دكتاتورية الحرية !!

الدكتور علاء الدين عبد الرزاق جنكو

من حرم قليل الحرية عشق مطلقها، ومن عاش انضباط الدكتاتورية يهوى فوضى الحرية بأي شكل من الأشكال، تلك هي طبيعة الإنسان .
ربما الكثير يتعجب من عنوان مقالتي، ويتساءل هل للحرية دكتاتورية ؟
الكثير منا ممن حرم الحرية في أبسط صورها يفرغ جام غضبه بتصرفات ما يملكه من حرية ناسيا ضوابطها على شخصه ومجتمعه، متصورا أنه يحقق إنجازا يعجز عنه الآخرون !!
وصورة هذه المسالة واضحة فينا فعلى سبيل المثال لا الحصر، نتعامل مع الحرية الشخصية في المجال الأسري بطريقة ننتقم من خلالها من سالبي حريتنا العامة ! وذلك بإفساح المجال أمام كل ما هب ودب متصورين أن وضع الضوابط إنما هو تعاون غير مباشر مع سالبي الحرية !!

ولعلي أقف على أهم ما يجب الحديث فيه وهو النظام الخلقي الذي يحكم مجتمعاتنا الشرقية عامة والكردية على وجه الخصوص.
بات إنكار الشاذ والمنكر عند مرتكبيها تطاول على الحرية الشخصية والأمر بالخير والانضباط نوع من التدخل في شؤون الغير، ولم يبق لنا إلا أن نقول : إن أئمة المساجد على منابرهم يتدخلون فيما لا يعنيهم ، ومعلم المدرسة يحجر على حرية الأبناء ؟!!
والأب يكتم على أنفاس أولاده عندما يمنعهم من الشر ويحكمهم بقبضة حديدية عندما يأمرهم بالفضائل !!

الانفلات الخلقي تعدى ذلك إلى السياسة، فالافتراء على الغير من أجل تلميع صورة (الأنا) واضحة بادية ، والانتقاد البناء بات هدم لأبراج السياسة العتيقة، والوقوف على الأخطاء بات يعرف بالفتنة حتى لو كانت بأصولها .

كل ذلك تطبيقا للحرية في فضائها الواسع ، قتل العادات والتقاليد الإيجابية الحامية للمجتمع كسياج واق يجري على قدم وساق بلا هوادة !!
لا أدري ما الذي يجري لمجتمع تتغير فيه الأحوال من سنة لأخرى بصورة جنونية !!
الكثير يعود بالسبب إلى حالة الفقر الذي يعيشه الناس ، قد أتفق معهم لدرجة معينة ، ولكن أن يؤدي إلى الهلاك الخلقي أعتقد أن ذلك مبالغ فيه .
المطالبة بالحرية من أسمى غايات الإنسان وأنبل المطالب لأنها هبة ربانية لا منة بشرية ، وكل الأديان والمبادئ تدعو إلى ذلك ، ومن يقف في طريقها يكون حجرة عثرة أمام بناء الإنسان !!
ولكن لا بد من بناء صروح الحرية بقواعد صحيحة وصالحة وقوية غير هشة، أساسها احترام الخير المحمي بسياج الأخلاق وحمى المبادئ السامية من خلال مجتمع يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
ولا يفسح المجال أمام تجار الرذيلة بدواعي الحرية ، والأمم تقاس بأخلاقها وقيمها لا بشعاراتها البالونية الفارغة من محتواها !!
المجتمع الذي يكون شعاره (حلال على الشاطر) مجتمع مريض تصعد فيه اللاأخلاقية على حساب القيم والمبادئ السامية ، وتضيع فيه الذمم ، وتفقد الثقة بأصلح الناس فضلا عن الآخرين .

ولا تكاد فئة من أبناء المجتمع إلا وقد ابتليت بهذا البلاء واقصد استغلال الحرية بمفهومها الواسع للأغراض الشخصية .

فالأطباء : يلجؤون إلى ما يسمى بـ (التحالفات التخصصية) فإذا ما جاء مريض مصاب بصداع خفيف في الرأس ، كان ضحية التصوير ، والتحليل، والمعاينة ، وأخير وصفة طبية قد تعادل مصروفه لأسبوع كامل!!!

والمعلمون : يتخذون من الصفوف الدراسية مصائد لصيد الطلاب فيما يعرف بـ (الدورات و الدروس الخصوصية) في صورة جديدة على مجتمعنا ! فمتى كان طالب الصف الأول الابتدائي بحاجة إلى دورة في اللغة العربية أو في مادة الحساب ، وحتى في التربية الوطنية ؟؟!!

والمحامون : الذين لا يتورعون عن قلب الحقائق في سبيل الحصول على عرض من الدنيا قليل ، وبتلاعبات تحكمها الحيلة والخدعة يجعلون الضحية متهمة ، والمجرم بريئاً .

والمهندسون : يتلاعبون بكمية المواد وتوفيرها وأحيانا سرقتها وإنتاج مجمعات سكنية أعمارها الافتراضية خمسون عاما تتآكل في غضون بضع سنوات .

والموظفون : في دوائرهم لا يستمرون بإجراءات المعاملات إلا بالمطالبة برشاوى ويعتبرونها حقا طبيعيا لهم ، وكأنهم يعملون مجانا !!

وحتى لا يفهم من كلامي أني أتهم عموم الناس فالصور التي ذكرتها شائعة بكل أسف في مجتمعنا ، وهناك الكثير من أصحاب تلك المهن ممن يرفضون الانجرار إلى تلك المزالق اللاأخلاقية ويشهد لهم بالخير ويحظون بسمعة طبية بين أفراد مجتمعهم .

ومن يتصور أن الناس غافلون عما يجري يعيش أوهام الجشع والطمع.

والوقوف في وجه هذه التصرفات والسلوكيات ليس حد من الحرية ولا طعن في مرادها بل توضيح لحقيقتها، وتمييز بين مطالبيها بحقها والمتاجرين بها.
لست هنا في موقف الواعظ أو الحاكم بأمر الله ولكني فرد من أبناء مجتمع يرى مالا يقبله العقل ولا النفوس السليمة ، وأعتقد حتى أولئك المتورطين بهذا البلاء يحملون بين جنباتهم جينات الخير ، لكنها تحتاج إلى صحوة من نوم عميق .
كلنا ملتزمون أن نربي أبناءنا على حب الحرية وعشقها ، لكني لا أقبل قطعا أن يكون ولدي فوضويا في حريته ، فجيب أن يعلم أن حدود حريته تنتهي عند حقوق الآخرين .
ومن يتصور أن الحرية تكمن في جانب واحد فقط من حياة البشر يجهل حقيقة الحرية والإنسان !!
وإذا كان من يتصور أن حقيقة الحرية تكمن في إطلاق تصرفات الإنسان في بيئة يحكمها شريعة الغاب ، فأتصور أن قمة الحرية تكمن أن أكون عبدا لله وحده وأتحرر من عبودية مخلوقاته ، وأن لا أسجد لشجر ولا حجر ولا درهم ولا بشر !!
حينها سأعيش نعيم الحرية ونسيمها حتى لو كنت محروما منها ، لأني سأتحرر من دكتاتوريتها وبطبيعة الحال سأكون متحررا من دكتاتورية الفوضى …

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…