ملامح «مشروطية» دستورية في كردستان

صلاح بدرالدين
              
              ” دستورنا حلمنا الأزلي الذي تحقق الآن “
                                                  مسعود البارزاني 

    أقر برلمان اقليم كردستان العراق بعد مداولات قانونية ومناقشات سياسية واسعة امتدت لأعوام وشاركت فيها أوسع شرائح المجتمع المدني وممثلي المكونات ووسائل الاعلام الصيغة النهائية لمشروع الدستور المزمع طرحه على الاستفتاء الشعبي وهو أحد أهم انجازات حكومة السيد نيجيرفان بارزاني في الأربعة أعوام الأخيرة بعد جهود مضنية ومناقشات ودراسات امتدت لأكثر من سبعة أعوام ويقارن من حيث القيمة التاريخية لدى الرأي العام الكردي بالدساتير التي انبثقت عن الثورتين الأمريكية والفرنسية والسوفييتية أو عن الحركات الاصلاحية في الامبراطوريات المستبدة مثل – المشروطية – في العهد العثماني والحركة الدستورية الايرانية

وهو انجاز يعتز به وسيعتمد بعد التصديق عليه من شعب كردستان كمصدر تشريعي وخيار استراتيجي ملزمين للحكومات القادمة والنص عبارة عن مقدمة وثمانية فصول ومائة واثنين وعشرين مادة يتضمن بين دفتيه قراءات موضوعية لمختلف الجوانب التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية التي تهم حاضرشعب كردستان ومستقبل أجياله وادارته الفدرالية والعلاقة بالمركز والصلاحيات والحقوق والواجبات وطبيعة النظام السياسي والاقتصادي وشكله الديموقراطي التعددي ولاشك أن النخب الثقافية والسياسية لدى شعوب مناطق التحرر الوطني ومن ضمنهم شعب كردستان أكثر الشرائح الاجتماعية معرفة بقيمة ومكانة بنود الدساتير ومحتوياتها التي تحسم المواقف الثابتة غير القابلة للعبث والتلاعب تجاه كل القضايا بما فيها المختلف عليها والمرجعية الوثائقية المناسبة للهيئات والمؤسسات الحقوقية والقضائية الدولية لنصرة المظلومين المهدورة حقوقهم ولهذا نجد مطلب تغيير الدستور المعمول به أو صياغة الجديد على رأس أولويات برامج حركات التحرر الوطني للشعوب المناضلة والأحزاب الديموقراطية والتقدمية وحركات المعارضة وسائر فئات حركة المجتمع المدني لأنه سيكون الفيصل في تحديد النهج والمسار وانتزاع الحقوق واجراء التغيير وفض النزاعات عبر الحوار السلمي والآلية الأسلم في تداول السلطة وضمان حقوق وحماية المستضعفين طبقيا وقوميا ودينيا ومذهبيا  .


       كانسان كردي سوري قضيت جل عمري في العمل السياسي من اجل التوصل – الى جانب مهام وأهداف أخرى – الى دستور حضاري يعكس واقع بلادي التعددي القومي والاجتماعي والثقافي وجودا وحقوقا كضمانة ثابتة وكنت من المهتمين المتابعين بمشروع دستور الناشط الحقوقي العربي السوري المناضل المعتقل في سجن نظام الاستبداد بدمشق الأستاذ أنور البني الذي طرحه للمناقشة لما اتسم به من واقعية وبعد نظر ومن المعلوم أن مواجهتنا السياسية والاعلامية والجماهيرية وأمام المحاكم وفي تحقيقات أقبية الأمن والمخابرات لأنظمة القمع المتعاقبة على بلادنا تستند في الحيز الأكبر والأوسع على ثقافة رفض البنى الفوقية واعادة النظر في دعائم ومؤسسات الاستبداد ومن ضمنها الدستور المعمول به كما كنت شاهدا على نشوب خلافات بالرأي والموقف منذ قيام الدولة السورية بيننا من ممثلي المكون الكردي وحركته السياسية  من جهة وشركائنا من أطياف المعارضة العربية السورية من الجهة الأخرى حول مضمون ومحتويات دستور سوريا ما بعد الاستبداد وخاصة حول ما يتعلق بوجود وحقوق المكونات الوطنية السورية من منتمي الأقوام غير العربية والأديان غير المسلمة والمذاهب غير السنية وشكل نظام الدولة المنشودة أقول على ضوء ذلك أشعر باعتزاز واعجاب كبيرين بدستور اشقائنا في كردستان العراق وارى فيه نتاج عقود من النضال المجرب وعصارة الفكر السياسي الكردي بمستواه الراهن في المنطقة ومؤشرا لدور كردي تقدمي ديموقراطي مميز قادم على درب المساهمة الفعالة في اعادة بناء الدول على أسس سليمة لتحقيق السلم الأهلي والاستقرار والمصالحات الوطنية والتعايش القومي واشعر في الوقت ذاته مثل اي مناضل قومي كردستاني ديموقراطي آخر بمشاركتي المعنوية غير المباشرة في تحقيق هذا الانجاز العظيم في بداية القرن الجديد المتمثل بالقيم والمبادىء الثابتة  التالية  :   
     أولا – في الهدف الاستراتيجي انطلق الدستور بديباجته من ثوابت التفاعل التلاحمي العضوي والوحدانية غير القابلة للقسمة بين ثلاثي الشعب والأرض والتاريخ ومبدأ حق تقرير المصير السامي الحائز على الاجماع الانساني كأحد أبرز الأولويات التي تصدرت مسيرة الكفاح القومي والوطني  منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا وأمر تحقيقها مرهون للزمن وفعل الأجيال وموازين القوى والمصالح الحيوية لشعب كردستان العراق بجميع مكوناته وطبقاته الاجتماعية المنوط أولا وآخرا بتحديد خياره وحسب ارادته الحرة من دون اكراه المتجسد الآن بالفدرالية المرتبطة بالعراق الاتحادي مادام المركز ملتزما ببنود الدستور الفدرالي والديموقراطية وحقوق الانسان .

والتعايش على قاعدة الشراكة الفعلية بين مكونات كردستان العراق القومية والدينية والثقافية مما يقدم خطابا دستوريا وسياسيا في غاية الشفافية والوضوح غير قابل لتأويلات وذرائع وخطوط رجعة وهو لغة جديدة في شرقنا المبتلي بألف وجه ووجه في الباطنية السياسية واخفاء الحقائق  .
     ثانيا – بخصوص المبادىء الأساسية يحدد الدستور بوضوح كامل وبصراحة متناهية طبيعة النظام السياسي الجمهوري البرلماني الديموقراطي التعددي في الاقليم وحدوده الجغرافية التاريخية رابطا حدوده السياسية – الادارية النهائية بتنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي الاتحادي وفي الوقت الذي يحرم اقامة اقليم آخر داخل اقليم كردستان وهو أمر في غاية الأهمية الاستراتيجية يجيز قيام الادارات القومية حتى الحكم الذاتي للمكونات غير الكردية .
     ثالثا – مايتعلق بالحقوق المدنية والسياسية والحريات العامة الفردية والجماعية حدد الدستور بتفصيل واسع حقوق المواطن وكفلها بالضوابط والضمانات انطلاقا من قيم وثقافة المجتمع الكردستاني والعراقي ومعايير المجتمع الدولي وهيئة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان .
     رابعا – وعلى صعيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تناول الدستور في العمق حقوق ذوي شهداء الحركة التحررية الكردية في العراق وسائر المواطنين  في العمل والضمان والانتاج في سوق اقتصادي حر يحمي المستهلك وحرية التنظيم النقابي والمهني والفني واقامة الجمعيات والنوادي والروابط الثقافية والاجتماعية .
    خامسا – وما يرتبط با الحقوق القومية والدينية للمكونات المتعددة ينص الدستور صراحة على تحديد شعب كردستان بالكرد والتركمان والعرب والكلدان السريان الآشوريين والأرمن معترفا لكل مكون بحق تقرير مصيره بما في ذلك الحكم الذاتي في اطار الاقليم لغير الكرد وممارسة لغته وثقافته وشعائره الدينية بحرية كاملةوهذا ما نشاهده للمرة الأولى في تاريخ الشرق الأوسط دستور يتضمن الحقوق الكاملة لمكونات بلد أو اقليم مع الاعتراف الصريح بوجودها بالاسم كقوميات من السكان الأصليين يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العدد والحجم على قاعدة الشراكة والمصير المشترك .
     سادسا – يحدد الدستور صلاحيات الاقليم وسلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية والعلاقة بينه وبين المركز الاتحادي بصورة واضحة على ضوء بنود الدستور العراقي الجديد في صيغة فدرالية متطورة تأخذ بعين الاعتبار تضحيات وحرمان شعب كردستان خلال عقود وتتناسب مع عبر ودروس تجارب الشعوب بهذا الشأن ومفاهيم المجتمع الدولي بعد مرحلة الحرب الباردة حيال قضية حق تقرير مصير الشعوب المتجسد في الصيغة الفدرالية المتطورة المعمولة بها المأخوذة من التراث الانساني وتجارب الشعوب وميثاق الأمم المتحدة والمتناسقة في الوقت ذاته مع أحداثيات الزلزال العراقي في تغيير موازين القوى ودور كردستان البارز في اسقاط الدكتاتورية ومواجهة الارهاب وخصوصية القضية الكردية ومفاهيم العصروتقديمات القرن الجديد ومن الطبيعي أن ينعكس كل ذلك على شروط ومحتوى الصيغة الفدرالية الجديدة التي يطرحها الدستور ويعجز البعض في بغداد عن فهمها ويتجاهلها البعض الآخر عن سبق اصرار .
     سابعا – مع كل اعجابي السالف الذكر أرى نفسي ملزما بالافصاح عن أمر بغاية الأهمية وهو تجنب الدستور الاشارة المبدئية الى قضية حق تقرير مصيرالشعوب في المنطقة والعالم وبالأخص الشعب الكردي في الجوار الذي يرتبط عمليا بأواصر ثقافية وانسانية وعائلية واقتصادية مع شعب الاقليم من دون أن يعني ذلك أي تدخل في شؤون الآخرين خاصة وأن شعب كردستان العراق لم يزل في خانة التحرر الوطني واذا خلا الدستور من هذا الموقف المبدئي الانساني فلن تجد التيارات السياسية وفئات التكنوقراط التي ستحكم في المستقبل نفسها ملزمة بما تترتب من واجبات قومية وديموقراطية تجاه الكرد خارج كردستان العراق الى جانب ماذكر هناك مآخذ وملاحظات لايمكن القفز من فوقها ومن أهمها ماتردد عن تجاهل الدستور لعدد من المناطق الكردستانية المتنازع عليها وربط الحدود الادارية والسياسية لاقليم كردستان بمصير المادة 140 اضافة الى الطعن في اسلوب الاقرار من جانب البرلمان من حيث الصلاحية القانونية بغية تمريره .
     حاولنا في هذه العجالة تناول الجديد الأهم في بنود مشروع دستور اقليم كردستان حول قضايا أساسية ليست في حسبان أنظمة الاستبداد في منطقتنا وتقفز من فوقها وتتعامى عن معالجتها وعلى رأسها قضايا القوميات ويجب الاشارة هنا الى تشابه كبير مع بنود دستور العراق الجديد الذي شارك في صياغته ممثلو شعب كردستان أيضا وبالرغم من أننا بصدد نصوص الاأنها تشكل الخطوة المفصلية الرئيسية التي لابد منها نحو ترجمتها على الواقع العملي وكل الدلائل تشيرعلى اصرار شعب كردستان في التمسك بدستوره لأنه عنوان تجربته الرائدة الديموقراطية الحرة الفتية  وحصيلة تجارب عشرات السنين وتضحيات مئات الآلاف والتحدي الأكبر أمام الفرصة التاريخية المواتية على الصعد الداخلية والاقليمية والدولية  لتعميق الديموقراطية واجتثاث الفساد الاداري والمالي وترسيخ العمل المؤسساتي الجماعي والاستقرار وحل كل جوانب القضية القومية نهائيا حتى يتم نقل الانجاز التاريخي في كردستان العراق الى الحل النموذجي للقضية الكردية في المنطقة .

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…