علي الجزيري
من المفيد قوله بداية ، ان وسا ئل الاعلام الرسمية في سوريا ، با تت تصّعد في الآونة الأخيرة من وتيرة التشدق بمقوله الوحدة الوطنية ، حتى وصل الأمر ببعض مدبجيه الى القول بأن سوريا رائدة على هذا الصعيد … !
هذا من جانب ، ومن جانب آخر راح منظرو هذه المقولة ـ حين تحاججهم بالأدلة الدامغة ـ يؤكدون على الطالع والنازل ، بأن سوريا تمر بظروف استثنائية (….!) وتتعرض لضغوض داخلية وخارجية شتى ، بغية النيل من مواقفها ، ناهيك عن التحديات المصيرية ؛ التي تتطلب من الجميع ـ على اختلاف مللهم و نحللهم ـ تأجيل قضاياهم ، ريثما تتوفر الظروف المناسبة لطرحها على بساط البحث وإيجاد الحلول المناسبة لها …!
وفق هذا المنطق الذرائعي ، يستبعد النظام مشاركة الكرد منذ تسلمه السلطة عام 1963م ، ويماطل في التخلي عن السياسات التمييزية والمشاريع الاستثنائية ورفع الظلم عن كاهلهم .
ومما يثير السخرية حقاً ، ان مهندسي سياسته هذه ، مازالوا يتأملون من (الرعية / الضحية ) مزيداً من الانتظار والتريث ، وإلا أتهمت بالولاء لجهات خارجية متربصة بسوريا ، تساوقاً مع نظرية المؤامرة التي يُروج لها أبواقه بين الفينة والأخرى .
ومما زاد الطين بلة ان معظم المثقفين والسياسيين المخدوعين ، داخل الجبهة وخارجها ، والذين تشكل ثقافتهم إجتراراً أو إعادة إنتاج لهذه الثقافة المضللة ، باتوا يرقصون على أنغام هذه السمفونية ، التي تخوِّن الآخر وتقلل من شأنه ؛ ولا يحركون ساكناً إزاء السياسة العرجاء هذه ، التي خلقت لدى الكردي شعوراً عميقاً بالاغتراب من جهة ، وألحقت ضرراً بالغاً بمفهوم الوحدة الوطنية و بسمعة سوريا من جهة أخرى .
فالاخفاق في تشييد وصيانة بنيان الوحدة الوطنية وسبل تعزيزها على أرض الواقع ، سببه أولاً وأخيراً سياسات التشويه والتسطيح الشوفينية ، التي طالت مفهوم الوحدة الوطنية ، حتى غدا مصطلحاً مبتسراً ، مثله في ذلك كمثل كل المفاهيم التي نخرت من الداخل بعد ان مُرِّرت على فلترة التبعيث …
ومن الطبيعي أن نتساءل : وما العمل ؟ فيقال : ان الحل السحري يكمن في الديمقراطية وما عليكم سوى الانتظار من جديد !.
وبالمناسبة ، فإن هذه المعزوفة الدارجة هذه الأيام ، على غرار معزوفة الوحدة الوطنية السالفة الذكر للبعث أو معزوفة الشيوعيين المتمثلة في النضال من أجل الاشتراكية أو معزوفة إقامة دولة الحق للاسلامويين ؛ والتي ساقتها شتى التيارات السياسية واعتبرتها قضايا أساسية تقتضي الضرورة تأجيل القضية الكردية إكراماً لها .
لا مناص من القول بضرورة التغيير الديمقراطي ، الذي يستوجب بداية إعادة النظر في بنية الذهنية السائدة وآلياتها ، وهذا بدوره يتطلب نبذ الرؤى الايديولوجية المروجة لثقافة إقصاء الآخر وتبخيسه ، والساعية لخلق فتنة ، من خلال إستعداء العرب على إخوتهم الكرد أولاً ، واشاعة ثقافة الاعتراف بالآخر والاقرار بحقوق الكرد دستورياً كثاني قومية في البلاد ثانياً ؛ فقد آن الأوان لتحكيم العقل وقراءة الواقع العياني قراءة متأنية ، تنطلق من التعددية السياسية والقومية ، وتسعى لترميم أواصرالصلة بين جميع أبناء سوريا ، على إختلاف مشاربهم .
وهذا يتطلب في الوقت نفسه من الحركة الكردية ، رغم ظروف العزلة المفروضة عليها منذ تأسيس أول تنظيم كردي عام 1957 ، أن تضع حداً لتشرذمها غير المبرر، ونبذ أجواء المهاترات والانفعال وردود الأفعال اللاديمقراطية بين فصائلها ، والسعي لتجسيرالهوة بين القول والفعل ، للوصول الى مرجعية كردية تجسد إرادة شعبنا وكل قواه السياسية وفعالياته ونخبه الثقافية والاجتماعية الحية ، والمضي قدماً للارتقاء بوعي الجماهير الكردية وتعزيز أساليب النضال السلمي لنيل الحقوق القومية المشروعة لشعبنا الكردي في سوريا .
ولعلنا لانجانب الصواب ان قلنا بأن المعضلة التي تواجهها سوريا اليوم ، تكمن في صعوبة تلمس الطريق نحو الديمقراطية التي تتطلب مشاركة سياسية واسعة لصنع القرار، عبر آليات معاصرة ، تقتضي ـ بالضرورة ـ المثول لمنطق الحوار.
لكن ، عملية الانتقال العسيرة هذه نحو الديمقراطية ، تطرح ـ بداية ـ الاحتمالات التالية :
الاحتمال الأول ـ هو أن يبادر حزب البعث ـ كونه قائد الدولة والمجتمع وفق المادة الثامنة من الدستور ـ الى دفع البلد للانخراط في هذه العملية ؛ لكن خطوة من هذا القبيل مرهونة بتقديم المزيد من التنازلات والتخلي عن كثير من الامتيازات بما فيها المادة الثامنة السالفة الذكر ، ثم الاعداد لعقد مؤتمر وطني عام ، تحضره كل القوى الممثلة للمجتمع بكافة فئاته وشرائحه واثنياته .
الا ان هذا الاحتمال يبدو بعيد المنال ، بسبب طبيعة النظام البنيوية ، التي ظلت بمنأى عن التحولات النوعية رغم التغييرات العاصفة الاقليمية والدولية ، والله ـ كما جاء في الذكر الحكيم ـ لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
لذا ، نجده يتذرع تارة بالتعددية السياسية المتمثلة بما تسمى ( الجبهة الوطنية التقدمية ) ، وهي بالمناسبة جبهة مناسبات ، لا حول لها ولا قوة ؛ وتارة أخرى بادعائه من أن : ( الديمقراطية تحتاج الى نضج الشعب ، حتى لاتنقلب الى فوضى ، وانه بالتالي من الضروري تأجيلها الى أن يتحقق هذا النضج ، فهو قول يمكن دفعه والرد عليه بأن نضج الشعب للديمقراطية لايمكن أن يتحقق إلا من خلال ممارسة الديمقراطية ، تماماً مثلما أن الطفل لا يتعلم المشي إلا من خلال ممارسة المشي ) ( د .
محمد عابد الجابري ـ الديمقراطية وحقوق الانسان ).
الاحتمال الثاني ـ كأن يضطر البعث للولوج في عملية الدمقرطة نتيجة للضغوط الداخلية والخارجية على السواء ؛ وهذا بدوره يفترض وجود معارضة ديمقراطية وفعالة ، تحول دون اعادة انتاج نظام شمولي بديل ، وتؤمنُ بالتداول السلمي للسلطة وتمتثل لنتائج صناديق الاقتراع ، وتسعى قدماً لمأسسة قوى المجتمع المدني ، كي تمارس حريتها على قدم المساواة .
لكن ، ولسوء الأسف ، لاتبدو في الآفاق بشائر للتعويل على هذا الأمر أيضاً ، رغم ارتفاع أصوات هنا وهناك وفي هذا الظرف أو ذاك تطالب بالديمقراطية ، لأنها في الغالب الأعم : ( منبعثة من صفوف النخبات القديمة المزاحة عن السلطة أو من فروعها وامتداداتها التي لم تنل بعد نصيبها منها ـ عبد الحليم خدام / مني ـ الى جانب أصوات أوسع مدى وأقوى دوياً ، في الوقت الراهن ، وفي مقدمتها جماعات ترفع شعار الاسلام هو الحل ـ الاخوان المسلمين / مني ) ( د.
محمد عابد الجابري ـ نفس المصدر ).
وهاهنا ، يحق لنا أن نتساءل إنطلاقاً من تجربة المعارضة العراقية التي أقسمت باليمين وأحنثت بالشمال ، فيما اذا كانت هذه القوى ترفع شعار الديمقراطية وهي في المعارضة فقط أو تؤمن بها حقاً بعد وصولها الى السلطة ؟ فاذا كانت تؤمن بها ، فلا بد أن يتجسد ذلك في ممارساتها الداخلية وعلاقاتها بالحركة الكردية على حد سواء وبرامجها لحل القضايا الوطنية العالقة بما فيها القضية الكردية في سوريا ، وإلا إنتفت مصداقية دعاواها .
الاحتمال الثالث ـ وأعني به الفرج القادم من الخارج .
وقد خبرَ شعبنا النموذج السوفييتي ، الذي شابته البيروقراطية والجمود العقائدي واستشرى فيه الفساد والاستبداد ، ومارس الترويس في حق الشعوب التي كانت تحت مظلته ، ناهيك أنه كان يشكل ظهيراً لأعتى النظم الدكتاتورية ، في الوقت الذي كان يتهرب فيه من مناصرة قضية شعبنا العادلة ؛ أما النموذج الغربي ، فبالرغم من أن ديمقراطيته السياسية قد حققت بعض المكاسب على الصعيد الاجتماعي ، الا أنه ما زال بعيداً عن تحقيق العدالة الاجتماعية المتوخاة ، ومازالت القضايا القومية تنتظر الحل في العديد من الدول التي تندرج تحت منظومته ، فضلاً عن مسؤولية الغرب التاريخية في تجزئة أرضنا وفقاً لخارطته الجيوسياسية تبعاً لتوازن القوى التي كانت لاتبتغي سوى جني المغانم على حساب الجماجم ليس إلا ؛ وبالمحصلة ، لانجانب الحقيقة ان قلنا من الصعوبة بمكان عقد الآمال على الخارج المتهافت وراء مصالحه .
نخلص مما تقدم ، أن آفاق التغيير الديمقراطي مازالت بعيدة المنال نسبياً في سوريا ، بسبب الظروف الذاتية والموضوعية في آن .
إذاً ، فالتريث ـ الذي سئمناه ـ تحت حجة أولوية النضال في سبيل الديمقراطية ، تلك المعزوفة التي تُطرب اليوم قوى المعارضة في الداخل والخارج وبعض الأوساط الكردية ، أثبتت التجارب المُرة لشعبنا ولبقية الشعوب بطلانها ، لأن القضية القومية مازالت تنتظر الحل ـ كما أسلفنا ـ في بلدان ديمقراطية عريقة ( المسألة الايرلندية وقضية الباسك) ؛ وهذا لاينفي القول ، من أن الديمقراطية ستسهل سبل حل المسألة القومية بكل تأكيد .
فالقضية الكردية ، كما يقول الأخ ( مسعود البارزاني ) ، رئيس اقليم كردستان العراق : [ ليست قضية مواطنة فحسب ، كي تعالج في جو ديمقراطي ، بل ان قضية الكرد ، هي مسألة سياسية ووطنية وقومية ] ، لاتحتمل التأجيل أو الانتظار ، تحت أية ذريعة مهما بلغ شأنها .
ciziri@gmail.com
27/7/2006