ على ثباتِ جدرانِها أمامَ ” الفوضى الخلاقة ِوذيولِها ” المتغلغلة ، والمتحركة بين ثنايا ومفاصل الشرق الأوسطِ ، مبتعدةً بذلك عن ” دائرةِ النَّارِ ” ، لتُثبِتَ نفسَها كدولةٍ جديرةٍ بالحياةِ .
 وإزاء هذا ” الفعل السياسي ” الخلاق من قبل النخبة السياسية التركية في التعامل مع المستجدات .

هل يمكن للنخبة السياسية الكردية في تركيا أن ترتقي ” بفعلها السياسي ” لتوازي لِما يجري حولها ؟ .

الأيام القادمة ستجيب على هذا السؤال الذي يراود ذهن خمسين مليون كردي في الداخل وفي الشتات !!.

     24 ـ 10 ـ 2009

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين تمر سوريا بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية مُعقّدة ، يجد الإنسان السوري نفسه في ظلِّها أمام تحدّي التوفيق بين هوياته المتعدّدة. فهو من جهة ينتمي إلى الوطن السوري، وهو الانتماء الجامع الذي يحمل الهوية وجواز السفر والشهادة ، ومن جهة أخرى، يرتبط بانتماءات فرعية عميقة الجذور، كالقومية أو العرق أو الدين أو الطائفة. ويخلق هذا التنوّع حالة من…

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…