تركيا الجمهورية الأولى والديمقراطية الأخيرة

صبري رسول

يبدو أنّ تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية بدأتْ تقتنع بأن العمل العسكري غير مجدٍ في التّعامل مع مسلحي الكرد، ولم تعُد قادرة على إقناع مواطنيها بأنّ مسلحي الحزب العمال الكردستاني عبارة عن عصابات وقطاع طرقٍ، وتوصَّلَتْ قيادة الجيش التركي خلال معاركها الدامية والفاشلة منذ ربعِ قرنٍ إلى حقيقة أولئك المسلحين الذينَ يستمدُّون قوتهم من قوة الحقّ لشعبهم، التي ظهرت من سياسات تركيا الخاطئة تجاه الشعب الكردي، القاضية إلى طَمسِ حقائق وجود هذا الشعب والتغير الديمغرافي في كردستان.

الموقفُ التركيُّ الذي بدأ ينحو باتجاه الحقيقة ولو بتباطؤ خجول ناتجٌ عن الإرهاصات السياسية في عهد توركوت أوزال وإدراكه بضرورة الحل السلمي الديمقراطي للقضية الكردية، لكن نتيجة التعجرف العسكري المهيمن على السياسة التركية التي رسمها العسكر الانقلابيون،( وآخر انقلابٍ عسكري مباشر جاء من كنعان إيفرين 1981)، لم يستطع أوزال التحرّك في الاتجاه السياسي الصّحيح.
وقادة حزب العدالة والتنمية ربما استفادوا من تجارب الآخرين واقتنعوا بأهمية الحل السلمي الذي يضع حداً للعنف وإراقة الدماء، ويُخرجُ تركيا من دوامة التخبط العسكري والسياسي، بعد فشل العسكر في القضاء على نفوذ (الكردستاني) المتغلغل في الأوساط الشعبية الكردية، وتكبيد تركيا خسائر مادية هائلة عرْقَلَتْ النمو الاقتصادي وسبَّبتْ أزمات اقتصادية متلاحقة وربما لن تكون آخرها الناتجة عن الأزمة العالمية.

والنيات الحسنة لقادة تركيا غير كافية، فلا بدّ من ترجمتها إلى قرارات سياسية جريئة تمنح الكرد حقوقاً سياسية(من دون خداع) تجعلهم شريكاً متساوياً مع الترك في وطنٍ واحد، وتنفيذها من خلال آلياتٍ تمكّن الشعب الكردي من ممارسة حقّها في الوجود وفي صنع القرار من أجل تركيا المتسعة للجميع.
والسؤال الذي سيتحيّر أمامَه قادةُ تركيا هو: هل يمتلك هؤلاء القادة الجرأة الكافية في وضع خارطة طريق لحل القضية الكردية لإنقاذ تركيا من مأزق الاحتراب التركي – الكردي منذ بداية العقد الثالث من القرن الماضي؟ تلك الخارطة التي ستكون اختباراً ومقياساً لديمقراطية تركيا، وحلاً وحيداً لإخراج تركيا من أزماتها السياسية والاقتصادية، وجوازَ سفرٍ لها إلى الاتحاد الأوربي.


من حقّ المراقب السياسي أنّ يشكّ في مصداقية حزب العدالة والتنمية، كما من حقّ الكرد ألا يصدقوا كلّ التصريحات الأخيرة بهذا الصّدد، لأنّ قادة الحزب الحاكم كانوا حتى أمسٍ قريب يقودون جيوشاً جرارة إلى غزو كردستان العراق للقضاء على مسلّحي(pkk)  ومازالوا إلى اليوم يصفونهم بالإرهابيين وقطاع طرق، وإلى هذه الساعة تقصف المدفعية التركية قرى كردستان العراق؛ ربما يحقّ لبعضهم التساؤل: نجد رئيس جمهورية تركيا يهنّئ القرويين بعودة التسمية الكردية لقراهم، وثمّة معاهد كردية أُنشِئَتْ هنا وهناك، وقناة فضائية تبثُّ برامجها باللغة الكردية، في حين كان المعتقلون الكرد يُجْبَرون على رفعِ الهتافات الداعية بحياة جمهورية أتاتورك، وإلى ترديد الشعارات الطورانية باللغة التركية في السّجون، إضافة إلى محاكمة برلمانيين كرد والحكم عليهم بالسجن لأدائهم  القسم بلغتهم الكردية، في البرلمان التركي، أليس هذه المفارقة بين الأمس القريب واليوم تشكّل بداية الحل؟
نعم، ثمّة متغيرات سياسية في تركيا، وبدأت رؤية أخرى لقادة تركيا ولمعظم القوى السياسية النشطة، حتى جنرالات عسكرية سابقة بدؤوا يغيّرون مواقفهم السابقة- باستثناء حزبي (القومي التركي و الشعب الجمهوري) العنصريَيْنِ- هذه الرؤية الجديدة لحكام تركيا تختلف عمّا كان عليه في عهد الجنرالات، لكن القضية الكردية أكبر من قناة فضائية تديرها الحكومة، ومعهدٍ غير مرخّص، فلا يمكن اختزال قضية شعبٍ يزيد عن عشرين مليوناً بحقوقٍ ثقافية باهتة مع غضّ النّظر عن المتحدثين بلغتهم.
القضية الكردية ملفٌّ شائك للغاية، فيها تراكمات تاريخية ساهم في صنعها كثير من الدول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، ومؤتمرات(سيفر ولوزان) وتبلورتْ بدماء عشرات الآلاف من أبناء الشعب الكردي بدءاً بثورة الشيخ سعيد بيران 1925، وحتى الآن.

التّوجّهُ التركيُّ للحل بمعزل عن أصحاب القضية ضربٌ من المندل، وعودة غير حميدة إلى مربع (1921وعصبة الأمم) وبداية حقيقية لنهاية جمهورية أتاتورك.

فحلّها يتطلب الاعتراف الدستوري بشراكة الكرد في وطنهم، والسماح للمسلّحين بالعودة إلى بلادهم وأهليهم، وإشراكهم في الحياة السياسية، وفتح مفاوضات مباشرة مع القوى السياسية الكردية، والعمل المكثف على تنمية كردستان اقتصادياً واجتماعياً، مع تعويض النازحين عنها.

تلك بدايةٌ حقيقة للحلّ، ومفتاحٌ لخارطة الطريق نحو تركيا متعددة القوميات، ديمقراطية ومزدهرة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…

بوتان زيباري   في قلب المتغيرات العنيفة التي تعصف بجسد المنطقة، تبرز إيران ككيان يتأرجح بين ذروة النفوذ وحافة الانهيار. فبعد هجمات السابع من أكتوبر، التي مثلت زلزالًا سياسيًا أعاد تشكيل خريطة التحالفات والصراعات، وجدت طهران نفسها في موقف المفترس الذي تحول إلى فريسة. لقد كانت إيران، منذ اندلاع الربيع العربي في 2011، تُحكم قبضتها على خيوط اللعبة الإقليمية،…