«المشاهد السياسي» ـ لندن
الاعلان حتى الآن عبارة عن «مبادرة» يتمّ تداولها همساً في الساحة التركية، من أجل وضع «حلّ جذري» للخلافات مع الأكراد، و«خطّة سلام» هي بمثابة «خارطة طريق» للمصالحة مع تركيا، أعدّها عبد الله أوجلاّن في سجنه، تتضمّن ثمانية مقترحات رئيسية، والكلام يتزايد على تحوّل تاريخي كبير حيال القضيّة الكرديّة سوف تظهر ملامحه في الأسابيع المقبلة.
ما قصّة هذا التحوّل؟
الاعلان حتى الآن عبارة عن «مبادرة» يتمّ تداولها همساً في الساحة التركية، من أجل وضع «حلّ جذري» للخلافات مع الأكراد، و«خطّة سلام» هي بمثابة «خارطة طريق» للمصالحة مع تركيا، أعدّها عبد الله أوجلاّن في سجنه، تتضمّن ثمانية مقترحات رئيسية، والكلام يتزايد على تحوّل تاريخي كبير حيال القضيّة الكرديّة سوف تظهر ملامحه في الأسابيع المقبلة.
ما قصّة هذا التحوّل؟
رغم عدم إعلان أنقرة رسمياً عن تفاصيل المبادرة، فإن بعض عناوين الخطّة ظهر في خطاب رجب طيب أردوغان الشهير في ديار بكر (٢٣ تموز/يوليو ٢٠٠٥) عاصمة كردستان تركيا، حين اعترف بأن الدولة التركية ارتكبت أخطاء في حق الأكراد آن الأوان لتصحيحها، في إطار مفهوم جديد للهويّة القوميّة يستند الى الحقيقة القائلة بأن تركيا متعدّدة الأعراف والأديان.
جديد للهويّة القوميّة يستند الى الحقيقة القائلة بأن تركيا متعدّدة الأعراف والأديان.
وفي تقدير بعض الأوساط أن المؤسّسة العسكرية التركية لا تزال تتحفّظ على هذا الطرح، ويمكن أن تتّخذ من هذه المبادرة ذريعة لاستهداف حزب العدالة والتنمية، والأمر يتوقّف الى حد كبير على مدى نجاح الحزب في الحصول على مساندة الرأي العام التركي.
والوقائع التي يتمّ تداولها حتى الآن تتضمّن النقاط الآتية:
* ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: ناقش بعض الأكاديميين والصحفيين والمفكّرين الأتراك المسألة الكردية والحلول الممكنة لها، في مقرّ أكاديمية الشرطة التركية في أنقرة، وتمّت المناقشات بإشراف وزير الداخلية التركي بيسير أتالاي.
* ٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: قام الشاهد السرّي الثالث في قضية سيمال تيموزو، قائد كتيبة جندرمة محافظة كيساري، المتّهم بالتوّرط في الاغتيالات وعضو التنظيمات الكردية السرّيّة المسلّحة، بسحب شهادته أمام المحكمة، ووصف الخبراء هذا الاجراء بأنه صفقة تهدف الى تمهيد المسرح التركي لقبول المبادرة التركية وتمريرها، طالما أن الاستمرار في القضية سيترتّب عليه توريط زعماء حزب المجتمع الديمقراطي، إضافة إلى إثبات ارتباطاته السرّيّة مع حزب العمل الكردستاني، وهو أمر لن تترتّب عليه محاكمة زعماء المجتمع الديمقراطي، وإنما قيام المحكمة الدستورية العليا بحلّه وحظر نشاطه، إضافة إلى طرد نوابه من البرلمان، الأمر الذي سيضعف أغلبية التحالف الذي يقوده حزب العدالة والتنمية من جهة، ويعزّز من الجهة الأخرى موقف القوى المعارضة داخل البرلمان التركي، وعلى وجه الخصوص حزب الشعب الجمهوري.
* ٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: بدأت أنقرة تواجه بعض الضغوط الداخلية على خلفية محاكمة عناصر شبكة أرغيناكون، وضغوط خارجية بوساطة رئيس جمهورية شمال قبرص محمد علي طلعت الذي عقد لقاء مع ألكسندر داونار مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى قبرص، وأيضاً بوساطة الجنرال فوغ راسموسين (الدانماركي) الذي سبق أن سعت تركيا الى عرقلة تولّيه منصب أمين عام حلف الناتو، لكنه تولاّه بعد زيارة الرئيس أوباما الأخيرة أنقرة.
وقد طالب راسموسين فور تولّيه منصبه، تركيا، بضرورة القيام بالمزيد من الاجراءات لبناء الثقة في الداخل والخارج، وكذلك فإن حلّ المسألة الكردية هو أحد الشروط المطلوبة بوساطة المفوضية الأوروبية.
* ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه يرى أن هناك فارقاً كبيراً بين حزب المجتمع الديمقراطي، وحزب العمال الكردستاني.
وأضاف أنه سيلتقي رسمياً ممثّلي حزب المجتمع الديمقراطي للتفاهم حول المسألة الكردية.
* ٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: عقد رجب طيب أردوغان اجتماعاً رسمياً في مقرّ البرلمان التركي، مع ممثّلي حزب المجتمع الديمقراطي، لمناقشة مشروع المبادرة التركية التي أشرفت على إعدادها الحكومة التركية.
* ٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: عقد أردوغان لقاء مع رئيس الوزراء الروسي بوتين، ورئيس الوزراء الإيطالي سلفيو بيرلوسكوني، وفي الوقت نفسه عقد الرئيس التركي عبد الله غول لقاء مع رئيس الوزراء العراقي السابق إبراهيم الجعفري، لمناقشة الموقف العراقي، وفي الوقت ذاته كذلك عقد السفير الأميركي في تركيا جيمس جيفري لقاء مع أعضاء حزب المجتمع الديمقراطي لمناقشة محتوى المبادرة التركية.
* ٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: عقد أردوغان اجتماعاً مطوّلاً مع الوزراء من أعضاء مجلس الأمن القومي التركي لمناقشة المبادرة التركية.
وتأسيساً على ذلك، جاءت ردود الأفعال التركية الأولى رافضة المبادرة، من حزب الشعب الجمهوري والحزب القومي التركي اللذين أكّدا أنهما سيعملان من أجل الآتي:
ـ إسقاط المبادرة داخل البرلمان التركي.
ـ شن حملة سياسية ضد المبادرة، باعتبارها تشكّل خطراً يعرّض وحدة الأمّة التركية للانقسام.
وحتى الآن، تتلاقى المؤسّسة العسكرية أو بعض أطرافها على الأقلّ، على رفض هذا التوجّه، الى جانب حزب العمل القومي والحزب الجمهوري.
لكن رجب طيب أردوغان يصرّ على دمج الأكراد بصورة كاملة في بنية الدولة التركية، ووضع حد للعنف الكردي الذي يثير بدوره عنفاً تركياً.
وفي هذا السياق، يقول عدد من الخبراء في العلاقات التركية ـ الكرديّة، إن تركيا رصدت في الفترة الأخيرة تطوّرات ميدانية في مناطق التماسّ بين إقليم كردستان العراق ومناطق الوسط العراقي، تنذر باحتمالات تفجّر حرب أهليّة جديدة وشيكة بين العرب والأكراد، بعدما بلغت الخلافات بين أربيل وبغداد ذروة جديدة من التوتّر، ومن شأن العودة الى الحرب الأهليّة إحداث بلبلة حقيقية في الداخل التركي وفي منطقة كردستان تركيا بصورة خاصّة.
ويبدو أن التحرّك التركي الجديد يأخذ في الاعتبار مجموعة عوامل ضاغطة لعلّ أبرزها:
* عامل الانسحاب الأميركي المحتمل جدّاً من العراق، الذي سوف يبلور مشهداً سياسياً وأمنيّاً متحرّكاً، على أساس توازن القوى بين شيعة الجنوب، سنّة الوسط، وأكراد الشمال.
* عامل النزعة المركزية الكردية والتشدّد الإتنو ثقافي والإتنو ـ غرافي لأكراد الشمال العراقي لجهة المضي قدماً في مشروع إقليم كردستان.
* عامل صراع السلطة ـ الثروة، ومخاوف أن يتفاقم تأثيره، بما يؤدّي إلى الحرب الأهلية العراقية، على غرار نماذج الحروب الأهلية التي سبق أن اندلعت في أفغانستان بعد خروج القوّات السوفياتية، وفي أنغولا بعد خروج القوّات البرتغالية، وما شابهها من الحروب الأهلية التي اندلعت بعد خروج القوّات الأجنبية منها.
تقول المعلومات إن منطقة كركوك ـ الموصل تشهد حالياً ما يمكن وصفه بترتيبات تمهيد المسرح لخوض جولة الصراع المسلّح الحاسمة، ومن أبرز المؤشّرات الدالة على تزايد عمليات التعبئة السلبية الفاعلة في المنطقة يمكن التوقّف عند:
ـ التمركز المكثّف لقوّات البشمركة الكردية.
ـ الظهور المتزايد للجماعات المسلّحة الشيعية والسنّيّة.
ـ ظهور الأقلّيّات الإتنو ـ طائفية المتواتر في المنطقة وعلى وجه الخصوص الأشوريين.
ـ تزايد التحالفات بين المجموعات الرافضة لمشروع الضم لإقليم كردستان.
ـ انتشار السلاح بكمّيّات واسعة.
ـ تزايد الاغتيالات وأعمال العنف السياسي الإتنو ـ ثقافي والإتنو ـ غرافي والإتنو-طائفي، بما يفيد وجود عمليات حرب سرّيّة متبادلة بين الأطراف المتصارعة في المنطقة.
إضافة الى ذلك، جاءت نتيجة الانتخابات البرلمانية والرئاسية الكردستانية، لتؤكّد بقوّة أن أكراد الشمال يرغبون في توجّهات مسعود البرزاني وحلفائه! وعلى خلفية تشدّد مواقف الأطراف برزت في مجرى الوقائع عملية ديبلوماسية وقائية تضمّنت الآتي:
* التحرّكات المكثّفة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي التي سعى من خلالها إلى كسب دعم واشنطن وأنقرة.
* التحرّكات المكثّفة لرموز الادارة الأميركية، وعلى وجه الخصوص جو بايدن نائب الرئيس الأميركي وصاحب نظرية تقسيم العراق، وروبرت غيتز وزير الدفاع الأميركي.
* تصريحات مسعود البرزاني المتشدّدة إزاء ضم كركوك والموصل.
في مواكبة هذه التطوّرات، تبيّن على الصعيد الميداني أن السنّة عزّزوا ظهورهم المسلّح في كركوك والموصل، وفي المقابل نشرت أربيل قوّات البشمركة في المنطقتين، وتولّت بغداد بدورها نشر قوى عسكرية بشكل مكثّف، حرصاً على توازن القوى مع البشمركة.
في الوقت نفسه، تحدّثت معلومات محدودة التداول عن أن بعض الأطراف الكرديّة في كركوك والموصل، تسعى الى تشكيل ميليشيا خاصة منفصلة عن البشمركة، إذا ما تخلّت أربيل عن مشروع ضم كركوك.
ويؤكّد مراسل «واشنطن بوست» الأميركية أن التعبئة العسكرية متواصلة في المنطقة، وهي لا تقتصر على أرتال الدبّابات والمدرّعات التابعة للبشمركة، وأرتال الدبّابات العراقية، ويضيف: دعونا ننتظر لنرى ما إذا كانت القوّات الأميركية سوف تلعب دور المتفرّج الخبيث.
ربع قرن
نعود الى النزاع لنقول إن الحكومة التركية تحاول، على ما يبدو، استباق خطّة يستعدّ عبد الله أوجلاّن الزعيم الكردي السجين لإطلاقها من سجنه، في ذكرى انطلاقة عمليات حزب العمّال الكردستاني الذي يعمل من أجل حكم ذاتي موسّع للأكراد في جنوب شرق تركيا، وقد سقط في صراعه مع السلطات التركية أكثر من ٤٠ ألف قتيل حتى الآن.
مصادر الحزب سرّبت ثماني نقاط من خطّة أوجلاّن (التي كان منتظراً إعلانها في ١٥ آب / أغسطس الجاري)، هي الآتية:
* إعلان هدنة دائمة متبادلة بين تركيا ومنظّمة حزب العمّال الكردستاني.
* إعداد دستور ديمقراطي جديد يأخذ في الاعتبار حقوق الأكراد وحرّيّاتهم.
* تشكيل لجنة تقصّي حقائق بشأن الجرائم الغامضة التي ارتكبت في حق الأكراد في جنوب شرق الأناضول، ولم يتمّ التوصّل الى تحديد منفّذيها.
* منح حق التدريس باللغة الكرديّة والسماح بفتح مدارس كرديّة.
* منح عناصر حزب العمّال الكردستاني من الذين غادروا معسكراتهم حق العمل السياسي.
* إلغاء الدولة الكرديّة نظام حرّاس القرى، ومعظمهم من المواطنين الأكراد الذين يقاتلون الى جانب الدولة التركية والجيش التركي ضد عناصر حزب العمّال الكردستاني.
* تشكيل «لجنة حكماء» في تركيا تعمل على تقديم مساهمات في مجال حلّ المشكلة الكرديّة.
* تشريع قانون يفسح في المجال أمام الكوادر المسلّحة لمنظّمة «حزب العمال الكردستاني» نبذ السلاح وترك المعسكرات على أن لا يندرج هذا القانون ضمن مسمّيات «العفو العام».
هل يجرؤ أردوغان على الأخذ بهذه المقترحات؟
كل شيء يدلّ على أن أسس الحوار التركي ـ الكردي المرتقب بدأت تتبلور، وأن الحلّ متى أقرّ سوف يكون على المديين المتوسّط والبعيد، وهو يندرج في سلسلة إصلاحات توسّع حقوق الأقلّيّة الكردية، بضغط أوروبي، وقد ترجمت قبل أشهر بإطلاق أول قناة كرديّة تعمل على مدار الساعة في تركيا.
وفي تقرير لصحيفة «حرّيّات» التركية، أن إحدى الخطوات المرتقبة هي إعادة نحو عشرة آلاف كردي فرّوا كلاجئين في تسعينيّات القرن الفائت، الى مخيّم مخمور في شمال العراق، حيث معقل تنظيم حزب العمّال الكردستاني.
لكن ما هي أهمّ المحطّات في المشكلة الكرديّة؟
١٥١٤ ـ ٢٠٠٩
مراحل المشكلة الكرديّة
بدأت المشكلة الكرديّة بصورة واضحة في العصر الحديث عند اصطدام الدولتين الصفوية والعثمانية عام (١٥١٤م) في معركة جالديران التي كانت كبيرة وغير حاسمة، كان من نتائجها تقسيم كردستان عملياً بين الدولتين الصفوية والعثمانية.
كانت كردستان قبل سنة (١٥١٤م) تسود فيها إمارات مستقلة مشغولة بتنظيم شؤونها الداخلية، لكن سوء معاملة الشاه إسماعيل الصفوي إضافةً إلى الاختلاف المذهبي أدّيا إلى انضمام أكثرية الإمارات إلى جانب الدولة العثمانية فضلاً عن جهود العلاّمة ملا إدريس البدليسي الذي لعب دوراً كبيراً في استمالة الكرد إلى جانب الدولة العثمانية، وجاءت المعركة المذكورة لتضع أغلبية أراضي كردستان تحت سيطرة العثمانيين.
تقسيم كردستان
في عام (١٥١٥م) قام العلامة إدريس، بعد تفويضه من قبل السلطان العثماني، بعقد اتفاقية مع الأمراء الكرد، يتضمن اعتراف الدولة العثمانية بسيادة تلك الإمارات على كردستان وبقاء الحكم الوراثي فيها ومساندة الأستانة لها عند تعرّضها للغزو أو الاعتداء مقابل أن تدفع الإمارات الكرديّة رسومات سنوية كرمز لتبعيتها للدولة العثمانية وأن تشارك إلى جانب الجيش العثماني في أية معارك تخوضها الإمبراطورية إضافة إلى ذكر اسم السلطان والدعاء له من على المنابر في خطبة الجمعة.
تضمن هذا الاتفاق اعترافاً من الدولة العثمانية بالسلطات الكرديّة، وهذا الأمر ليس شيئاً هيّناً، حيث يقدم اعترافاً واضحاً بوجود المشكلة الكرديّة، يقتضي حلها، حتى لو كان الحل وقتياً!!
وفي عام (١٥٥٥م) عقدت الدولتان الصفوية والعثمانية اتفاقية ثنائية عرفت بـ«أماسيا» وهي أول معاهدة رسمية بين الدولتين، وتم بموجبها تكريس تقسيم كردستان رسمياً وفاق وثيقة رسمية نصت على تعيين الحدود بين الدولتين، وخاصة في مناطق شهرزور، وقارص، وبايزيد (وهي مناطق كرديّة صرفة).
وتبعت تلك المعاهدة، معاهدات واتفاقيات لاحقة منها: معاهدة «زهاو» أو تنظيم الحدود عام (١٦٣٩م) بين الشاه عباس والسلطان مراد الرابع، وتم التأكيد على معاهدة أماسيا بالنسبة لتعيين الحدود، وهذا زاد من تعميق المشكلة الكرديّة، ثم عقدت بعد ذلك معاهدات أخرى مثل «أرضروم الأولى» (١٨٢٣م) و«أرضروم الثانية» (١٨٤٧م) واتفاقية طهران (١٩١١م) واتفاقية تخطيط الحدود بين الدولتين: الإيرانية والعثمانية عام (١٩١٣م) في الأستانة، وكذلك بروتوكول الأستانة في العام نفسه.
وكرّست جميع هذه المعاهدات تقسيم كردستان وشعبها بشكل مجحف، وبسبب ذلك تعقدت المشكلة الكرديّة يوماً بعد آخر، ولا سيما بعد بدء انتشار الأفكار القومية في الشرق، وبالأخص منذ بداية القرن التاسع عشر، حيث بدأت الدول الأوروبية تحتك بكردستان عن طريق الرحالة الأجانب والإرساليات التبشيرية، وكذلك عن طريق بعض القنصليات وأهمها البريطانية والروسية والفرنسية ثم الأميركية.
ومارست كل هذه الجهات أدواراً مهمةً في تحريض العشائر الكرديّة ضد الدولة العثمانية خاصةً، ثم الإيرانية، لكي يأخذوا الامتيازات، أو يزداد نفوذهم في الدولة العثمانية خاصة.
وبالرغم من هذا، فإن الدولتين العثمانية والإيرانية، لم تتمكّنا من بسط سيطرتهما على كردستان لأسباب عدة، منها طبوغرافية كردستان المعقدة، ودفاع الكرد عن أراضيهم ببسالة.
تدويل القضية
ويمكننا القول إن اشتداد الصراع الدولي في الشرق، وخاصة بين القوتين البريطانية والروسية أثّر بشكل سلبي في مستقبل الشعب الكردي، وأخرج المشكلة الكرديّة من الطابع الإقليمي إلى الطابع الدولي، كما يتضح من خلال النقاط الآتية:
أولاً: الاتصال المبكر بالكرد من قبل روسيا، ثم بريطانيا، حيث كانت الحكومة الروسية شديدة الاهتمام بأوضاع البلدان والشعوب المتاخمة لحدودها، ونظرت الحكومة البريطانية بقلق إلى المطامح الروسية خوفاً من أن يمتد الروس إلى بلاد ما بين النهرين.
وكانت شركة الهند الشرقية من أهم بؤر التجسس في المنطقة، كما كانت هناك محاولات فرنسية للتغلغل في كردستان عن طريق الإرساليات التبشيرية.
ويمكن القول إن أميركا كانت موجودة في المنطقة على عكس ما كان شائعاً من تطبيقها لمبدأ «مونرو» الذي يؤكد على عدم التورط في المشاكل السياسية خارج أميركا.
ثانياً: محاولات الكرد أنفسهم التقرب من الأجانب، وخاصة البريطانيين في بداية القرن العشرين، حيث كانت جهود الديبلوماسي الكردي شريف باشا واضحة في هذا المجال، إذ حاول الاتصال بالإنكليز عام (١٩١٤) لكي يعرض خدماته، لكن الحكومة البريطانية لم تستجب له، وبحلول عام (١٩١٨) وعند احتلال بريطانيا العراق طلبت وزارة الخارجية البريطانية من السفير برسي كوكس أن يلتقي بشريف باشا في مدينة مرسيليا الفرنسية للاستماع إلى أقواله فقط !
ثالثاً: اتفاقية سايكس ـ بيكو عام (١٩١٦) حيث اجتمع وزراء الخارجية الروسية والبريطانية والفرنسية، ودارت بينهم مباحثات سرية حول الترتيبات المقبلة للشرق الأوسط، بعد أن أصبحت هزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية وشيكة، وتضمنت الاتفاقية تقسيم تركة الدولة العثمانية، وبما أن القسم الأكبر من كردستان كان تحت السيطرة العثمانية، فقد شملها التقسيم، وهذا الوضع الجديد عمق بشكل فعّال من تعقيد المشكلة الكرديّة، وأخرجها من الطابع الإقليمي إلى الطابع الدولي، حيث تعد معاهدة سايكس ـ بيكو أول معاهدة دولية اشتركت فيها ثلاث دول كبرى، وحطّمت الآمال الكرديّة في تحقيق حقهم المشروع في تقرير المصير.
ما بعد الحرب
برزت إمكانية حل المشكلة الكرديّة إلى الوجود لأول مرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولعل سببها إيجاد منطقة عازلة بين أتراك الأناضول والأقوام التي تتكلم اللغة التركية في آسيا الوسطى والقفقاس وبصورة خاصة في أذربيجان.
وقد تحرك الكرد وبذلوا جهوداً مضنية لإيصال صوتهم إلى مؤتمر الصلح في باريس عام (١٩١٩) على أمل أن ينالوا حقوقهم المشروعة، ولا سيما بعد أن صرح رئيس الولايات المتحدة الأميركية ويدرو ويلسن بحق الشعوب في تقرير مصيرها في بنوده الأربعة عشر المشهورة، ولم يكن للكرد كيان سياسي مستقل حتى يشارك وفدهم رسمياً في ذلك المؤتمر، شأنهم شأن القوميات والشعوب المضطهدة الأخرى، ولذلك خوّل الشعب الكردي من خلال العشائر والجمعيات السياسية شريف باشا لتمثيلهم والمطالبة بالمطالب الكرديّة المشروعة.
وأصدر الحلفاء بعد استكمال تحضيراتهم للمؤتمر قراراً في شهر كانون الثاني (يناير) ١٩١٩ نص على ما يأتي: «… إن الحلفاء والدول التابعة لهم قد اتفقوا على أن أرمينيا وبلاد الرافدين وكردستان وفلسطين والبلاد العربية يجب انتزاعها بكاملها من الإمبراطورية العثمانية».
وانطلاقاً من هذا القرار قدم الممثل الكردي شريف باشا مذكرتين مع خارطتين لكردستان إلى المؤتمر، إحداهما بتاريخ (٢١/٣/١٩١٩م) والأخرى يوم (١/٣/١٩٢٠).
كما طلب من القائمين على شؤون المؤتمر تشكيل لجنة دولية تتولّى تخطيط الحدود بموجب مبدأ القوميات، لتصبح كردستان المناطق التي تسكن فيها الغالبية الكرديّة، وإضافة إلى ذلك فقد جاء في المذكرة الأولى «إن تجزئة كردستان لا يخدم السلم في الشرق…».
كما جاء في المذكرة الثانية «إن الترك يتظاهرون علناً بأنهم مع المطالب الكرديّة، وإنهم متسامحون معهم، لكن الواقع لا يدل على ذلك مطلقاً…» كما طالب شريف باشا رسمياً من رئيس المؤتمر جورج كليمنصو أن يمارس نفوذه مع حكومة الأستانة لمنع اضطهاد الشعب الكردي، وجاء في رسالته إلى رئيس المؤتمر: إنه منذ أن تسلمت جماعة الاتحاد والترقي السلطة فإن جميع الذين يحملون آمال الحرية القومية قد تعرضوا للاضطهاد المستمر..
وإنه من الواجب الإنساني في المجلس الأعلى أن يمنع إراقة الدماء مجدّداً، وإن السبيل لضمان السلم في كردستان هو التخلي عن مشروع تقسيم هذه البلاد (أي كردستان)..
ودل كل ذلك على أن المشكلة الكرديّة تقدمت خطوة كبيرة إلى الأمام في أعقاب الحرب.
وما تصريح كليمنصو عندما أعلن على الملأ في مؤتمر الصلح إلا إحدى العلامات حيث قال «إن الحكومة التركية ليست قادرة وكفؤة لإدارة الأمم الأخرى، لذلك لا يوثق بها ولا يجوز أن تعاد إلى سيطرة الأتراك قومية عانت مظالم الأتراك واستبدادهم».
وعندما رأى شريف باشا أن تعاطف الدول الأوروبية كثير للقضية الأرمنية ـ ربما بسبب الانتماء الديني للأرمن ـ بادر إلى عقد اتفاقية مع ممثّل الأرمن بوغوص نوبار وبحضور الرئيس المؤقت لوفد جمهورية أرمينيا أوهانجيان.
ووقّع الجانبان ـ باسم الشعبين ـ الاتفاقية، مؤكدين فيها على أن للكرد والأرمن مصالح وأهدافاً مشتركة هي: الاستقلال، والتخلّص من السيطرة العثمانية..
وقدّما نص الاتفاقية بمذكرة رسمية إلى المجلس الأعلى للمؤتمر، ووافق المجلس مبدئياً على المذكرة، ووصف المندوب السياسي البريطاني في الأستانة الاتفاقية بأنها من أسعد البشائر.
معاهدة سيفر (١٩٢٠)
نجح شريف باشا في إدخال ثلاثة بنود تتعلّق بالقضية الكرديّة في معاهدة سيفر التي أبرمها الحلفاء بباريس في آب (أغسطس) ١٩٢٠، وقد كرّس ذلك عملية تدويل القضية الكرديّة بصورة رسمية، رغم أن الدولة العثمانية حاولت مراراً أن تصف القضية الكرديّة بأنها قضية داخلية تستطيع الدولة حلّها.
وتعد معاهدة سيفر وثيقة فريدة في تاريخ القضية الكرديّة، حيث نصّت على تحقيق حل المشكلة الكرديّة بمراحل، وإذا اجتاز الكرد هذه المراحل، وطالبوا بالاستقلال، ورأت دول الحلفاء أهليّة الكرد لذلك يصبح الاستقلال أمراً واقعياً، وعلى الحكومة التركية الاعتراف بذلك… ويعد هذا أول اعتراف رسمي دولي بحقوق الشعب الكردي، ولا سيما حق تقرير المصير حيث طرحت المسألة في العرف القانوني للمعاهدات الدولية، وقد وصف كمال أتاتورك المعاهدة بأنها بمثابة حكم الاعدام على تركيا، وحاول بمختلف الوسائل وضع العراقيل لمنع تطبيق المعاهدة… ولذلك بقيت معاهدة سيفر حبراً على ورق، إلا أن هذا الورق أصبح وقوداً لنضال الحركة القومية الكرديّة فيما بعد.
انتهاك الوعود
ولم تر معاهدة سيفر النور، وذلك ـ حسب رأيي ـ للأسباب الآتية:
أولاً: صعود نجم «مصطفى أتاتورك» والحركة الكمالية، وتوسيع مناطق نفوذها، إضافة إلى تأسيس المجلس الوطني الكبير في أنقرة بديلاً لسلطة الأستانة.
ثانياً: خوف الدول الأوروبية، وبالأخص بريطانيا، من استغلال الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي الصراع الكمالي ـ الأوروبي لمصلحة نفوذهم في المنطقة.
ثالثاً: ذكاء مصطفى كمال باستغلاله الصراع الدولي لإلغاء معاهدة سيفر وقبرها.
لذلك لم يمر عام ونصف العام على توقيع معاهدة سيفر حتى طرحت فكرة إعادة النظر فيها، وجاءت هذه المواقف من قبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واتخذ المجلس الأعلى للحلفاء قراراً بهذا الشأن يوم (٢٥ كانون الثاني/يناير ١٩٢١)، إضافة إلى توجيه الدعوة إلى وفد حكومة أنقرة لحضور المؤتمر القادم، الأمر الذي دلّ على اعتراف الحلفاء بالواقع الجديد في تركيا.
مؤتمر لندن (١٩٢١)
عقد مؤتمر في لندن في شباط (فبراير) ١٩٢١ لبحث المشاكل العالقة، ومن ضمنها المشكلة الكرديّة، حيث اعتزم الحلفاء إعطاء تنازلات مهمّة في هذه القضية، لكن الحكومة التركية أصرت على أن المسألة داخلية، يمكن حلّها داخلياً، لا سيما وأن الكرد لهم الرغبة في العيش مع إخوانهم الأتراك حسب ما زعمت آنذاك، وأثناء انعقاد مؤتمر لندن، عقدت حكومة أنقرة عدداً من الاتفاقيات الدولية التي كرّست الشرعية الدولية القانونية للنظام الجديد في تركيا… ثم قامت الحكومة الجديدة بإلغاء جميع الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها حكومة الأستانة ومن ضمنها معاهدة سيفر.
كل ذلك أدى إلى تعزيز مكانة الحكومة التركية الجديدة..
وبذلك فشل مؤتمر لندن في توجه ضربة إضافية للآمال القومية الكرديّة.
معاهدة لوزان (١٩٢٣)
جاءت فكرة عقد معاهدة لوزان بعد الانتصارات الكبيرة التي حققتها الحكومة التركية الجديدة على الجيش اليوناني، وبذلك ظهرت تركيا كدولة فتية قوية لأول مرة بعد قرنين، وقامت الحكومة الجديدة بتحسين العلاقة مع جارها الاتحاد السوفياتي، وعقدت مباحثات المعاهدة على فترتين: استمرت الأولى نحو ثلاثة أشهر بين نهاية العام ١٩٢٢ وبداية العام ١٩٢٣، والفترة الثانية استمرت الفترة ذاتها ما بين ربيع وصيف عام ١٩٢٣.
ونصت معاهدة لوزان على أن تتعّهد أنقرة بمنح معظم سكان تركيا الحماية التامة والكاملة، ومنح الحريات من دون تمييز، من غير أن ترد أية إشارة للكرد فيها، كما لم تجر الاشارة إلى معاهدة سيفر، وعدّ الكرد هذه المعاهدة ضربةٌ قاسية ضد مستقبلهم ومحطمة لآمالهم… وبذلك يتحمل الحلفاء المسؤولية الأخلاقية الكاملة تجاه الشعب الكردي ولا سيما الحكومة البريطانية التي ألحقت فيما بعد ولاية الموصل ـ التي يشكّل الكرد فيها الأغلبية المطلقة ـ بالعراق.
وأدّى كل ذلك إلى ازدياد المشكلة الكرديّة تعقيداً بعد أن أصبح الشعب الكردي موزّعاً عملياً وقانونياً بين أربع دول بدل دولتين، لتزداد معاناته وليبدأ فصل جديد من فصول علاقته بالدول الجديدة طغى عليها التوتّر والعنف اللذان لم يجدا حتى اليوم حلولاً عادلة، فيما بدأت الأحزاب والقوى القومية الكرديّة تتشكل لكي تقود النضال والكفاح من أجل حق تقرير المصير.
وفي تقدير بعض الأوساط أن المؤسّسة العسكرية التركية لا تزال تتحفّظ على هذا الطرح، ويمكن أن تتّخذ من هذه المبادرة ذريعة لاستهداف حزب العدالة والتنمية، والأمر يتوقّف الى حد كبير على مدى نجاح الحزب في الحصول على مساندة الرأي العام التركي.
والوقائع التي يتمّ تداولها حتى الآن تتضمّن النقاط الآتية:
* ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: ناقش بعض الأكاديميين والصحفيين والمفكّرين الأتراك المسألة الكردية والحلول الممكنة لها، في مقرّ أكاديمية الشرطة التركية في أنقرة، وتمّت المناقشات بإشراف وزير الداخلية التركي بيسير أتالاي.
* ٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: قام الشاهد السرّي الثالث في قضية سيمال تيموزو، قائد كتيبة جندرمة محافظة كيساري، المتّهم بالتوّرط في الاغتيالات وعضو التنظيمات الكردية السرّيّة المسلّحة، بسحب شهادته أمام المحكمة، ووصف الخبراء هذا الاجراء بأنه صفقة تهدف الى تمهيد المسرح التركي لقبول المبادرة التركية وتمريرها، طالما أن الاستمرار في القضية سيترتّب عليه توريط زعماء حزب المجتمع الديمقراطي، إضافة إلى إثبات ارتباطاته السرّيّة مع حزب العمل الكردستاني، وهو أمر لن تترتّب عليه محاكمة زعماء المجتمع الديمقراطي، وإنما قيام المحكمة الدستورية العليا بحلّه وحظر نشاطه، إضافة إلى طرد نوابه من البرلمان، الأمر الذي سيضعف أغلبية التحالف الذي يقوده حزب العدالة والتنمية من جهة، ويعزّز من الجهة الأخرى موقف القوى المعارضة داخل البرلمان التركي، وعلى وجه الخصوص حزب الشعب الجمهوري.
* ٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: بدأت أنقرة تواجه بعض الضغوط الداخلية على خلفية محاكمة عناصر شبكة أرغيناكون، وضغوط خارجية بوساطة رئيس جمهورية شمال قبرص محمد علي طلعت الذي عقد لقاء مع ألكسندر داونار مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى قبرص، وأيضاً بوساطة الجنرال فوغ راسموسين (الدانماركي) الذي سبق أن سعت تركيا الى عرقلة تولّيه منصب أمين عام حلف الناتو، لكنه تولاّه بعد زيارة الرئيس أوباما الأخيرة أنقرة.
وقد طالب راسموسين فور تولّيه منصبه، تركيا، بضرورة القيام بالمزيد من الاجراءات لبناء الثقة في الداخل والخارج، وكذلك فإن حلّ المسألة الكردية هو أحد الشروط المطلوبة بوساطة المفوضية الأوروبية.
* ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه يرى أن هناك فارقاً كبيراً بين حزب المجتمع الديمقراطي، وحزب العمال الكردستاني.
وأضاف أنه سيلتقي رسمياً ممثّلي حزب المجتمع الديمقراطي للتفاهم حول المسألة الكردية.
* ٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: عقد رجب طيب أردوغان اجتماعاً رسمياً في مقرّ البرلمان التركي، مع ممثّلي حزب المجتمع الديمقراطي، لمناقشة مشروع المبادرة التركية التي أشرفت على إعدادها الحكومة التركية.
* ٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: عقد أردوغان لقاء مع رئيس الوزراء الروسي بوتين، ورئيس الوزراء الإيطالي سلفيو بيرلوسكوني، وفي الوقت نفسه عقد الرئيس التركي عبد الله غول لقاء مع رئيس الوزراء العراقي السابق إبراهيم الجعفري، لمناقشة الموقف العراقي، وفي الوقت ذاته كذلك عقد السفير الأميركي في تركيا جيمس جيفري لقاء مع أعضاء حزب المجتمع الديمقراطي لمناقشة محتوى المبادرة التركية.
* ٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: عقد أردوغان اجتماعاً مطوّلاً مع الوزراء من أعضاء مجلس الأمن القومي التركي لمناقشة المبادرة التركية.
وتأسيساً على ذلك، جاءت ردود الأفعال التركية الأولى رافضة المبادرة، من حزب الشعب الجمهوري والحزب القومي التركي اللذين أكّدا أنهما سيعملان من أجل الآتي:
ـ إسقاط المبادرة داخل البرلمان التركي.
ـ شن حملة سياسية ضد المبادرة، باعتبارها تشكّل خطراً يعرّض وحدة الأمّة التركية للانقسام.
وحتى الآن، تتلاقى المؤسّسة العسكرية أو بعض أطرافها على الأقلّ، على رفض هذا التوجّه، الى جانب حزب العمل القومي والحزب الجمهوري.
لكن رجب طيب أردوغان يصرّ على دمج الأكراد بصورة كاملة في بنية الدولة التركية، ووضع حد للعنف الكردي الذي يثير بدوره عنفاً تركياً.
وفي هذا السياق، يقول عدد من الخبراء في العلاقات التركية ـ الكرديّة، إن تركيا رصدت في الفترة الأخيرة تطوّرات ميدانية في مناطق التماسّ بين إقليم كردستان العراق ومناطق الوسط العراقي، تنذر باحتمالات تفجّر حرب أهليّة جديدة وشيكة بين العرب والأكراد، بعدما بلغت الخلافات بين أربيل وبغداد ذروة جديدة من التوتّر، ومن شأن العودة الى الحرب الأهليّة إحداث بلبلة حقيقية في الداخل التركي وفي منطقة كردستان تركيا بصورة خاصّة.
ويبدو أن التحرّك التركي الجديد يأخذ في الاعتبار مجموعة عوامل ضاغطة لعلّ أبرزها:
* عامل الانسحاب الأميركي المحتمل جدّاً من العراق، الذي سوف يبلور مشهداً سياسياً وأمنيّاً متحرّكاً، على أساس توازن القوى بين شيعة الجنوب، سنّة الوسط، وأكراد الشمال.
* عامل النزعة المركزية الكردية والتشدّد الإتنو ثقافي والإتنو ـ غرافي لأكراد الشمال العراقي لجهة المضي قدماً في مشروع إقليم كردستان.
* عامل صراع السلطة ـ الثروة، ومخاوف أن يتفاقم تأثيره، بما يؤدّي إلى الحرب الأهلية العراقية، على غرار نماذج الحروب الأهلية التي سبق أن اندلعت في أفغانستان بعد خروج القوّات السوفياتية، وفي أنغولا بعد خروج القوّات البرتغالية، وما شابهها من الحروب الأهلية التي اندلعت بعد خروج القوّات الأجنبية منها.
تقول المعلومات إن منطقة كركوك ـ الموصل تشهد حالياً ما يمكن وصفه بترتيبات تمهيد المسرح لخوض جولة الصراع المسلّح الحاسمة، ومن أبرز المؤشّرات الدالة على تزايد عمليات التعبئة السلبية الفاعلة في المنطقة يمكن التوقّف عند:
ـ التمركز المكثّف لقوّات البشمركة الكردية.
ـ الظهور المتزايد للجماعات المسلّحة الشيعية والسنّيّة.
ـ ظهور الأقلّيّات الإتنو ـ طائفية المتواتر في المنطقة وعلى وجه الخصوص الأشوريين.
ـ تزايد التحالفات بين المجموعات الرافضة لمشروع الضم لإقليم كردستان.
ـ انتشار السلاح بكمّيّات واسعة.
ـ تزايد الاغتيالات وأعمال العنف السياسي الإتنو ـ ثقافي والإتنو ـ غرافي والإتنو-طائفي، بما يفيد وجود عمليات حرب سرّيّة متبادلة بين الأطراف المتصارعة في المنطقة.
إضافة الى ذلك، جاءت نتيجة الانتخابات البرلمانية والرئاسية الكردستانية، لتؤكّد بقوّة أن أكراد الشمال يرغبون في توجّهات مسعود البرزاني وحلفائه! وعلى خلفية تشدّد مواقف الأطراف برزت في مجرى الوقائع عملية ديبلوماسية وقائية تضمّنت الآتي:
* التحرّكات المكثّفة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي التي سعى من خلالها إلى كسب دعم واشنطن وأنقرة.
* التحرّكات المكثّفة لرموز الادارة الأميركية، وعلى وجه الخصوص جو بايدن نائب الرئيس الأميركي وصاحب نظرية تقسيم العراق، وروبرت غيتز وزير الدفاع الأميركي.
* تصريحات مسعود البرزاني المتشدّدة إزاء ضم كركوك والموصل.
في مواكبة هذه التطوّرات، تبيّن على الصعيد الميداني أن السنّة عزّزوا ظهورهم المسلّح في كركوك والموصل، وفي المقابل نشرت أربيل قوّات البشمركة في المنطقتين، وتولّت بغداد بدورها نشر قوى عسكرية بشكل مكثّف، حرصاً على توازن القوى مع البشمركة.
في الوقت نفسه، تحدّثت معلومات محدودة التداول عن أن بعض الأطراف الكرديّة في كركوك والموصل، تسعى الى تشكيل ميليشيا خاصة منفصلة عن البشمركة، إذا ما تخلّت أربيل عن مشروع ضم كركوك.
ويؤكّد مراسل «واشنطن بوست» الأميركية أن التعبئة العسكرية متواصلة في المنطقة، وهي لا تقتصر على أرتال الدبّابات والمدرّعات التابعة للبشمركة، وأرتال الدبّابات العراقية، ويضيف: دعونا ننتظر لنرى ما إذا كانت القوّات الأميركية سوف تلعب دور المتفرّج الخبيث.
ربع قرن
نعود الى النزاع لنقول إن الحكومة التركية تحاول، على ما يبدو، استباق خطّة يستعدّ عبد الله أوجلاّن الزعيم الكردي السجين لإطلاقها من سجنه، في ذكرى انطلاقة عمليات حزب العمّال الكردستاني الذي يعمل من أجل حكم ذاتي موسّع للأكراد في جنوب شرق تركيا، وقد سقط في صراعه مع السلطات التركية أكثر من ٤٠ ألف قتيل حتى الآن.
مصادر الحزب سرّبت ثماني نقاط من خطّة أوجلاّن (التي كان منتظراً إعلانها في ١٥ آب / أغسطس الجاري)، هي الآتية:
* إعلان هدنة دائمة متبادلة بين تركيا ومنظّمة حزب العمّال الكردستاني.
* إعداد دستور ديمقراطي جديد يأخذ في الاعتبار حقوق الأكراد وحرّيّاتهم.
* تشكيل لجنة تقصّي حقائق بشأن الجرائم الغامضة التي ارتكبت في حق الأكراد في جنوب شرق الأناضول، ولم يتمّ التوصّل الى تحديد منفّذيها.
* منح حق التدريس باللغة الكرديّة والسماح بفتح مدارس كرديّة.
* منح عناصر حزب العمّال الكردستاني من الذين غادروا معسكراتهم حق العمل السياسي.
* إلغاء الدولة الكرديّة نظام حرّاس القرى، ومعظمهم من المواطنين الأكراد الذين يقاتلون الى جانب الدولة التركية والجيش التركي ضد عناصر حزب العمّال الكردستاني.
* تشكيل «لجنة حكماء» في تركيا تعمل على تقديم مساهمات في مجال حلّ المشكلة الكرديّة.
* تشريع قانون يفسح في المجال أمام الكوادر المسلّحة لمنظّمة «حزب العمال الكردستاني» نبذ السلاح وترك المعسكرات على أن لا يندرج هذا القانون ضمن مسمّيات «العفو العام».
هل يجرؤ أردوغان على الأخذ بهذه المقترحات؟
كل شيء يدلّ على أن أسس الحوار التركي ـ الكردي المرتقب بدأت تتبلور، وأن الحلّ متى أقرّ سوف يكون على المديين المتوسّط والبعيد، وهو يندرج في سلسلة إصلاحات توسّع حقوق الأقلّيّة الكردية، بضغط أوروبي، وقد ترجمت قبل أشهر بإطلاق أول قناة كرديّة تعمل على مدار الساعة في تركيا.
وفي تقرير لصحيفة «حرّيّات» التركية، أن إحدى الخطوات المرتقبة هي إعادة نحو عشرة آلاف كردي فرّوا كلاجئين في تسعينيّات القرن الفائت، الى مخيّم مخمور في شمال العراق، حيث معقل تنظيم حزب العمّال الكردستاني.
لكن ما هي أهمّ المحطّات في المشكلة الكرديّة؟
١٥١٤ ـ ٢٠٠٩
مراحل المشكلة الكرديّة
بدأت المشكلة الكرديّة بصورة واضحة في العصر الحديث عند اصطدام الدولتين الصفوية والعثمانية عام (١٥١٤م) في معركة جالديران التي كانت كبيرة وغير حاسمة، كان من نتائجها تقسيم كردستان عملياً بين الدولتين الصفوية والعثمانية.
كانت كردستان قبل سنة (١٥١٤م) تسود فيها إمارات مستقلة مشغولة بتنظيم شؤونها الداخلية، لكن سوء معاملة الشاه إسماعيل الصفوي إضافةً إلى الاختلاف المذهبي أدّيا إلى انضمام أكثرية الإمارات إلى جانب الدولة العثمانية فضلاً عن جهود العلاّمة ملا إدريس البدليسي الذي لعب دوراً كبيراً في استمالة الكرد إلى جانب الدولة العثمانية، وجاءت المعركة المذكورة لتضع أغلبية أراضي كردستان تحت سيطرة العثمانيين.
تقسيم كردستان
في عام (١٥١٥م) قام العلامة إدريس، بعد تفويضه من قبل السلطان العثماني، بعقد اتفاقية مع الأمراء الكرد، يتضمن اعتراف الدولة العثمانية بسيادة تلك الإمارات على كردستان وبقاء الحكم الوراثي فيها ومساندة الأستانة لها عند تعرّضها للغزو أو الاعتداء مقابل أن تدفع الإمارات الكرديّة رسومات سنوية كرمز لتبعيتها للدولة العثمانية وأن تشارك إلى جانب الجيش العثماني في أية معارك تخوضها الإمبراطورية إضافة إلى ذكر اسم السلطان والدعاء له من على المنابر في خطبة الجمعة.
تضمن هذا الاتفاق اعترافاً من الدولة العثمانية بالسلطات الكرديّة، وهذا الأمر ليس شيئاً هيّناً، حيث يقدم اعترافاً واضحاً بوجود المشكلة الكرديّة، يقتضي حلها، حتى لو كان الحل وقتياً!!
وفي عام (١٥٥٥م) عقدت الدولتان الصفوية والعثمانية اتفاقية ثنائية عرفت بـ«أماسيا» وهي أول معاهدة رسمية بين الدولتين، وتم بموجبها تكريس تقسيم كردستان رسمياً وفاق وثيقة رسمية نصت على تعيين الحدود بين الدولتين، وخاصة في مناطق شهرزور، وقارص، وبايزيد (وهي مناطق كرديّة صرفة).
وتبعت تلك المعاهدة، معاهدات واتفاقيات لاحقة منها: معاهدة «زهاو» أو تنظيم الحدود عام (١٦٣٩م) بين الشاه عباس والسلطان مراد الرابع، وتم التأكيد على معاهدة أماسيا بالنسبة لتعيين الحدود، وهذا زاد من تعميق المشكلة الكرديّة، ثم عقدت بعد ذلك معاهدات أخرى مثل «أرضروم الأولى» (١٨٢٣م) و«أرضروم الثانية» (١٨٤٧م) واتفاقية طهران (١٩١١م) واتفاقية تخطيط الحدود بين الدولتين: الإيرانية والعثمانية عام (١٩١٣م) في الأستانة، وكذلك بروتوكول الأستانة في العام نفسه.
وكرّست جميع هذه المعاهدات تقسيم كردستان وشعبها بشكل مجحف، وبسبب ذلك تعقدت المشكلة الكرديّة يوماً بعد آخر، ولا سيما بعد بدء انتشار الأفكار القومية في الشرق، وبالأخص منذ بداية القرن التاسع عشر، حيث بدأت الدول الأوروبية تحتك بكردستان عن طريق الرحالة الأجانب والإرساليات التبشيرية، وكذلك عن طريق بعض القنصليات وأهمها البريطانية والروسية والفرنسية ثم الأميركية.
ومارست كل هذه الجهات أدواراً مهمةً في تحريض العشائر الكرديّة ضد الدولة العثمانية خاصةً، ثم الإيرانية، لكي يأخذوا الامتيازات، أو يزداد نفوذهم في الدولة العثمانية خاصة.
وبالرغم من هذا، فإن الدولتين العثمانية والإيرانية، لم تتمكّنا من بسط سيطرتهما على كردستان لأسباب عدة، منها طبوغرافية كردستان المعقدة، ودفاع الكرد عن أراضيهم ببسالة.
تدويل القضية
ويمكننا القول إن اشتداد الصراع الدولي في الشرق، وخاصة بين القوتين البريطانية والروسية أثّر بشكل سلبي في مستقبل الشعب الكردي، وأخرج المشكلة الكرديّة من الطابع الإقليمي إلى الطابع الدولي، كما يتضح من خلال النقاط الآتية:
أولاً: الاتصال المبكر بالكرد من قبل روسيا، ثم بريطانيا، حيث كانت الحكومة الروسية شديدة الاهتمام بأوضاع البلدان والشعوب المتاخمة لحدودها، ونظرت الحكومة البريطانية بقلق إلى المطامح الروسية خوفاً من أن يمتد الروس إلى بلاد ما بين النهرين.
وكانت شركة الهند الشرقية من أهم بؤر التجسس في المنطقة، كما كانت هناك محاولات فرنسية للتغلغل في كردستان عن طريق الإرساليات التبشيرية.
ويمكن القول إن أميركا كانت موجودة في المنطقة على عكس ما كان شائعاً من تطبيقها لمبدأ «مونرو» الذي يؤكد على عدم التورط في المشاكل السياسية خارج أميركا.
ثانياً: محاولات الكرد أنفسهم التقرب من الأجانب، وخاصة البريطانيين في بداية القرن العشرين، حيث كانت جهود الديبلوماسي الكردي شريف باشا واضحة في هذا المجال، إذ حاول الاتصال بالإنكليز عام (١٩١٤) لكي يعرض خدماته، لكن الحكومة البريطانية لم تستجب له، وبحلول عام (١٩١٨) وعند احتلال بريطانيا العراق طلبت وزارة الخارجية البريطانية من السفير برسي كوكس أن يلتقي بشريف باشا في مدينة مرسيليا الفرنسية للاستماع إلى أقواله فقط !
ثالثاً: اتفاقية سايكس ـ بيكو عام (١٩١٦) حيث اجتمع وزراء الخارجية الروسية والبريطانية والفرنسية، ودارت بينهم مباحثات سرية حول الترتيبات المقبلة للشرق الأوسط، بعد أن أصبحت هزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية وشيكة، وتضمنت الاتفاقية تقسيم تركة الدولة العثمانية، وبما أن القسم الأكبر من كردستان كان تحت السيطرة العثمانية، فقد شملها التقسيم، وهذا الوضع الجديد عمق بشكل فعّال من تعقيد المشكلة الكرديّة، وأخرجها من الطابع الإقليمي إلى الطابع الدولي، حيث تعد معاهدة سايكس ـ بيكو أول معاهدة دولية اشتركت فيها ثلاث دول كبرى، وحطّمت الآمال الكرديّة في تحقيق حقهم المشروع في تقرير المصير.
ما بعد الحرب
برزت إمكانية حل المشكلة الكرديّة إلى الوجود لأول مرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولعل سببها إيجاد منطقة عازلة بين أتراك الأناضول والأقوام التي تتكلم اللغة التركية في آسيا الوسطى والقفقاس وبصورة خاصة في أذربيجان.
وقد تحرك الكرد وبذلوا جهوداً مضنية لإيصال صوتهم إلى مؤتمر الصلح في باريس عام (١٩١٩) على أمل أن ينالوا حقوقهم المشروعة، ولا سيما بعد أن صرح رئيس الولايات المتحدة الأميركية ويدرو ويلسن بحق الشعوب في تقرير مصيرها في بنوده الأربعة عشر المشهورة، ولم يكن للكرد كيان سياسي مستقل حتى يشارك وفدهم رسمياً في ذلك المؤتمر، شأنهم شأن القوميات والشعوب المضطهدة الأخرى، ولذلك خوّل الشعب الكردي من خلال العشائر والجمعيات السياسية شريف باشا لتمثيلهم والمطالبة بالمطالب الكرديّة المشروعة.
وأصدر الحلفاء بعد استكمال تحضيراتهم للمؤتمر قراراً في شهر كانون الثاني (يناير) ١٩١٩ نص على ما يأتي: «… إن الحلفاء والدول التابعة لهم قد اتفقوا على أن أرمينيا وبلاد الرافدين وكردستان وفلسطين والبلاد العربية يجب انتزاعها بكاملها من الإمبراطورية العثمانية».
وانطلاقاً من هذا القرار قدم الممثل الكردي شريف باشا مذكرتين مع خارطتين لكردستان إلى المؤتمر، إحداهما بتاريخ (٢١/٣/١٩١٩م) والأخرى يوم (١/٣/١٩٢٠).
كما طلب من القائمين على شؤون المؤتمر تشكيل لجنة دولية تتولّى تخطيط الحدود بموجب مبدأ القوميات، لتصبح كردستان المناطق التي تسكن فيها الغالبية الكرديّة، وإضافة إلى ذلك فقد جاء في المذكرة الأولى «إن تجزئة كردستان لا يخدم السلم في الشرق…».
كما جاء في المذكرة الثانية «إن الترك يتظاهرون علناً بأنهم مع المطالب الكرديّة، وإنهم متسامحون معهم، لكن الواقع لا يدل على ذلك مطلقاً…» كما طالب شريف باشا رسمياً من رئيس المؤتمر جورج كليمنصو أن يمارس نفوذه مع حكومة الأستانة لمنع اضطهاد الشعب الكردي، وجاء في رسالته إلى رئيس المؤتمر: إنه منذ أن تسلمت جماعة الاتحاد والترقي السلطة فإن جميع الذين يحملون آمال الحرية القومية قد تعرضوا للاضطهاد المستمر..
وإنه من الواجب الإنساني في المجلس الأعلى أن يمنع إراقة الدماء مجدّداً، وإن السبيل لضمان السلم في كردستان هو التخلي عن مشروع تقسيم هذه البلاد (أي كردستان)..
ودل كل ذلك على أن المشكلة الكرديّة تقدمت خطوة كبيرة إلى الأمام في أعقاب الحرب.
وما تصريح كليمنصو عندما أعلن على الملأ في مؤتمر الصلح إلا إحدى العلامات حيث قال «إن الحكومة التركية ليست قادرة وكفؤة لإدارة الأمم الأخرى، لذلك لا يوثق بها ولا يجوز أن تعاد إلى سيطرة الأتراك قومية عانت مظالم الأتراك واستبدادهم».
وعندما رأى شريف باشا أن تعاطف الدول الأوروبية كثير للقضية الأرمنية ـ ربما بسبب الانتماء الديني للأرمن ـ بادر إلى عقد اتفاقية مع ممثّل الأرمن بوغوص نوبار وبحضور الرئيس المؤقت لوفد جمهورية أرمينيا أوهانجيان.
ووقّع الجانبان ـ باسم الشعبين ـ الاتفاقية، مؤكدين فيها على أن للكرد والأرمن مصالح وأهدافاً مشتركة هي: الاستقلال، والتخلّص من السيطرة العثمانية..
وقدّما نص الاتفاقية بمذكرة رسمية إلى المجلس الأعلى للمؤتمر، ووافق المجلس مبدئياً على المذكرة، ووصف المندوب السياسي البريطاني في الأستانة الاتفاقية بأنها من أسعد البشائر.
معاهدة سيفر (١٩٢٠)
نجح شريف باشا في إدخال ثلاثة بنود تتعلّق بالقضية الكرديّة في معاهدة سيفر التي أبرمها الحلفاء بباريس في آب (أغسطس) ١٩٢٠، وقد كرّس ذلك عملية تدويل القضية الكرديّة بصورة رسمية، رغم أن الدولة العثمانية حاولت مراراً أن تصف القضية الكرديّة بأنها قضية داخلية تستطيع الدولة حلّها.
وتعد معاهدة سيفر وثيقة فريدة في تاريخ القضية الكرديّة، حيث نصّت على تحقيق حل المشكلة الكرديّة بمراحل، وإذا اجتاز الكرد هذه المراحل، وطالبوا بالاستقلال، ورأت دول الحلفاء أهليّة الكرد لذلك يصبح الاستقلال أمراً واقعياً، وعلى الحكومة التركية الاعتراف بذلك… ويعد هذا أول اعتراف رسمي دولي بحقوق الشعب الكردي، ولا سيما حق تقرير المصير حيث طرحت المسألة في العرف القانوني للمعاهدات الدولية، وقد وصف كمال أتاتورك المعاهدة بأنها بمثابة حكم الاعدام على تركيا، وحاول بمختلف الوسائل وضع العراقيل لمنع تطبيق المعاهدة… ولذلك بقيت معاهدة سيفر حبراً على ورق، إلا أن هذا الورق أصبح وقوداً لنضال الحركة القومية الكرديّة فيما بعد.
انتهاك الوعود
ولم تر معاهدة سيفر النور، وذلك ـ حسب رأيي ـ للأسباب الآتية:
أولاً: صعود نجم «مصطفى أتاتورك» والحركة الكمالية، وتوسيع مناطق نفوذها، إضافة إلى تأسيس المجلس الوطني الكبير في أنقرة بديلاً لسلطة الأستانة.
ثانياً: خوف الدول الأوروبية، وبالأخص بريطانيا، من استغلال الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي الصراع الكمالي ـ الأوروبي لمصلحة نفوذهم في المنطقة.
ثالثاً: ذكاء مصطفى كمال باستغلاله الصراع الدولي لإلغاء معاهدة سيفر وقبرها.
لذلك لم يمر عام ونصف العام على توقيع معاهدة سيفر حتى طرحت فكرة إعادة النظر فيها، وجاءت هذه المواقف من قبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واتخذ المجلس الأعلى للحلفاء قراراً بهذا الشأن يوم (٢٥ كانون الثاني/يناير ١٩٢١)، إضافة إلى توجيه الدعوة إلى وفد حكومة أنقرة لحضور المؤتمر القادم، الأمر الذي دلّ على اعتراف الحلفاء بالواقع الجديد في تركيا.
مؤتمر لندن (١٩٢١)
عقد مؤتمر في لندن في شباط (فبراير) ١٩٢١ لبحث المشاكل العالقة، ومن ضمنها المشكلة الكرديّة، حيث اعتزم الحلفاء إعطاء تنازلات مهمّة في هذه القضية، لكن الحكومة التركية أصرت على أن المسألة داخلية، يمكن حلّها داخلياً، لا سيما وأن الكرد لهم الرغبة في العيش مع إخوانهم الأتراك حسب ما زعمت آنذاك، وأثناء انعقاد مؤتمر لندن، عقدت حكومة أنقرة عدداً من الاتفاقيات الدولية التي كرّست الشرعية الدولية القانونية للنظام الجديد في تركيا… ثم قامت الحكومة الجديدة بإلغاء جميع الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها حكومة الأستانة ومن ضمنها معاهدة سيفر.
كل ذلك أدى إلى تعزيز مكانة الحكومة التركية الجديدة..
وبذلك فشل مؤتمر لندن في توجه ضربة إضافية للآمال القومية الكرديّة.
معاهدة لوزان (١٩٢٣)
جاءت فكرة عقد معاهدة لوزان بعد الانتصارات الكبيرة التي حققتها الحكومة التركية الجديدة على الجيش اليوناني، وبذلك ظهرت تركيا كدولة فتية قوية لأول مرة بعد قرنين، وقامت الحكومة الجديدة بتحسين العلاقة مع جارها الاتحاد السوفياتي، وعقدت مباحثات المعاهدة على فترتين: استمرت الأولى نحو ثلاثة أشهر بين نهاية العام ١٩٢٢ وبداية العام ١٩٢٣، والفترة الثانية استمرت الفترة ذاتها ما بين ربيع وصيف عام ١٩٢٣.
ونصت معاهدة لوزان على أن تتعّهد أنقرة بمنح معظم سكان تركيا الحماية التامة والكاملة، ومنح الحريات من دون تمييز، من غير أن ترد أية إشارة للكرد فيها، كما لم تجر الاشارة إلى معاهدة سيفر، وعدّ الكرد هذه المعاهدة ضربةٌ قاسية ضد مستقبلهم ومحطمة لآمالهم… وبذلك يتحمل الحلفاء المسؤولية الأخلاقية الكاملة تجاه الشعب الكردي ولا سيما الحكومة البريطانية التي ألحقت فيما بعد ولاية الموصل ـ التي يشكّل الكرد فيها الأغلبية المطلقة ـ بالعراق.
وأدّى كل ذلك إلى ازدياد المشكلة الكرديّة تعقيداً بعد أن أصبح الشعب الكردي موزّعاً عملياً وقانونياً بين أربع دول بدل دولتين، لتزداد معاناته وليبدأ فصل جديد من فصول علاقته بالدول الجديدة طغى عليها التوتّر والعنف اللذان لم يجدا حتى اليوم حلولاً عادلة، فيما بدأت الأحزاب والقوى القومية الكرديّة تتشكل لكي تقود النضال والكفاح من أجل حق تقرير المصير.