التغيير والتجديد في قوام الأحزاب..!

دهام حسن

إن التغيير والتجديد في القيادات والكوادر الحزبية، وتقديم أصحاب الكفاءات والقدرات على الصعيد الفكري والعملي السياسي، هو سمة أي حزب حيّ، بغية مواكبة المستجدات، وما تطرحه الحياة من قضايا عديدة وشائكة، تستوجب نظرة جديدة ومتجددة على الدوام، فقضايا اليوم لا تعالج بعقلية الأمس، فلا بد من تجاوز حالات الوهن والركود والروتين، لا بد من بث الحيوية والدم الجديد في جسم الحزب أي حزب كان..


لكن علينا أن نعي أن مثل هذا التجديد لا يتم وفق أجندة يجود بها عقل إنسان ما، بل لا بد من توافر أسباب أخرى في مقدمتها أجواء من الديمقراطية يعيشها الحزب في حياته الداخلية التنظيمية، والمجتمع أيضا لا بد له أن يكون قد بلغ طورا من النضج والتطور، فتحرّر بالتالي شيئا ما من العقلية العشائرية والتصانيف التراتبية، وأصبح مهيئا لتقبّل الفكر الحزبي والنضال السياسي، يجمع بين أطياف ومشارب مختلفة، تتضافر جهودها لأهداف استراتيجية أو تكتيكية متفق حولها ضمن إطار الحزب كحاضنة للجميع….

 وهنا لا بد أيضا من توفر قدر من الديمقراطية متاحة من لدن سلطة الدولة الحاكمة، فمع الدولة الاستبدادية أو الأمنية  – للأسف – تختلط كل الأوراق، فما أتينا عليها من رؤى تصبح عرضة للاهتزاز، والحالة المرجوة تغدو غير متماسكة جرّاء تدخّل السلطة في حياة الأحزاب بوسائلها المرئية وغير المرئية، وهذا لا يخفى على أي متابع في الشؤون الحزبية والسياسية..

وأيضا فإن التغيير في قوام الحزب ينبغي ألا يتم بشكل ميكانيكي، كشكل من الاتفاق المسبق على تغيير القيادات، جاء دوري، إذن (قم لأقعد مكانك)  فهنا لا بدّ من رويّة وتأنّ، فإيجاد الكوادر الحية وإيصالها لتبوّء المراتب القيادية لا سيما السكرتير الأول ليس بالأمر السهل، وبالتالي تغييرها ميكانيكيا كما نوّهنا يضرّ أكثر مما ينفع، كما لا ينبغي أن يتم التغيير بعيدا عن الحالات الطبيعية في حياة الأحزاب، بل لا بد أن يتم هذا بأصول حزبية وفق ما يرسمه ويقرره النظام الداخلي، لا في حالات الشللية والتسقيط الكيدي والتواطؤ، ويمكن هنا أن يلعب القائد الأول الدور الإيجابي في حياة الحزب بخلق مناخات ديمقراطية يقتنع بها، فيرتاح هو، ويريح الآخرين بالتالي، وقبل كل شيء يريح الكوادر الانتهازية الملتفة حوله إرضاء لذاتيته المفرطة وأنانيته المتضخمة، هذا ما نلمسه عند بعضهم على الأقل، والقائد الحزبي يدرك كل ذلك، سواء أكانت استجابته للتغيير سلبا أم إيجابا، إن حكر السكرتير الأول لقيادة التنظيم، وحصر كل الأمور في شخصه بصورة مطلقة مثلبة كبيرة، بل مفسدة مطلقة، وهنا قد يبدأ السكرتير بالمراوغة، وانتهاز الفرص، واغتنامها لمصلحته الفردية، واللامبدئية في المواقف، حتى يصل الأمر ببعضهم التعاطي مع المشبوهين، الذين ترى واحدهم كالفيروس يتنقل من سكرتير لسكرتير، (فيروس القيادات) والخنوع والإذلال أمام الأمر الواقع، حفاظا على موقعه ولو كان ذلك على حساب وسمعة الحزب، يقول تروتسكي إن (الذي ينحني أمام الأمر الواقع ليس أهلا أن يخطط للمستقبل)…

ولمجانبة كل هذه المحاذير لا بدّ للحزب المعني أن يعيش حياته الداخلية الطبيعية، وأن تلعب المؤسسات الحزبية دورها الكامل بكل حرية واستقلالية نسبيا، دون أن يلقي القائد الأول بكلكله على كل الهيئات، ويفرغها بالتالي من مضامينها، فالحزب أي حزب كان، يستوعب جميع الأعضاء، وبالتالي لكل عضوّ دوره واهتمامه في شكل العمل والنضال يسند إليه، وعلى كل عضو أن يعتد بنفسه وأن يعد ذاته قائدا ومسؤولا في حزبه، والكادر الجيد والكبير يبقى كبيرا، ويبقى قائدا وإن صغرت هيئته ومرتبته الحزبية، فهو يكبر بحزبه وبقدراته ونشاطه وبعلاقاته وبسلوكه..

 بإمكان الحزب أن يجد لكل عضو مجالا ينشط فيه، ويوائم اهتمامه، فيتم توزيعهم حسب قدراتهم واهتماماتهم على تلك الهيئات وفق رغبات أصحابها، أو أخذ الرغبة بالحسبان على أقلّ تقدير… فالمكاتب الحزبية من المكتب السياسي، فالتنظيمي، فالمالي، فالعلاقات الخارجية..إلخ ينبغي أن تلعب هذه المكاتب دورها كمؤسسات تتمتع بصلاحيات واستقلالية، بحيث لا يلقي القائد الأول بردائه على كل هذه الهيئات، ويفرغها بالتالي من محتواها..

 إن تقييد المسؤول الأول بهيئته الحزبية، خير من أن تطلق يده بالتصرف في شؤون الحزب، حسبما يحلو له، كما أن تأبيد القائد الحزبي كأمين عام أو سكرتير أوّل، طامة كبرى في حياة أي حزب كان، فيسدل هذا السوبرمان بدكتاتوريته على شمل الحزب، ويأخذ بتلابيبه، بحيث لا يدع أعضاءه يتنفسون، وكثيرا ما يزرع الفتنة في القيادة، وفي الحزب حتى يظل بمنأى من قدرة حزب قوي متماسك قادر على المساءلة والمحاسبة، فيصنفهم كطرفين متعاركين في فتنة لا أساس لها، فيضعف بهذا الحزب، وتتأسف جماهير الحزب من هذا المنحدر الذي آل إليه الحزب، أما هو أعني السكرتير الأول فقد يكسب هو مقعده الأمامي من أية منافسة، لا يهمّ بالتالي ولو على خازوق…..

 وهنا الكادر الضعيف الذي لا تنطبق عليه صفة الكادر يعلن ولاءه المطلق للقائد الحزبي بخنوع، فيمتثل لأوامره، ويبدي له واجب الحبّ والطاعة والانقياد الأعمى، فهو في داخله منهزم، فمثل هؤلاء الكوادر المستضعفة في حضورها أي محفل، يسيرون خلف قائدهم، كالأيتام، يعتريهم الخجل، فينظر واحدهم بعيون القطط للمآدب عندما يسيل لعابها وتثار شهيتها، إلى أن ترمى لها عظمة ما فتهدأ وتسكت، وتبطل المواء (النونوة)…

أما الكادر الواعد يتململ بحيرة، وكأن لسان حاله يقول: (ماالعمل.؟)..

فيصبح هو بين فكي كماشة، غيرته وحرصه على وحدة حزبه وخشيته من التشرذم والتقسيم هذا من  جهة، ومن جهة ثانية، أنانية السكرتير الأول وعدم ائتمانه وأفاعيله المضرة بالحزب في المحصلة، يبقى هذا الكادر الغيور في هذه الدوامة، ولا يدري واحدنا ما الخاتمة، وإن كان  الكثير منا يتكهن بالخواتيم في مثل هذي الحالات..!

 أما المكاتب والمؤسسات التي أتينا عليها فتصبح تحت إبط القائد الأول دون أية فاعلية… فتنقّله هو مكتب العلاقات الخارجية، وعقله هو المكتب المختص بالشؤون السياسية والفكرية، وجيبه هو مكتب مالية الحزب، وأي إيماءة أو إيعاز منه هو المكتب التنظيمي، وهكذا..

 هذه هي الطامة الكبرى التي أتينا عليها قبل قليل، في حياة أي حزب ينحدر لهذا الدرك من التنظيم..

إن تأبيد السكرتير الأول يعني فيما يعنيه دفع الأعضاء للصلاة خلفه..

فمن الأعضاء من يرى مكانه في مثل هذه الأجواء، فتقربه وتودده وتزلفه للسكرتير الأول قد يكسبه مقعدا متهرئا لا يغني ولا يسمن، فالساقط اجتماعيا لا يمكن أن يكون ناجحا حزبيا، هذا ما علمتنا مدرسة الحياة، وتأبيد السكرتير الأول يدفع بالكادر غالبا للأسف، إلى روح من الانتهازية هو بغنى عنها لو عاش الحزب حياته الطبيعية..فالقائد الجيد الحريص على حزبه وتاريخه كشخص، يحتاط بالكادر الجيد، والمثقف المتمتع بمصداقية فضلا عن تمتعه بقدر من الثقافة، أما القائد الأناني فاقد المصداقية، فتلتف من حوله الكوادر الضعيفة كسياج لنمر من ورق، وهنا القائد بدوره يسعى وراء مثقفين ضحلي الثقافة جائعين مساكين، لجذبهم وتدجينهم،  فقط للإطراء على شخصه السامي..

 
 أحد الأحزاب الكوردية أدخل في نظامه الداخلي ما فحواه ضرورة تغيير السكرتير الأول بين مؤتمر وآخر، وطبّق ذلك في حياته التنظيمية، فلم يقتد به أيّ حزب..ترى لماذا لم تناقش هذه السنة أو السابقة عند الأحزاب والتنظيمات الكردية الأخرى..؟ طبعا الجواب ليس عندي، علما أني كما قلت في بدايات مقالي  لست مع التغيير الميكانيكي للأمين العام ولا للكوادر القيادية، لكن يظل التغيير والتجديد هو السمة العملية لأي حزب يرغب في تطوير وسائله الحزبية والنضالية..

 أما تأليه القائد الحزبي، فمكتوب على هكذا حالات بالاحتضار والموت البطيء للحزب وللقائد الأول، والذي لا نتمنى لجميع القادة الأخيار غير الصحة والعافية ومع استمرار  النضال ومزيد من العطاء، ويبقى التاريخ هو الشاهد والحكم الأخير لتقييم مسيرة الأحزاب والقادة…   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…