نوري بريمو
في بداية النصف الثاني من القرن الماضي وما تلاها من عقود زمنية تعرّض خلالها مسارنا السياسي الكوردي لمختلف المعوَّقات، وبما أنّ الحزب الديمقراطي الكوردستاني في سوريا كان حديث الولادة ويمرّ بأطواره التأسيسية الأولى، فقد كان من المتوقع أن يكون مستهدَفاً ويتعرض لمزيد من المحاربة والمنع وتشتيت الشمل من قبل الحكومات السورية المتعاقبة ودوائرها الشوفينية التي تعاملت مع البارتي بعقلية أمنية وبروحية عدائية اعتبرت ولادته خطرا عليها، ما أدى إلى محاصرة هذا الحزب القومي الديمقراطي الحامل لراية الدفاع عن قضيته العادلة، وقد ترافق ذلك مع تعرّض شعبنا المرتبط بأرضه لسياسة شوفينية جوهرها تدابير استثنائية وعنوانها إنكار الحقيقة الكوردية كثاني أكبر مكوِّن قومي في سوريا، وما أدى أيضاً إلى حدوث متوالية من الانشقاقات المؤسفة التي حصلت على خلفيات موضوعية خارج الإرادة وأخرى ذاتية خاضعة للإرادة الكوردية التي باتت مستهدَفة وشبه عاجزة عن رفع الحيف عن كاهلها.
أولاً: بعض العوامل الموضوعية لأزمة حركتنا الكوردية:
عندما نطالب تكراراً بضرورة كفّ الجانب الكوردي عن تأجيج خلافاته البينية، وفي الوقت ذاته نؤكد بأنّ اهتمامنا الرئيسي ينبغي أن ينصب على كيفية التصدي للعوامل الخارجية المسبِّبة لأزمتنا التي نغوص وسطها جمعاً، نستند في ذلك على أنّ تناقضنا الرئيسي هو ضد الدوائر الغاصبة لقضيتنا أرضاً وشعباً، لأنّ جلّ ما نعانيه اليوم هو من صنيعة الآخرين، وبناء عليه نود إبراز بعضا من العوامل الموضوعية لأزمتنا والتي يمكن تلخيصها بما يلي:
1 ـ كافة الأنظمة التي تعاقبت على حكم سوريا في كل الأزمنة كانت الطرف الرئيسي الذي استخدم مختلف أجندته التي داهمت ديارنا وخططت لأزمة التشظي التي عانت وتعاني منها حركتنا الكوردية، حيث عمِلت السلطات السورية على حظر البارتي الأم ومنع نشاطه عبر إتباع شتى أساليب الترهيب والترغيب ودسّ مختلف الدسائس بين قياداته التي تفرق شملها بين اليمين واليسار والمعتدل والماركسي والراديكالي و…إلخ، ليس هذا فحسب بل واظبَتْ الأجهزة الأمنية على طول الخط في مسعى شراء بعض الذمم وزرعها كالأسافين في مسيرة الحراك الكوردي، تلك الأسافين عملت ولا زالت على شرذمة وتقسيم الصفوف.
2 ـ غالبية القوى والحركات والأحزاب القومية العربية (الحاكمة والمعارضة كالبعث والناصري والإخوان المسلمين والقومي سوري…) لم تسلك سلوكاً ديمقراطيا منفتحاً على الكورد وإنما تمسَّكتْ بتفكيرها الأكثري وتمترسَتْ وراء شعاراتها العروبية التي حاربت ولا تزال تحارب الخطاب السياسي الكوردي وذلك في محاولة منها لاختزاله كي يتخلى بموجبه الجانب الكوردي عن كوردستانيته وخصوصيته القومية وتحويل قضيته المرتبطة بالشعب والأرض إلى مجرّد إشكالية مواطنية سورية ليس إلا.
3 ـ الحزب الشيوعي السوري بغالبية أجنحته المنشقة على بعضها والمصطفة حالياً مع جبهة موالاة النظام، والتي كان لها نشاط واسعا في مناطقنا إبان تأسيس البارتي، لم تردَّ الجميل الكردي الذي احتضن الشيوعية في بداية نشوئها، وقد أساءت ولا تزال تسيئ لمسيرة حراكنا القومي الديموقراطي، فقد نظر الشيوعيون السوريون إلى البارتي نظرة عدائية واعتبروه منافسا صاعدا وقويا لا بل صاحب حق وريع وبديل عنه في المناطق الكوردية، ولذلك وقف الشيوعيون بالضد من حركتنا الكوردية ووصفوها بالقومجية والانعزالية و…إلخ، ما أدى إلى عزلهم في مناطقنا وبالمقابل دخول الجانب الكوردي في صراعات جانبية كان بغنى عن خوضها ضد الرموز الشيوعية.
4 ـ المخططات والمؤامرات الإقليمية التي كانت تحيكها الدول الغاصبة لكوردستان ضد الشعب الكوردي، إذ كان للكورد في سوريا نصيب من الخسائر، خاصة وأن مناطق كوردستان سوريا تمتد على شريط حدودي يتجاوز طوله حوالي 500 كم على إمتداد الحدود السورية والتركية والعراقية، ما جعل المناطق الكوردية عرضة أو فريسة سهلة لألاعيب استخبارات تلك الأنظمة الغاصبة لأرضنا ولحقوق شعبنا، وما أدى إلى حدوث اختراقات أمنية كثيرة وضعت حدا لنضال حركتنا وعرقلت تحركات نشطائها.
5 ـ القضايا الدولية الساخنة التي كانت تطفو على سطح الأحداث العالمية وخاصة في زمن الحرب الباردة والتي كانت تفرض توازنات سياسة دولية معينة أدت فيما أدت إلى تهميش ملفات كثيرة وبقائها عالقة في بلدان مشرقنا التي كانت منضوية تحت هيمنة هذا القطب العالمي أو ذاك، ويُعتبَر ملف كوردستان سوريا من الملفات السياسية التي بقيت مطوية ولم تجد لها أية فسحة للرواج على الصعيد الدولي حتى الحين، ولعلّ غياب القيادة السياسية الكوردية كلاعب دبلوماسي خارجي مردَّه هو خوفها من تهمة “التعامل مع الأجنبي” المسبقة الصنع والتي لا تزال تلازمنا وترهب معظم مسئولي أحزابنا الذين يبدو أنهم محتارون ولا تتعدى رؤاهم حدود التفكير والنشاط في الداخل السوري “القمقم” الذي بات سجناً جماعياً حسب رأي الجميع.
ثانياً: بعض العوامل الذاتية لأزمة حركتنا الكوردية:
رغم ثقل أعباء العوامل الخارجة التي أسعفتنا ذاكرتنا وتطرّقنا لها في هذه القراءة التي نجريها تحت أضواء الشمعة (52) لميلاد حزبنا (البارتي) الذي هو امتداد طبيعي لبارتي ديموقراطي كوردستان سوريا، إلا أنّ هنالك ثمة عوامل ذاتية كثيرة ساهمَتْ وأدت بهذا الشكل أو ذاك إلى إدخال الجانب السياسي الكوردي في دوامة الانقلاب على الذات والمضي في مسلكية الانشقاقات والاستسلام للأزمة التي يبدو أنها باتت مستعصية، ولعلّ أبرز تلك العوامل هي:
1 ـ ضعف خبرة وثقافة الرعيل الأول المؤسس للبارتي مع احترامنا الشديد لدورهم التاريخي الذي نعتز به، إذ أنّ عدم تجانسهم الفكري والمجتمعي قد أديا إلى بروز الاختلافات البينية في وجهات النظر حول العديد من المسائل المصيرية، ما كان من شأنه خلق المزيد من الافتراقات التي أدت فيما أدت إلى الانشقاق الأول الذي تولدت عنه عمليات انشقاقية متلاحقة ومؤسفة ولم يكن لها أية مبررات أو خلفيات بناءة وإنما يمكن وصفها بالمزاجية، إذ كان يتم في أغلب الأحيان شخصَنة وتأزيم المسائل بدلاً من تشخيصها والبحث عن حلول لها، فتحولت كل تلك الخلافات الصغيرة إلى مسببات احتقان للحالة التي تأزمت رويدا رويدا حتى آلت بنا الأمور إلى ما نحن عليه من التشتت وضيق الأفق الحزبوي الذي أدى وقد يؤدي بنا للمزيد من البلاوي.
2 ـ ردة الفعل الخاطئة التي وقعت فيها قيادات الجيل الثاني لحركتنا، فبعد أن تكثفت عليها ضغوط السلطة والسلطويين والشيوعيين والبعثيين والإخوان وغيرهم، لم يجدوا أمامهم سوى اللجوء بشكل مجاكراتي تنافسي صوب الاحتماء بالماركسية اللينينية التي كان نجمها يسطع ألقاً آنذاك، والتي لم يكن بوسعها إبان الحرب الباردة أن تخدم حالتنا القومية التي كانت بغنى تام عن الدخول في مثل هكذا صراعات طبقية كان يمكن الترفع عليها وتجاوزها واعتبارها خلافات جانبية لولا مواقف “اليسارية المصطنَعة بغالبيتها” لا بل الشطحات اليسارية التي حشرت أنفها وسط قياداتنا التي كانت منها بريئة رغم إدعائها بتبنيها أو الاهتداء بها، إذ أنّ تلك التوجهات اليسارية التي شاركنا في الترويج لها بهذا الشكل أو ذاك، قد أضرّت بنا بدلا من أن تنفعنا، فحالتنا القومية المقهورة كانت ولا زالت أحوج ما تكون إلى تداعي وتوافق كافة فئات شعبنا وعدم تفضيل أية شريحة مجتمعية على أخرى لتجنب الوقوع في فخاخ ومطبات الصراع الاجتماعي الذي وقعنا فيه ماضياً فألحق بنا أفدح الأضرار.
3 ـ السلوك السلبي للفئات الكوردية الميسورة تجاه تنظيمات الحركة الكوردية بذريعة أنّ أحزابها ذات “ميول شيوعية” وتوجهات يسارية تفضل الصراع الطبقي على النضال القومي الذي يخدم مجموع الشعب الكوردي، إذ كان المطلوب من البرجوازية الكوردية رغم تعرضها لبعض من حملات التشهير على أيادي نشطاء حركتنا السياسية مع الأسف الشديد الذي يستدعي الاعتذار من كافة العشاثر والعائلات الوطنية الكوردية المخلصة لقضيتها، أن تحتضن هذه الحركة على علاتها بدلاً من أن تعاديها وتحاصر نشاطها.
4 ـ هجرة العديد من الكوادر السياسية والثقافية الكوردية من صفوف حركتنا، بسبب نزوع أولئك المثقفون صوب خدمة مصالحهم الشخصية التي كانت تتضرر بسبب ثبوت انتمائهم إلى الأحزاب الكوردية، خاصة وأنّ السلطة كانت تستخدم معهم سياسة العصا والجزرة التي أنتجت حالات انتهازية لا حصر لها.
5 ـ انتهاج أحزاب حركتنا في هيكليتها التنظيمية لأنظمة داخلية غير ديمقراطية ومستنبطة من الهيكلية اللينينية لا بل الاستالينية الصلفة، ما أدى إلى نفور العديد من الكوادر ذوي التوجهات الديموقراطية من العمل الحزبي، لكونها كانت تتظاهر بأنها تستاء من النضال في ظل العقلية الفردية لبعض قيادات الأحزاب الكوردية، في حين أنّ الواجب القومي كان يفرض على الجميع أن يتحلوا بالصبر على الشدائد الذاتية بهدف الارتقاء بالحالة والخلاص من حالة القهر الآخري المفروضة علينا عبر الأزمان.
6 ـ صحيح أننا كنا ولا نزال مدينون لإخواننا في باقي أجزاء كوردستان، الذين كان لهم دورا إيجابيا في نشر الوعي القومي وسط شارعنا إلا أن الخنادق الكوردستانية المتخالفة هناك قد لعبت في بعض الأحيان أدوارا سلبية على وحدة حركتنا، فقد أدت انشقاقاتهم الداخلية في كثير من الأحيان إلى مثيلات لها وسط حركتنا السياسية في كوردستان سوريا، ما أدى إلى تقاسمها للنفوذ وسط شارعنا الذي كان يدير ظهره لقضيته المركزية جراء تخالف تلك الخنادق، ولعلّ أبرز الشواهد على ما نقوله هو الانشقاق الأول الذي حصل في أواسط الستينات من القرن الماضي، والذي أدى مباشرة إلى تحوّل البارتي إلى ثلاثة مجموعات هي: “يمينية” بقيادة حميد درويش، و”يسارية” بقيادة صلاح بدرالدين، و”حيادية” تمسكت بخط البارتي وناشدت لوحدة الحزب وآثرت على نفسها عدم الانجرار وراء الانشقاقيين وصبرَت حتى حضرَت كطرف إيجابي في المؤتمر التوحيدي الذي استضافه ورعاه الزعيم الكوردستاني الخالد مصطفى البارزاني في كوردستان العراق سنة 1970، لكنّ قيادتا اليسار واليمين أصرتا بعد المؤتمر مباشرة على المضي في انشقاقهما ولم تلتزما بقرارات القيادة المرحلية التي عاهدت على نفسها مواصلة مسيرة البارتي وفق وصايا البارزاني الخالد الذي يُعتبَر رمزا لتلاقي وتوحيد صفوف الكورد في كل مكان، حيث لم يكترث لا اليمينيون ولا اليساريون بقرارات ذلك المؤتمر التوحيدي الذي يمكن اعتباره نقطة تحول مضيئة في تاريخ البارتي، وقد دفعت قيادة البارتي ضريبة تمسّكها بنهج البارزاني فقد تم اعتقالها بالجملة حينذاك على مدى ثماني سنوات.
7 ـ الدور السلبي لرجالات الدين الإسلامي الذين نقدر مكانتهم ودورهم في إصلاح المجتمع والذين تحاملوا دون وجه حق ضد نضال ونفوذ أحزابنا السياسية عبر الإفتاء ضدهم ظلما وعدواناً بتهمة الإلحاد والكفر!؟، ما كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى ابتعاد شرائح كثيرة من المتدينين البسطاء عن صفوف حركتنا العلمانية الديمقراطية التي لم تكن في أي يوم من الأيام ضد أي دين سماوي، وللعلم فإن برامج كافة الأحزاب الكوردية تحترم الأديان وتقرّ بحرية المعتقدات الدينية للإنسان الكوردي.
8 ـ لقمة العيش التي ربطها النظام السوري بوجوب تراتل كافة المواطنين في صفوف الموالاة، جعلت نسبة كبيرة من مواطنينا الكورد تتهرّب من تنظيمات أحزابنا وتلتحق بشكل اضطراري ومصالحي بطوابير البعث المصفقة لانتهاكات أهل الحكم الذين غمسوا رغيف خبز الإنسان السوري بوجوب ركوعه لبيت الطاعة والتمسّح في عتبات الدوائر السلطوية التي تنفق ملايين الليرات لشراء ذمم مختلف السوريين وليس الذمم الكوردية فقط.
9 ـ الطبع العاطفي الذي كان طاغيا على الغالبية العظمى من مسئولي أحزابنا الذين لم يمارسوا السياسة كعلم وفن وتخطيط!؟، وإنما مارسوها من باب العاطفة القومية ومن قبيل إرضاء الذات والآخرين أو كأداء تنظيمي يومي حسب مبدأ جود بالموجود، ما أدى بالهرم الحزبي إلى الرضوخ لنمطية أوامرية أدت فيما بعد لتحويل أحزابنا إلى مجرد مجموعات تابعة لأسياد قد لا يكونوا أهلاً لتلك المناصب قياساً مع شحَّة مخزونهم الثقافي وضف عطاءاتهم السياسية ونقص مساحة نفوذهم الاجتماعي في المناطق الكوردية.
10 ـ الحياة الداخلية اللاديمقراطية لأحزابنا الكوردية، أدت إلى تضييق فسحة الحوار وعدم المقدرة على حل الخلافات الحزبية وإلى تعميق الأزمات الداخلية وإلى توتيرها بدلا من حلها، ما كان يؤدي في أكثر الأحيان إلى تفاقم الخلافات الصغيرة وتحويلها إلى إنشقاقات لامبرر لها، في حين لو أن قياداتنا امتلكت قدراً من الثقافة الديمقراطية لكانت وجدت الحل الشافي لكثير من مشاكلها دون اللجوء إلى مسائل الفك والتركيب البعيدة كل البعد عن أبسط مبادئ الإخلاص للقضية.
كانت تلك بعضاً من المسببات التي أدت إلى الإنشقاقات العديدة المتتالية التي داهمت جسد حركتنا السياسية والتي أدت فيما أدت إلى إدخالنا وسط دوامة أزماتية قابعة فوق صدورنا دون أن نتمكن من التغلب عليها حتى الأن، ورغم أن معظم قياداتنا كانت تنساق في معظم الأزمنة صوب تقسيم وتقاسم نفوذ أحزابها فيما بينها، لكن كان هنالك على الدوام ثمة محاولات جادة لتحقيق التلاقي وتوحيد الصفوف…، حيث كانت ولا تزال هنالك كوادر قاعدية وقيادات مخلصة ترفع شعار: تغليب التناقض الرئيسي على مادونه من التناقضات بقصد خلق فرص أكثر للتلاقي وتوحيد الصفوف، وبناءً عليه استطاعت قوى الخير المتوزعة في تنظيمات هذا الحزب أو ذاك، تشكيل بعض التحالف والجبهات والوحدات التنظيمية، لكنها لم تنجح في هذا المسعى وفق الشكل المطلوب!؟.
ثالثاً: البارتي واستحقاق تلاقي وتوحيد صفوف حركتنا الكوردية
في إطار مراكمة وتكثيف مختلف الجهود الخيّرة المبذولة من أجل تلاقي وتوحيد صفوف حركتنا الكوردية المحتاجة لإطار موحد بمقدوره أن يضع حداً لأزماتنا الناجمة عن الاصطفافات الاعتباطية، وفي سياق هذا المضمار التوحيدي وليس من قبيل المديح وإنما لتبيان جزء من الحقيقة، فإنّ حزبنا ـ الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) ـ الذي يستمد قوته من تنظيماته المنتشرة في الداخل والخارج والذي ينال شرعيته من جموع جماهيره المؤيدة لخطه السياسي السائر على هدى نهج البارزاني الخالد الذي لطالما ضحى من أجل وحدة الصف الكوردي…، يبذل (أي البارتي) محاولات جادة في سبيل تقريب وجهات نظر أحزاب حركتنا الكوردية في سوريا، منطلقا في مسعاه البناء من ثوابته الوحدوية المتأصلة في سياسته الرامية للحدّ من ظاهرة الانقسام التي لا تزال تنخر في جسد هذه الحركة التي نعتبرها مكسباً لا بل إنجازاً تاريخياً تعرّض ولا يزال يتعرّض لمحاولات النيل منه.
ورغم مختلف محاولات إصلاح ذات البَين التي كانت تجري هنا وهناك وبين الحين والآخر والتي لم تجلب لنا أية فائدة مرجوّة حتى الحين، علماً بأنّ مطلب لمّ شملنا ورصّ صفوفنا كان ولا يزال غاية جماعية ملحّة يؤكد عليها كل الكورد في كل زمان ومكان ومناسبة، ورغم سوء أحوال حركتنا وتباطؤ أدائها، وبما أنّ لكل مرحلة تمضي حسابات خاصة بها ومواقف معينة منها ومسارات محددة لها، فإنّ البارتي كان وسيَسير في هذه الدرب الوحدوية المشرّفة وسيتابع المسيرة ولن ييأس وسيبقى يتفاءل بالمستقبل ويتطلع نحو الأفضل ويستأنس خيراً في إجراء المصالحة حول طاولة كوردية مستديرة رغم الاختلافات القائمة بين فرقاءها الذين هم شركائه في العمل والمصير، ويعتبر بأنّ هذا التطلّع الوحدوي هو حق مشروع لا بل واجب مفروض علينا جميعاً دون أي استثناء، وهو في الوقت ذاته شكل نضالي راقي جداً من أشكال الحراك الديمقراطي الذي ينبغي الالتزام بأسسه وبأخلاقياته وضوابطه للتغلب على إشكالياتنا الذاتية الكثيرة التي بتنا نعاني من وطأتها جيلاً بعد جيل وهكذا دواليك، خاصة وأننا أضحينا على عتبة لا بل إننا دخلنا في متن راهن دولي وشرق أوسطي وكوردستاني وسوري من طراز جديد بكل معطياته وحيثياته التي توحي لمجرّد قراءته بشكل أولي، إلى أنه قد يؤدي بتداعياته المتشعبة إلى تحويلة سياسية نوعية، ينبغي التعامل معها وفق منطق جماعي، لكونها أي هذه التحويلة السورية الحساسة قد تجلب لاحقاً مختلف المستجدات والاحتمالات لنا ولغيرنا، وقد تنعكس بشكل إيجابي على قضية شعبنا التواق إلى الحرية والعيش بأمان واستقرار، هذا فيما إذا كنا أهلاً متضامنين مع بعضنا ومخلصين لقضيتنا ونمتلك الآهلية المطلوبة لمراجعة الذات واستثمار أيّ استحقاق مقبل.
وفي هذه الدرب الوحدوية الشائكة…أي في درب نبذ الواقع الانشقاقي وبهدف تقويم الحراك الكوردي العام وتنظيمه في إطار مؤسساتي ديمقراطي جامع، أكد البارتي مراراً ويؤكد تكراراً على ضرورة الالتزام بالتوجهات الوحدوية وتعزيز مفهوم التنافس الديموقراطي ضمن إطار الكل الكوردي المختلف، وعلى وجوب البحث عن السبل المعرفية الكفيلة بحل أزمة حركتنا والارتقاء بها إلى سويّة نضالية أرقى، وعلى لزوم الإقرار بحاجتنا الماسة إلى قيادة موحدة تقود نضالنا القومي الديموقراطي في البلد عبر تمثيل الكورد في مختلف المحافل السورية القائمة والمقبلة على التغيير على وجه السرعة.
واليوم وفي مناخات هذا الراهن السوري الذي يتطلب القيام بنضال نوعي يستمد زخمه من القيام بالأنشطة الميدانية، فإنني أرى بأنّ الواجب القومي والوطني يقتضيان منا جميعا ـ أياً كانت التزاماتنا وأينما كانت مواقعنا الحزبية والمجتمعية ـ تلبية الدعوة إلى تشكيل مجلس سياسي موحد بدون وجود أية اشتراطات مسبقة الصنع، إذ من المرتجى أن ينبثق عن مثل هكذا حضور مسؤول قرارات وخطط عمل آنية ومستقبلية كثيرة قد تنفع في تقويم مسار الكورد.
وفي هذا المجال فإنني أعتبر بأن الخيار الوحدوي للبارتي هو خيار سياسي رابح قد يخدم استحقاق المرجعية الكوردية، لأنه يُعتبَر في الوقت الراهن هدف أهلي عام وأفضل بلسم قد يشفي جراح جسد حركتنا المبتلية بالعديد من الأوبئة، وذلك في ضوء ما هو متوفر من الحلول والإمكانيات، على طريق إنقاذ بيتنا الكوردي من حالة اليأس التي يعاني منها والذي كان ولا يزال أسيراً لخلافات مجاكراتية عالقة أدت فيما أدت إلى التعدّدية الحزبية المفرَطة لا بل إلى حالة مرَضية مخيفة يمكن توصيفها بالتشظي المؤسف، علماً بأنّ هذا البيت يحتاج إلى المزيد من الألفة والتفاهم لتحصينه من الداخل وتفعيله سياسياَ والارتقاء به إلى سوية أدائية أكثر فعالية، عسانا نتمكن من معالجة آثار الشلل الذي أصاب نضال حركتنا.
وبهذا الصدد المصيري للغاية، وبما أن غالبية أحزابنا وخاصة الرئيسية المعنية منها بشأن الإتيان بهكذا محفل كوردي مسؤول، قد أصبحت تدرك إلى حدّ لا بأس به، حجم وماهية مخاطر حالة التشتت وما يترتب عليها من عواقب أخرى قد تكون وخيمة، حيث لا مضرّة توازي أضرار التفرقة، فهي قد تلقي بشعبنا إلى العدمية القومية لا بل إلى الانقراض المتربص به…، فإنّ أشد ما يؤلم الرأي العام الكوردي هو بروز قلّة من الأفراد “المستقلين” والمجموعات الحزبوية الضعيفة والمشاغبة في آن واحد والتي قد تبقى تراهن حتى اللحظة الأخيرة على رهان إعاقة جهود الإصلاح والمصالحة وتوحيد الصفوف، لأنّ جلَّ مصالحها الضيقة وغاياتها القاصرة تكمن في إبقاء بيتنا الكوردي يعاني من مرَض التشتت، في حين بات الكل يدرك بأنّ التوافق هو الربّـان القادر على إنقاذ سفينة الكورد من الغرق وهو السلاح الأقوى لردع كل النوايا التخريبية المعيقة (الداخلية والخارجية) التي تسعى إلى التشكيك بأحزابنا وبأطرنا القائمة كالجبهة والتنسيق والتحالف مثلاً…، وترسم بلا رادع لزعزعة الثقة فيما بين الأطراف ولمنع توصل مؤسساتنا إلى الاتفاق وفق صيغ وقواسم مشتركة وجامعة كثيرة.
ولعلّ المؤلم في الأمر هو أنّ البعض القليل من المعيقين أو المعاقين أصلاً، يحاولون توسيع دائرة أفعالهم السلبية، فيطرحون بين الحين والأخر بعضاً من أفكارهم الأنانية التي تطالب بفك مؤسساتنا القائمة وإعادة تركيب بديلات عنها قد تختلف عن هذه الموجودة بالإسم فقط، وكأن ساحتنا تحوّلت إلى حقل تجارب مخبري ليس إلاّ…، وذلك دون أن يأبهوا بما يدور حول عنق شعبنا و تخومه من مناورات ومؤامرات ودون أن يتنبهوا إلى ما حلّ بنا من فقدان للشخصية والحقوق وما ينتظرنا من مهام وواجبات قومية ووطنية هي بمجملها أكثر أهمية بكثير من مشاغباتهم وعبثهم السياسي الذي ليس له لا أول ولا أخر.
وللعلم فإن محاولات التلاقي الكوردي كانت عديدة ومتلاحقة فيما مضى، البعض منها لقي النجاح ونال رضا الجماهير الكوردية، أما البعض الآخر فلم يُرضِ حتى أصحابها ولذا فقد أصابها الفشل والانحسار لأسباب متنوعة لسنا بصدد ذكرها الآن، وقد كانت كلها ثمرات نضال طويل وجهود خيّرة قام بها خيرة الأناس المناضلين المصطفين مع هذا التيار أو ذاك، ولكن أكثرية تلك المحاولات لم تلبي حاجة الكورد كما هو مطلوب، فهي لم ترتق إلى مستوى الطموح المأمول ولم تتمكن من أن تجني الثمرة المرجوة، ولذا فواقع الحال يقتضي المزيد من المحاولات الاستحواذية بعيداً عن اليأس والتردد، وذلك لن يتم ما لم نعتبر أنّ ما أصابنا ويصيبنا من إرهاصات وحالات فشل هي ليست سوى بروفات أوليّة لا بدّ منها في حالتنا البائسة التي نعاني منها جميعاً.
إلاّ أنّ الدعوة إلى تشكيل مجلس سياسي كوردي ـ الجديد بشكله والقديم بمضمونه ـ والتي ينبغي أن نبذل قصارى جهدنا من أجل بلوَرتها وجعلها مقبولة بشكل فعلي لدى كافة الأطراف الكوردية، يمكن اعتبارها خطوة عملية أخرى على طريق التأسيس لمشروع كوردي مشرِق، وإن مثل هذه الخطوة أي الدعوة إلى هكذا مجلس قيادي، هي مهمة جماعية مشرّفة لا يجوز أن يتباطئ أحداً في التحضير لها وحضورها.
لكن ثمة أسئلة هامة قد تبرز من قِبَل هذه الجهة أو تلك، أبرزها: أليس للكورد مصلحة حقيقة في تلبية هذه الدعوة في هذا الوقت بالذات؟!، أليست نابعة من منطلق الحاجة القومية الماسة؟!، ألا يمكن تشبيهها بصيحة استغاثة حقيقية؟!، وهل السبيل لإنجاح مثل هذا الطرح وتحقيق ما نبتغيه يمكن أن يتحقق بالأقوال فقط أم أنّ للإرادة الوحدوية والمصداقية والجدَّية في الطرح والترجمة العملية دوراً أساسياً في الظفر بالمراد والمبتغى؟!، وهل سنستطيع أن نواكب الحدث وننجح في التوصل لمجلس سياسي من دون أن نعالج مختلف عاهاتنا المستديمة وبدون أن نتصافى ونتشافى من حمى الأنانية الشخصية التي التهمت بنيرانها المسعورة كل أخضرنا ويابسنا؟!، وهل للعوامل الموضوعية الايجابية تأثير في تسريع أو إبطاء مثل هكذا عملية تفعيل سياسي نحن أحوج ما نكون إليه اليوم قبل غد؟!، أم أنّ علينا أن ننتظر أكثر مما انتظرناه ليفرج الله (عزّ وجل) عن كُرْبِنا الذي نتخبط فيه تواكلاً ودون أي عناء للتوكل من جانبنا؟!، أم أنّ العمل الدؤوب هو خير جواب لمثل هذه الأسئلة المطروحة بإلحاح وهو أفضل خطاب ينبغي أن يسود في كل الحالات وفي مختلف المحن!؟.
وبالمناسبة وبهدف التذكير…، فإنّ تجارب كل الشعوب وتجربتنا الذاتية الغنية بالعبر والدروس، تؤكد بأنّ تصافي النيات والقلوب ومراجعة الذات والمصداقية العملية وإتباع الأسلوب الجماعي في الحراك واعتماد منهجية سياسية موحّدة وتناول خطاب منفتح في ظل أجواء من التعايش والتوافق هي السبيل الأكثر أماناً وأمناً وهي سرّ ومفتاح عبور بوابة الخروج من خنقتنا السوداء هذه…، إضافة إلى أنه لا يجوز أبداً التقليل من حجم ومخاطر أزمات شعبنا الكوردي الأخرى كالتخلف والتبعية والركود والفقر وحالات العوز المدقع التي تنهكه وتشّل كل قدراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية…الخ، حيث يمكن اعتبارها برواسبها وخلفياتها وآثارها المتعدّدة المخاطر، كابوسٌ ثقيل الظّل ، ظلّ ولا يزال يخيم على العلاقات الكوردية ـ الكوردية، في حين لا يمكننا إزاحته إلاّ بالسعي الجماعي بذهنية منفتحة من شأنها توليد طاقة معرفية كافية وإمكانيات مادية أكبر لتؤدي إلى طاقة حركية أكثر زخماً وإنتاجيةً، شريطة أن تتوفر النوايا الحسنة لدى جميع الفرقاء المعنيين بالأمر.
وبما أنّ البارتي يتبنى العمل من حيث المبدأ لخدمة هذا الاستحقاق القومي ويطالب باقي الأطراف الكوردية بقبول مثل هذا المَخْرَجْ وأخذه على محمل الجدّ بقصد التنفيذ، فإنّ من حقه الطبيعي أن يؤكد على نواحي جوهرية وهامة وهي أنْ يتم وضع المصلحة الكوردية في مقدمة أولويات المهام وأن يجري الانطلاق في هذا المنحى من منطلق الحاجة إلى لمّ الشمل وليس من قبيل الدخول في لعبة الوقت…، وهذا لن يتم ما لم نطمح كلنا إلى المشاركة الفعلية لكل فعالياتنا، والخوض معاً في حالة حوار حضاري مفتوح يتناول كل المسائل والحيثيات ويناقش كل الاحتمالات ليساهم في صنع القرار السياسي الكوردي الصائب.
ومن قبيل التأكيد على ما سبق…، لا بد من القول بأنّ البارتي حينما يبادر بجرأة ويسعى إلى تناول مثل هكذا خطاب وحدوي ينسجم مع تطلعات شعبنا ويتلاءم مع مناخات هذه الأيام، لا يركض وراء أية مصلحة حزبية ضيقة ولا من قبيل التمظهر بالشعارات الوقتية والمصدّات الكلامية، وإنما هو يدعو باقي شركاء القضية إلى التشاور على أرضية فتح صفحة جديدة، بهدف خدمة المصلحة القومية العليا لشعبنا منعاً من انصهاره في بطون غيرنا.
عندما نطالب تكراراً بضرورة كفّ الجانب الكوردي عن تأجيج خلافاته البينية، وفي الوقت ذاته نؤكد بأنّ اهتمامنا الرئيسي ينبغي أن ينصب على كيفية التصدي للعوامل الخارجية المسبِّبة لأزمتنا التي نغوص وسطها جمعاً، نستند في ذلك على أنّ تناقضنا الرئيسي هو ضد الدوائر الغاصبة لقضيتنا أرضاً وشعباً، لأنّ جلّ ما نعانيه اليوم هو من صنيعة الآخرين، وبناء عليه نود إبراز بعضا من العوامل الموضوعية لأزمتنا والتي يمكن تلخيصها بما يلي:
1 ـ كافة الأنظمة التي تعاقبت على حكم سوريا في كل الأزمنة كانت الطرف الرئيسي الذي استخدم مختلف أجندته التي داهمت ديارنا وخططت لأزمة التشظي التي عانت وتعاني منها حركتنا الكوردية، حيث عمِلت السلطات السورية على حظر البارتي الأم ومنع نشاطه عبر إتباع شتى أساليب الترهيب والترغيب ودسّ مختلف الدسائس بين قياداته التي تفرق شملها بين اليمين واليسار والمعتدل والماركسي والراديكالي و…إلخ، ليس هذا فحسب بل واظبَتْ الأجهزة الأمنية على طول الخط في مسعى شراء بعض الذمم وزرعها كالأسافين في مسيرة الحراك الكوردي، تلك الأسافين عملت ولا زالت على شرذمة وتقسيم الصفوف.
2 ـ غالبية القوى والحركات والأحزاب القومية العربية (الحاكمة والمعارضة كالبعث والناصري والإخوان المسلمين والقومي سوري…) لم تسلك سلوكاً ديمقراطيا منفتحاً على الكورد وإنما تمسَّكتْ بتفكيرها الأكثري وتمترسَتْ وراء شعاراتها العروبية التي حاربت ولا تزال تحارب الخطاب السياسي الكوردي وذلك في محاولة منها لاختزاله كي يتخلى بموجبه الجانب الكوردي عن كوردستانيته وخصوصيته القومية وتحويل قضيته المرتبطة بالشعب والأرض إلى مجرّد إشكالية مواطنية سورية ليس إلا.
3 ـ الحزب الشيوعي السوري بغالبية أجنحته المنشقة على بعضها والمصطفة حالياً مع جبهة موالاة النظام، والتي كان لها نشاط واسعا في مناطقنا إبان تأسيس البارتي، لم تردَّ الجميل الكردي الذي احتضن الشيوعية في بداية نشوئها، وقد أساءت ولا تزال تسيئ لمسيرة حراكنا القومي الديموقراطي، فقد نظر الشيوعيون السوريون إلى البارتي نظرة عدائية واعتبروه منافسا صاعدا وقويا لا بل صاحب حق وريع وبديل عنه في المناطق الكوردية، ولذلك وقف الشيوعيون بالضد من حركتنا الكوردية ووصفوها بالقومجية والانعزالية و…إلخ، ما أدى إلى عزلهم في مناطقنا وبالمقابل دخول الجانب الكوردي في صراعات جانبية كان بغنى عن خوضها ضد الرموز الشيوعية.
4 ـ المخططات والمؤامرات الإقليمية التي كانت تحيكها الدول الغاصبة لكوردستان ضد الشعب الكوردي، إذ كان للكورد في سوريا نصيب من الخسائر، خاصة وأن مناطق كوردستان سوريا تمتد على شريط حدودي يتجاوز طوله حوالي 500 كم على إمتداد الحدود السورية والتركية والعراقية، ما جعل المناطق الكوردية عرضة أو فريسة سهلة لألاعيب استخبارات تلك الأنظمة الغاصبة لأرضنا ولحقوق شعبنا، وما أدى إلى حدوث اختراقات أمنية كثيرة وضعت حدا لنضال حركتنا وعرقلت تحركات نشطائها.
5 ـ القضايا الدولية الساخنة التي كانت تطفو على سطح الأحداث العالمية وخاصة في زمن الحرب الباردة والتي كانت تفرض توازنات سياسة دولية معينة أدت فيما أدت إلى تهميش ملفات كثيرة وبقائها عالقة في بلدان مشرقنا التي كانت منضوية تحت هيمنة هذا القطب العالمي أو ذاك، ويُعتبَر ملف كوردستان سوريا من الملفات السياسية التي بقيت مطوية ولم تجد لها أية فسحة للرواج على الصعيد الدولي حتى الحين، ولعلّ غياب القيادة السياسية الكوردية كلاعب دبلوماسي خارجي مردَّه هو خوفها من تهمة “التعامل مع الأجنبي” المسبقة الصنع والتي لا تزال تلازمنا وترهب معظم مسئولي أحزابنا الذين يبدو أنهم محتارون ولا تتعدى رؤاهم حدود التفكير والنشاط في الداخل السوري “القمقم” الذي بات سجناً جماعياً حسب رأي الجميع.
ثانياً: بعض العوامل الذاتية لأزمة حركتنا الكوردية:
رغم ثقل أعباء العوامل الخارجة التي أسعفتنا ذاكرتنا وتطرّقنا لها في هذه القراءة التي نجريها تحت أضواء الشمعة (52) لميلاد حزبنا (البارتي) الذي هو امتداد طبيعي لبارتي ديموقراطي كوردستان سوريا، إلا أنّ هنالك ثمة عوامل ذاتية كثيرة ساهمَتْ وأدت بهذا الشكل أو ذاك إلى إدخال الجانب السياسي الكوردي في دوامة الانقلاب على الذات والمضي في مسلكية الانشقاقات والاستسلام للأزمة التي يبدو أنها باتت مستعصية، ولعلّ أبرز تلك العوامل هي:
1 ـ ضعف خبرة وثقافة الرعيل الأول المؤسس للبارتي مع احترامنا الشديد لدورهم التاريخي الذي نعتز به، إذ أنّ عدم تجانسهم الفكري والمجتمعي قد أديا إلى بروز الاختلافات البينية في وجهات النظر حول العديد من المسائل المصيرية، ما كان من شأنه خلق المزيد من الافتراقات التي أدت فيما أدت إلى الانشقاق الأول الذي تولدت عنه عمليات انشقاقية متلاحقة ومؤسفة ولم يكن لها أية مبررات أو خلفيات بناءة وإنما يمكن وصفها بالمزاجية، إذ كان يتم في أغلب الأحيان شخصَنة وتأزيم المسائل بدلاً من تشخيصها والبحث عن حلول لها، فتحولت كل تلك الخلافات الصغيرة إلى مسببات احتقان للحالة التي تأزمت رويدا رويدا حتى آلت بنا الأمور إلى ما نحن عليه من التشتت وضيق الأفق الحزبوي الذي أدى وقد يؤدي بنا للمزيد من البلاوي.
2 ـ ردة الفعل الخاطئة التي وقعت فيها قيادات الجيل الثاني لحركتنا، فبعد أن تكثفت عليها ضغوط السلطة والسلطويين والشيوعيين والبعثيين والإخوان وغيرهم، لم يجدوا أمامهم سوى اللجوء بشكل مجاكراتي تنافسي صوب الاحتماء بالماركسية اللينينية التي كان نجمها يسطع ألقاً آنذاك، والتي لم يكن بوسعها إبان الحرب الباردة أن تخدم حالتنا القومية التي كانت بغنى تام عن الدخول في مثل هكذا صراعات طبقية كان يمكن الترفع عليها وتجاوزها واعتبارها خلافات جانبية لولا مواقف “اليسارية المصطنَعة بغالبيتها” لا بل الشطحات اليسارية التي حشرت أنفها وسط قياداتنا التي كانت منها بريئة رغم إدعائها بتبنيها أو الاهتداء بها، إذ أنّ تلك التوجهات اليسارية التي شاركنا في الترويج لها بهذا الشكل أو ذاك، قد أضرّت بنا بدلا من أن تنفعنا، فحالتنا القومية المقهورة كانت ولا زالت أحوج ما تكون إلى تداعي وتوافق كافة فئات شعبنا وعدم تفضيل أية شريحة مجتمعية على أخرى لتجنب الوقوع في فخاخ ومطبات الصراع الاجتماعي الذي وقعنا فيه ماضياً فألحق بنا أفدح الأضرار.
3 ـ السلوك السلبي للفئات الكوردية الميسورة تجاه تنظيمات الحركة الكوردية بذريعة أنّ أحزابها ذات “ميول شيوعية” وتوجهات يسارية تفضل الصراع الطبقي على النضال القومي الذي يخدم مجموع الشعب الكوردي، إذ كان المطلوب من البرجوازية الكوردية رغم تعرضها لبعض من حملات التشهير على أيادي نشطاء حركتنا السياسية مع الأسف الشديد الذي يستدعي الاعتذار من كافة العشاثر والعائلات الوطنية الكوردية المخلصة لقضيتها، أن تحتضن هذه الحركة على علاتها بدلاً من أن تعاديها وتحاصر نشاطها.
4 ـ هجرة العديد من الكوادر السياسية والثقافية الكوردية من صفوف حركتنا، بسبب نزوع أولئك المثقفون صوب خدمة مصالحهم الشخصية التي كانت تتضرر بسبب ثبوت انتمائهم إلى الأحزاب الكوردية، خاصة وأنّ السلطة كانت تستخدم معهم سياسة العصا والجزرة التي أنتجت حالات انتهازية لا حصر لها.
5 ـ انتهاج أحزاب حركتنا في هيكليتها التنظيمية لأنظمة داخلية غير ديمقراطية ومستنبطة من الهيكلية اللينينية لا بل الاستالينية الصلفة، ما أدى إلى نفور العديد من الكوادر ذوي التوجهات الديموقراطية من العمل الحزبي، لكونها كانت تتظاهر بأنها تستاء من النضال في ظل العقلية الفردية لبعض قيادات الأحزاب الكوردية، في حين أنّ الواجب القومي كان يفرض على الجميع أن يتحلوا بالصبر على الشدائد الذاتية بهدف الارتقاء بالحالة والخلاص من حالة القهر الآخري المفروضة علينا عبر الأزمان.
6 ـ صحيح أننا كنا ولا نزال مدينون لإخواننا في باقي أجزاء كوردستان، الذين كان لهم دورا إيجابيا في نشر الوعي القومي وسط شارعنا إلا أن الخنادق الكوردستانية المتخالفة هناك قد لعبت في بعض الأحيان أدوارا سلبية على وحدة حركتنا، فقد أدت انشقاقاتهم الداخلية في كثير من الأحيان إلى مثيلات لها وسط حركتنا السياسية في كوردستان سوريا، ما أدى إلى تقاسمها للنفوذ وسط شارعنا الذي كان يدير ظهره لقضيته المركزية جراء تخالف تلك الخنادق، ولعلّ أبرز الشواهد على ما نقوله هو الانشقاق الأول الذي حصل في أواسط الستينات من القرن الماضي، والذي أدى مباشرة إلى تحوّل البارتي إلى ثلاثة مجموعات هي: “يمينية” بقيادة حميد درويش، و”يسارية” بقيادة صلاح بدرالدين، و”حيادية” تمسكت بخط البارتي وناشدت لوحدة الحزب وآثرت على نفسها عدم الانجرار وراء الانشقاقيين وصبرَت حتى حضرَت كطرف إيجابي في المؤتمر التوحيدي الذي استضافه ورعاه الزعيم الكوردستاني الخالد مصطفى البارزاني في كوردستان العراق سنة 1970، لكنّ قيادتا اليسار واليمين أصرتا بعد المؤتمر مباشرة على المضي في انشقاقهما ولم تلتزما بقرارات القيادة المرحلية التي عاهدت على نفسها مواصلة مسيرة البارتي وفق وصايا البارزاني الخالد الذي يُعتبَر رمزا لتلاقي وتوحيد صفوف الكورد في كل مكان، حيث لم يكترث لا اليمينيون ولا اليساريون بقرارات ذلك المؤتمر التوحيدي الذي يمكن اعتباره نقطة تحول مضيئة في تاريخ البارتي، وقد دفعت قيادة البارتي ضريبة تمسّكها بنهج البارزاني فقد تم اعتقالها بالجملة حينذاك على مدى ثماني سنوات.
7 ـ الدور السلبي لرجالات الدين الإسلامي الذين نقدر مكانتهم ودورهم في إصلاح المجتمع والذين تحاملوا دون وجه حق ضد نضال ونفوذ أحزابنا السياسية عبر الإفتاء ضدهم ظلما وعدواناً بتهمة الإلحاد والكفر!؟، ما كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى ابتعاد شرائح كثيرة من المتدينين البسطاء عن صفوف حركتنا العلمانية الديمقراطية التي لم تكن في أي يوم من الأيام ضد أي دين سماوي، وللعلم فإن برامج كافة الأحزاب الكوردية تحترم الأديان وتقرّ بحرية المعتقدات الدينية للإنسان الكوردي.
8 ـ لقمة العيش التي ربطها النظام السوري بوجوب تراتل كافة المواطنين في صفوف الموالاة، جعلت نسبة كبيرة من مواطنينا الكورد تتهرّب من تنظيمات أحزابنا وتلتحق بشكل اضطراري ومصالحي بطوابير البعث المصفقة لانتهاكات أهل الحكم الذين غمسوا رغيف خبز الإنسان السوري بوجوب ركوعه لبيت الطاعة والتمسّح في عتبات الدوائر السلطوية التي تنفق ملايين الليرات لشراء ذمم مختلف السوريين وليس الذمم الكوردية فقط.
9 ـ الطبع العاطفي الذي كان طاغيا على الغالبية العظمى من مسئولي أحزابنا الذين لم يمارسوا السياسة كعلم وفن وتخطيط!؟، وإنما مارسوها من باب العاطفة القومية ومن قبيل إرضاء الذات والآخرين أو كأداء تنظيمي يومي حسب مبدأ جود بالموجود، ما أدى بالهرم الحزبي إلى الرضوخ لنمطية أوامرية أدت فيما بعد لتحويل أحزابنا إلى مجرد مجموعات تابعة لأسياد قد لا يكونوا أهلاً لتلك المناصب قياساً مع شحَّة مخزونهم الثقافي وضف عطاءاتهم السياسية ونقص مساحة نفوذهم الاجتماعي في المناطق الكوردية.
10 ـ الحياة الداخلية اللاديمقراطية لأحزابنا الكوردية، أدت إلى تضييق فسحة الحوار وعدم المقدرة على حل الخلافات الحزبية وإلى تعميق الأزمات الداخلية وإلى توتيرها بدلا من حلها، ما كان يؤدي في أكثر الأحيان إلى تفاقم الخلافات الصغيرة وتحويلها إلى إنشقاقات لامبرر لها، في حين لو أن قياداتنا امتلكت قدراً من الثقافة الديمقراطية لكانت وجدت الحل الشافي لكثير من مشاكلها دون اللجوء إلى مسائل الفك والتركيب البعيدة كل البعد عن أبسط مبادئ الإخلاص للقضية.
كانت تلك بعضاً من المسببات التي أدت إلى الإنشقاقات العديدة المتتالية التي داهمت جسد حركتنا السياسية والتي أدت فيما أدت إلى إدخالنا وسط دوامة أزماتية قابعة فوق صدورنا دون أن نتمكن من التغلب عليها حتى الأن، ورغم أن معظم قياداتنا كانت تنساق في معظم الأزمنة صوب تقسيم وتقاسم نفوذ أحزابها فيما بينها، لكن كان هنالك على الدوام ثمة محاولات جادة لتحقيق التلاقي وتوحيد الصفوف…، حيث كانت ولا تزال هنالك كوادر قاعدية وقيادات مخلصة ترفع شعار: تغليب التناقض الرئيسي على مادونه من التناقضات بقصد خلق فرص أكثر للتلاقي وتوحيد الصفوف، وبناءً عليه استطاعت قوى الخير المتوزعة في تنظيمات هذا الحزب أو ذاك، تشكيل بعض التحالف والجبهات والوحدات التنظيمية، لكنها لم تنجح في هذا المسعى وفق الشكل المطلوب!؟.
ثالثاً: البارتي واستحقاق تلاقي وتوحيد صفوف حركتنا الكوردية
في إطار مراكمة وتكثيف مختلف الجهود الخيّرة المبذولة من أجل تلاقي وتوحيد صفوف حركتنا الكوردية المحتاجة لإطار موحد بمقدوره أن يضع حداً لأزماتنا الناجمة عن الاصطفافات الاعتباطية، وفي سياق هذا المضمار التوحيدي وليس من قبيل المديح وإنما لتبيان جزء من الحقيقة، فإنّ حزبنا ـ الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) ـ الذي يستمد قوته من تنظيماته المنتشرة في الداخل والخارج والذي ينال شرعيته من جموع جماهيره المؤيدة لخطه السياسي السائر على هدى نهج البارزاني الخالد الذي لطالما ضحى من أجل وحدة الصف الكوردي…، يبذل (أي البارتي) محاولات جادة في سبيل تقريب وجهات نظر أحزاب حركتنا الكوردية في سوريا، منطلقا في مسعاه البناء من ثوابته الوحدوية المتأصلة في سياسته الرامية للحدّ من ظاهرة الانقسام التي لا تزال تنخر في جسد هذه الحركة التي نعتبرها مكسباً لا بل إنجازاً تاريخياً تعرّض ولا يزال يتعرّض لمحاولات النيل منه.
ورغم مختلف محاولات إصلاح ذات البَين التي كانت تجري هنا وهناك وبين الحين والآخر والتي لم تجلب لنا أية فائدة مرجوّة حتى الحين، علماً بأنّ مطلب لمّ شملنا ورصّ صفوفنا كان ولا يزال غاية جماعية ملحّة يؤكد عليها كل الكورد في كل زمان ومكان ومناسبة، ورغم سوء أحوال حركتنا وتباطؤ أدائها، وبما أنّ لكل مرحلة تمضي حسابات خاصة بها ومواقف معينة منها ومسارات محددة لها، فإنّ البارتي كان وسيَسير في هذه الدرب الوحدوية المشرّفة وسيتابع المسيرة ولن ييأس وسيبقى يتفاءل بالمستقبل ويتطلع نحو الأفضل ويستأنس خيراً في إجراء المصالحة حول طاولة كوردية مستديرة رغم الاختلافات القائمة بين فرقاءها الذين هم شركائه في العمل والمصير، ويعتبر بأنّ هذا التطلّع الوحدوي هو حق مشروع لا بل واجب مفروض علينا جميعاً دون أي استثناء، وهو في الوقت ذاته شكل نضالي راقي جداً من أشكال الحراك الديمقراطي الذي ينبغي الالتزام بأسسه وبأخلاقياته وضوابطه للتغلب على إشكالياتنا الذاتية الكثيرة التي بتنا نعاني من وطأتها جيلاً بعد جيل وهكذا دواليك، خاصة وأننا أضحينا على عتبة لا بل إننا دخلنا في متن راهن دولي وشرق أوسطي وكوردستاني وسوري من طراز جديد بكل معطياته وحيثياته التي توحي لمجرّد قراءته بشكل أولي، إلى أنه قد يؤدي بتداعياته المتشعبة إلى تحويلة سياسية نوعية، ينبغي التعامل معها وفق منطق جماعي، لكونها أي هذه التحويلة السورية الحساسة قد تجلب لاحقاً مختلف المستجدات والاحتمالات لنا ولغيرنا، وقد تنعكس بشكل إيجابي على قضية شعبنا التواق إلى الحرية والعيش بأمان واستقرار، هذا فيما إذا كنا أهلاً متضامنين مع بعضنا ومخلصين لقضيتنا ونمتلك الآهلية المطلوبة لمراجعة الذات واستثمار أيّ استحقاق مقبل.
وفي هذه الدرب الوحدوية الشائكة…أي في درب نبذ الواقع الانشقاقي وبهدف تقويم الحراك الكوردي العام وتنظيمه في إطار مؤسساتي ديمقراطي جامع، أكد البارتي مراراً ويؤكد تكراراً على ضرورة الالتزام بالتوجهات الوحدوية وتعزيز مفهوم التنافس الديموقراطي ضمن إطار الكل الكوردي المختلف، وعلى وجوب البحث عن السبل المعرفية الكفيلة بحل أزمة حركتنا والارتقاء بها إلى سويّة نضالية أرقى، وعلى لزوم الإقرار بحاجتنا الماسة إلى قيادة موحدة تقود نضالنا القومي الديموقراطي في البلد عبر تمثيل الكورد في مختلف المحافل السورية القائمة والمقبلة على التغيير على وجه السرعة.
واليوم وفي مناخات هذا الراهن السوري الذي يتطلب القيام بنضال نوعي يستمد زخمه من القيام بالأنشطة الميدانية، فإنني أرى بأنّ الواجب القومي والوطني يقتضيان منا جميعا ـ أياً كانت التزاماتنا وأينما كانت مواقعنا الحزبية والمجتمعية ـ تلبية الدعوة إلى تشكيل مجلس سياسي موحد بدون وجود أية اشتراطات مسبقة الصنع، إذ من المرتجى أن ينبثق عن مثل هكذا حضور مسؤول قرارات وخطط عمل آنية ومستقبلية كثيرة قد تنفع في تقويم مسار الكورد.
وفي هذا المجال فإنني أعتبر بأن الخيار الوحدوي للبارتي هو خيار سياسي رابح قد يخدم استحقاق المرجعية الكوردية، لأنه يُعتبَر في الوقت الراهن هدف أهلي عام وأفضل بلسم قد يشفي جراح جسد حركتنا المبتلية بالعديد من الأوبئة، وذلك في ضوء ما هو متوفر من الحلول والإمكانيات، على طريق إنقاذ بيتنا الكوردي من حالة اليأس التي يعاني منها والذي كان ولا يزال أسيراً لخلافات مجاكراتية عالقة أدت فيما أدت إلى التعدّدية الحزبية المفرَطة لا بل إلى حالة مرَضية مخيفة يمكن توصيفها بالتشظي المؤسف، علماً بأنّ هذا البيت يحتاج إلى المزيد من الألفة والتفاهم لتحصينه من الداخل وتفعيله سياسياَ والارتقاء به إلى سوية أدائية أكثر فعالية، عسانا نتمكن من معالجة آثار الشلل الذي أصاب نضال حركتنا.
وبهذا الصدد المصيري للغاية، وبما أن غالبية أحزابنا وخاصة الرئيسية المعنية منها بشأن الإتيان بهكذا محفل كوردي مسؤول، قد أصبحت تدرك إلى حدّ لا بأس به، حجم وماهية مخاطر حالة التشتت وما يترتب عليها من عواقب أخرى قد تكون وخيمة، حيث لا مضرّة توازي أضرار التفرقة، فهي قد تلقي بشعبنا إلى العدمية القومية لا بل إلى الانقراض المتربص به…، فإنّ أشد ما يؤلم الرأي العام الكوردي هو بروز قلّة من الأفراد “المستقلين” والمجموعات الحزبوية الضعيفة والمشاغبة في آن واحد والتي قد تبقى تراهن حتى اللحظة الأخيرة على رهان إعاقة جهود الإصلاح والمصالحة وتوحيد الصفوف، لأنّ جلَّ مصالحها الضيقة وغاياتها القاصرة تكمن في إبقاء بيتنا الكوردي يعاني من مرَض التشتت، في حين بات الكل يدرك بأنّ التوافق هو الربّـان القادر على إنقاذ سفينة الكورد من الغرق وهو السلاح الأقوى لردع كل النوايا التخريبية المعيقة (الداخلية والخارجية) التي تسعى إلى التشكيك بأحزابنا وبأطرنا القائمة كالجبهة والتنسيق والتحالف مثلاً…، وترسم بلا رادع لزعزعة الثقة فيما بين الأطراف ولمنع توصل مؤسساتنا إلى الاتفاق وفق صيغ وقواسم مشتركة وجامعة كثيرة.
ولعلّ المؤلم في الأمر هو أنّ البعض القليل من المعيقين أو المعاقين أصلاً، يحاولون توسيع دائرة أفعالهم السلبية، فيطرحون بين الحين والأخر بعضاً من أفكارهم الأنانية التي تطالب بفك مؤسساتنا القائمة وإعادة تركيب بديلات عنها قد تختلف عن هذه الموجودة بالإسم فقط، وكأن ساحتنا تحوّلت إلى حقل تجارب مخبري ليس إلاّ…، وذلك دون أن يأبهوا بما يدور حول عنق شعبنا و تخومه من مناورات ومؤامرات ودون أن يتنبهوا إلى ما حلّ بنا من فقدان للشخصية والحقوق وما ينتظرنا من مهام وواجبات قومية ووطنية هي بمجملها أكثر أهمية بكثير من مشاغباتهم وعبثهم السياسي الذي ليس له لا أول ولا أخر.
وللعلم فإن محاولات التلاقي الكوردي كانت عديدة ومتلاحقة فيما مضى، البعض منها لقي النجاح ونال رضا الجماهير الكوردية، أما البعض الآخر فلم يُرضِ حتى أصحابها ولذا فقد أصابها الفشل والانحسار لأسباب متنوعة لسنا بصدد ذكرها الآن، وقد كانت كلها ثمرات نضال طويل وجهود خيّرة قام بها خيرة الأناس المناضلين المصطفين مع هذا التيار أو ذاك، ولكن أكثرية تلك المحاولات لم تلبي حاجة الكورد كما هو مطلوب، فهي لم ترتق إلى مستوى الطموح المأمول ولم تتمكن من أن تجني الثمرة المرجوة، ولذا فواقع الحال يقتضي المزيد من المحاولات الاستحواذية بعيداً عن اليأس والتردد، وذلك لن يتم ما لم نعتبر أنّ ما أصابنا ويصيبنا من إرهاصات وحالات فشل هي ليست سوى بروفات أوليّة لا بدّ منها في حالتنا البائسة التي نعاني منها جميعاً.
إلاّ أنّ الدعوة إلى تشكيل مجلس سياسي كوردي ـ الجديد بشكله والقديم بمضمونه ـ والتي ينبغي أن نبذل قصارى جهدنا من أجل بلوَرتها وجعلها مقبولة بشكل فعلي لدى كافة الأطراف الكوردية، يمكن اعتبارها خطوة عملية أخرى على طريق التأسيس لمشروع كوردي مشرِق، وإن مثل هذه الخطوة أي الدعوة إلى هكذا مجلس قيادي، هي مهمة جماعية مشرّفة لا يجوز أن يتباطئ أحداً في التحضير لها وحضورها.
لكن ثمة أسئلة هامة قد تبرز من قِبَل هذه الجهة أو تلك، أبرزها: أليس للكورد مصلحة حقيقة في تلبية هذه الدعوة في هذا الوقت بالذات؟!، أليست نابعة من منطلق الحاجة القومية الماسة؟!، ألا يمكن تشبيهها بصيحة استغاثة حقيقية؟!، وهل السبيل لإنجاح مثل هذا الطرح وتحقيق ما نبتغيه يمكن أن يتحقق بالأقوال فقط أم أنّ للإرادة الوحدوية والمصداقية والجدَّية في الطرح والترجمة العملية دوراً أساسياً في الظفر بالمراد والمبتغى؟!، وهل سنستطيع أن نواكب الحدث وننجح في التوصل لمجلس سياسي من دون أن نعالج مختلف عاهاتنا المستديمة وبدون أن نتصافى ونتشافى من حمى الأنانية الشخصية التي التهمت بنيرانها المسعورة كل أخضرنا ويابسنا؟!، وهل للعوامل الموضوعية الايجابية تأثير في تسريع أو إبطاء مثل هكذا عملية تفعيل سياسي نحن أحوج ما نكون إليه اليوم قبل غد؟!، أم أنّ علينا أن ننتظر أكثر مما انتظرناه ليفرج الله (عزّ وجل) عن كُرْبِنا الذي نتخبط فيه تواكلاً ودون أي عناء للتوكل من جانبنا؟!، أم أنّ العمل الدؤوب هو خير جواب لمثل هذه الأسئلة المطروحة بإلحاح وهو أفضل خطاب ينبغي أن يسود في كل الحالات وفي مختلف المحن!؟.
وبالمناسبة وبهدف التذكير…، فإنّ تجارب كل الشعوب وتجربتنا الذاتية الغنية بالعبر والدروس، تؤكد بأنّ تصافي النيات والقلوب ومراجعة الذات والمصداقية العملية وإتباع الأسلوب الجماعي في الحراك واعتماد منهجية سياسية موحّدة وتناول خطاب منفتح في ظل أجواء من التعايش والتوافق هي السبيل الأكثر أماناً وأمناً وهي سرّ ومفتاح عبور بوابة الخروج من خنقتنا السوداء هذه…، إضافة إلى أنه لا يجوز أبداً التقليل من حجم ومخاطر أزمات شعبنا الكوردي الأخرى كالتخلف والتبعية والركود والفقر وحالات العوز المدقع التي تنهكه وتشّل كل قدراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية…الخ، حيث يمكن اعتبارها برواسبها وخلفياتها وآثارها المتعدّدة المخاطر، كابوسٌ ثقيل الظّل ، ظلّ ولا يزال يخيم على العلاقات الكوردية ـ الكوردية، في حين لا يمكننا إزاحته إلاّ بالسعي الجماعي بذهنية منفتحة من شأنها توليد طاقة معرفية كافية وإمكانيات مادية أكبر لتؤدي إلى طاقة حركية أكثر زخماً وإنتاجيةً، شريطة أن تتوفر النوايا الحسنة لدى جميع الفرقاء المعنيين بالأمر.
وبما أنّ البارتي يتبنى العمل من حيث المبدأ لخدمة هذا الاستحقاق القومي ويطالب باقي الأطراف الكوردية بقبول مثل هذا المَخْرَجْ وأخذه على محمل الجدّ بقصد التنفيذ، فإنّ من حقه الطبيعي أن يؤكد على نواحي جوهرية وهامة وهي أنْ يتم وضع المصلحة الكوردية في مقدمة أولويات المهام وأن يجري الانطلاق في هذا المنحى من منطلق الحاجة إلى لمّ الشمل وليس من قبيل الدخول في لعبة الوقت…، وهذا لن يتم ما لم نطمح كلنا إلى المشاركة الفعلية لكل فعالياتنا، والخوض معاً في حالة حوار حضاري مفتوح يتناول كل المسائل والحيثيات ويناقش كل الاحتمالات ليساهم في صنع القرار السياسي الكوردي الصائب.
ومن قبيل التأكيد على ما سبق…، لا بد من القول بأنّ البارتي حينما يبادر بجرأة ويسعى إلى تناول مثل هكذا خطاب وحدوي ينسجم مع تطلعات شعبنا ويتلاءم مع مناخات هذه الأيام، لا يركض وراء أية مصلحة حزبية ضيقة ولا من قبيل التمظهر بالشعارات الوقتية والمصدّات الكلامية، وإنما هو يدعو باقي شركاء القضية إلى التشاور على أرضية فتح صفحة جديدة، بهدف خدمة المصلحة القومية العليا لشعبنا منعاً من انصهاره في بطون غيرنا.
وبناءاً عليه فإن معشر الكورد جميعاً بحاجة أكيدة إلى المزيد من التحالف السياسي وليس التخالف الحزبوي…، وهم مدعوّون اليوم للتوجه بمسؤولية صوب هكذا خيار وحدوي هادف لتنشيط الحالة السياسية الكوردية في كوردستان سوريا، وذلك بدءاً من تقوية ذاتنا وتخليصها من جوانب الضعف ومن ثم توليفها وفق المطلوب للالتقاء مع غيرنا أي مع الأكثرية العربية من مكونات هذا البلد ومحاورتهم والتفاوض معهم حول مختلف هموم وشجون المجتمع السوري وحول كيفية وضع الحلول الديموقراطية لقضيتنا القومية العادلة ولباقي المسائل والمشاكل السورية العالقة.