وفاء لذكرى ميلاد البارزاني

صلاح بدرالدين

     تمر في الرابع عشر من آذار الجاري الذكرى السادسة بعد المئة لميلاد القائد الكردي الكبير الراحل ملا مصطفى البارزاني الذي مرت الذكرى الثلاثين لغيابه منذ أسبوعين وفي كل عام من هذا الشهر يستذكر الكرد بمشاعر الاحترام في جميع أماكن تواجدهم زعيمهم التاريخي الذي أصبح عنوانهم الأول ورمز كفاحهم القومي منذ أربعينات القرن الماضي وتشاء الصدف أن تتحول أيام آذار الى حمالة المناسبات الكردية بأفراحها وأتراحها وشاهدة على أحداث جسام فاضافة الى مناسبتي الرحيل والميلاد حصل فيها التوقيع على اتفاقية 11  آذار للحكم الذاتي عام 1970 كما شهدت نكسة الثورة الكردية على أثر اتفاقية الجزائر بين صدام  وشاه ايران عام 1975 ووقعت فيها كارثة – حلبجة – جريمة العصر التي هزت الضمير العالمي في منتصف آذار 1988 وقامت فيها الانتفاضة عام 1991 وفيها حصلت الهبة الكردية السورية عام 2004 التي بدأت بالقامشلي مرورا بكوبانية وحلب وعفرين وانتهاء بزورافا في دمشق وفيها يحل العيد القومي الكردي نوروز.
         ان عملية تقييم سيرة الراحل ومتابعة مكانته وتأثيره العميق في حركة التحرر القومي الكردي ترتبط بمسألتين هامتين الأولى مبدأ التسليم بدور الفرد في تاريخ الشعوب والدول والحركات في جميع الأصقاع وعلى كافة المستويات منذ فجر التاريخ وفي سائر مراحل وحقب التطور البشري والتشكيلات الاجتماعية من عصر الرق انتهاء بالعصر الرأسمالي الحديث والثانية مشهد خلفية الراحل العائلية المناطقية ومميزاته الشخصية وتحولاتها سابقا ولاحقا فمنذ أكثر من قرن بدأت مسيرة البارزانيين وكان استدعاء الجد الأكبر الشيخ عبد السلام الى الموصل عام 1876 لدى سلطة الوالي العثماني واستجوابه واعتقاله بداية ظهور المنحى الانحيازي الى قضية الشعب مشيخة وزعامة مرورا بالعائلة وبارزان وجوارها تلا ذلك نفي البعض من أفرادها الى – بدليس – في تركيا وفي عهد عبد السلام الثاني ظهر البعد القومي بجلاء وتكامل مع الزعامة الروحية المتجسدة في مشيخة بارزان السائرة على الطريقة النقشبندية التي اتسمت حينذاك وتميزت بنوع من الاصلاحية والانفتاح ومواجهة الظلم والعدوان وقد قام أتباع الطريقة نفسها بحركات ضد السلطات التركية ذات طابع قومي تحمل توجهات استقلالية مثل الشيخ – عبيد الله النهري – قائد انتفاضة 1880  والشيخ – سعيد بيران – قائد حركة 1925  وفي المرحلة ذاتها أو متقاربة معها هبت حركات مشابهة بقيادات رجال الدين في عدد من البلدان العربية ضد المستعمرين مثل السودان – الطريقة المهدية – وليبيا – الطريقة السنوسية – وغيرهما وشهدت هذه الفترة صلات البارزانيين مع الجمعيات الكردية في استانبول الثقافية منها والسياسية وأرسل الشيخ برقية الى الباب العالي عام 1907 تتضمن مطالب ذات طابع قومي مثل مطالبة بمدارس باللغة الكردية , وبتبوىء المحتفى به البارزاني مصطفى زمام المسؤولية كان الوعي القومي ناضجا والأهداف واضحة فبادر باجراء الاتصالات مع قادة الكرد الآخرين مثل – أمين عالي بدرخان – والشيخ عبد القادر النهري – والشيخ محمود الحفيد – والشيخ سعيد بيران – وحركة – خويبون – في سوريا وجمعية – ز ك – في ايران كما قاد معارك طاحنة ضد الانكليز والجيش العراقي وتوجه لنصرة جمهورية كردستان الديموقراطية في مهاباد – ايران – وبعد سقوطها توجه مع صحبه في مسيرة طويلة شاقة الى الاتحاد السوفييتي السابق حيث قضى هناك احدى عشر عاما عاد بعد ثورة تموز 1958 الى العراق مارا في القاهرة للقاء بالزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر للتعارف وبحث وتعزيز العلاقات الكردية العربية وبعد تغير أحوال الزعيم قاسم قاد البارزاني ثورة ايلول الكردستانية اعام 1961 تحت شعار : الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان , الى أن حقق اتفاقية الحادي عشر من آذار التاريخية لعام 1970 حتى تراجع نظام البعث عن تعهداته وأبرم اتفاقية ذليلة مع شاه ايران على حساب الثورة الكردية وحصلت النكسة بارادة دولية وأدت الى مغادرة البارزاني كردستان بعد أن هده مرض السرطان حيث عولج في الولايات المتحدة الأمريكية حتى توقف قلبه في الأول من آذار عام 1979 ونقل جثمانه الى ايران ثم الى مسقط رأسه – بارزان -.

  حصلت الانعطافة الأولى كما ذكرنا باتجاه الفكر القومي التحرري عند تقديم المذكرة الى الباب العالي والمطالب المرفوعة الى الادارات العراقية والصلات بالقادة القوميين الكرد خارج العراق وتعزز ذلك التوجه القومي لدى البارزاني عند الانتقال الى مهاباد وتبلور بصورة أوضح وأكثر عمقا في مضمونه الديموقراطي بعد انتقاله الى الاتحاد السوفييتي السابق وهناك وثيقتان تتضمنان مدى تطور الوعي القومي الديموقراطي في فكره وهما كلمته في مؤتمر باكو عام 1948 لممثلي الحركات التحررية والكردية التي حدد فيها طبيعة وأهداف وموقع الحركة الكردية في الساحتين الوطنية والعالمية وأصدقاءها وأعداءها وكلمته في الكونفرانس السياسي – العسكري في منطقة بالك – كاني سماق – بكردستان العراق عام 1967 التي ناقشت العلاقة بين الحزبية و- الكردايتي – وطرحت هموم الجماهير ومطالب الشعب ومسألة الحرب والسلام والمواجهات مع النظام الحاكم وسبل حل التناقضات الداخلية في المجتمع الكردستاني حسب قوانين حركات التحرر الوطني.
  معاصرة الراحل البارزاني للحقب والمراحل التاريخية المتعاقبة صقلته وزادته خبرة فقد لحق بنهاية الامبراطورية العثمانية وراقب الحربين العالميتين وتقسيم الامبراطورية وقيام عصبة الامم ثم هيئة الامم المتحدة ومعاهدتي سيفر ولوزان وساهم في الانتفاضات وشاهد قيام حركة – خويبون – ومعاهدة سايكس – بيكو وتقسيم كردستان واتفاقيات الحلفاء وظهور الحرب الباردة بين المعسكرين واتفاقية الجزائر.
  من جهة أخرى فقد شكلت نشأته في بارزان عاملا أساسيا في تبوئه ذلك الدور الكبير في حياته وشخصيته القيادية الكاريزمية فالقرية – المشيخة معروفة بالتسامح الديني التي كانت تضم قبل عقود الديانات السماوية الثلاث الاسلامية والمسيحية واليهودية مع تواصل مع اتباع الازيدية الكرد وانعكس ذلك على النهج الفكري والسياسي في مجال قبول الآخر والعيش المشترك وتحول كردستان العراق في عهده ومن بعده الى خيمة واسعة لمختلف القوميات والأديان والمذاهب المتآخية المتعايشة بسلام.
  لقد كان لي شرف اللقاء الأول بالزعيم الراحل في أيار 1967 في مرحلة ثورة أيلول مساء بغرفته في – قصري – بعد فترة استراحة قضيناها في مقر المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكردستاني في – كاني سماق – من عناء السفر لمدة اثني عشر يوما قطعناها في الجبال من زاخو حتى كلالة ولابد من القول أن زيارتنا جاءت في ظروف في غاية الدقة فمن جهة عقدنا المؤتمر العام لحزبنا – البارتي الديموقراطي الكردي اليساري في سوريا – ووصل الانقسام في الحركة الكردية السورية بين اليسار واليمين الى نهايته الحاسمة وأنجزنا كيسار قومي ديموقراطي صياغة برنامج سياسي جديد يتوافق مع متطلبات المرحلة ويستجيب لمطالب وطموحات غالبية أبناء الشعب الكردي في اختيار المصير القومي والسياسي ويجسد الأهداف ووسائل النضال بما في ذلك ارتباط الحركة المصيري بالتطور الوطني الديموقراطي العام في سوريا وفي الوقت ذاته كنا نترقب بحذر محاولات محمومة وفي الخفاء من جانب أوساط النظام الحاكم في حبك خيوط مخطط – الحزام العربي – لتغيير التركيب الديموغرافي في المناطق الكردية وفي جانب آخر حققنا الخطوة الأولى في التعارف والتنسيق وللمرة الأولى مع الفصائل الأساسية في المقاومة الفلسطينية وقوى عربية تقدمية وكان لابد من وضع السيد البارزاني في صورة الوضع في الجانب الآخر كانت الثورة الكردية في عامها السادس وحققت بعض الخطوات أهمها رضوخ النظام الى عملية التفاوض والتعاطي مع مطالب الكرد وحصول حراك سياسي عام كما أن الانقسام الكبير في الثورة والحزب كان في عامه الأول وصراع الأخوة يخيم على فضاء كردستان والكرد خارج العراق في ذهول من أثر الصدمة التي كادت أن تبدد الآمال والأخبار المتسربة الى الخارج كانت متناقضة لذلك كان لابد من معرفة الحقائق من مصدرها الأصلي والبحث عنها كان من احد أهداف الزيارة , ومن جملة ما أشار اليه الراحل خارج سياق المحادثات الثنائية الخاصة والعلاقات المشتركة ابداء غضبه الشديد في معرض شرح أوضاع الثورة من الذين يعادون ثورة ايلول التحررية الديموقراطية خاصة الأغوات ورؤساء العشائر وبعض المتعلمين الذين لايتفهمون واقع شعبهم ودعا الى ضرورة وحدة الحركة الكردية وتجاوز الخلافات ولدى التطرق الى الثورة الكردية والحقوق الكردية والسلطة الحاكمة في بغداد شعرت بقلقه الشديد ازاء النزعة الشوفينية للبعثيين والقوميين في النظام الحاكم رغم محبة الكرد للعرب والوشائج التي تربط الشعبين وأبدى أسفه لنزاعات الرؤساء العرب وانشغالهم بمصالحهم الخاصة على حساب الشعوب كما استذكر بايجاز بعض فترات وجوده باالاتحاد السوفييتي ونقده لستالين وامتداحه لخروتشوف وعدم ارتياحه للمعاملة التي لاقاها هو ورفاقه هناك كما أشار بامتعاض الى بعض الشيوعيين السوريين من أصول كردية – أعتذر عن ذكر الأسماء حيث المجالس أمانات – و التقى بهم في موسكو أيام مهرجان الشبيبة العالمي بسبب ميولهم السلبية تجاه الحقوق القومية الكردية وتغنيهم بالشعارات الأممية التي فهموها بصورة خاطئة وقد كان باديا في حديثه مشاعر الخيبة من القوى الدولية شرقا وغربا.
  غالبية الساسة والمثقفين الكرد وقسم من العرب العراقيين يجمعون على الاعتراف والاشادة باالدور التاريخي الكبير للبارزاني الراحل في مسيرة الحركة التحررية الكردستانية عامة وفي العراق على وجه الخصوص وفضله في ترسيخ نهج سياسي مجرب قاد الى انجاز مكاسب استراتيجية للكرد والعرب وفي مقدمتها  فدرالية اقليم كردستان في اطار العراق التعددي الجديد ويلمس المرء شعورا لدى العامة من مواطني كردستان من الكرد والقوميات الأخرى مفعما بالامتنان والترحم على ذلك القائد الذي مازالت آثار بصماته بادية في جميع المؤسسات الحكومية والبرلمانية والحزبية وتشكيلات البيشمركة والكل يجمع على فضله في وضع قاعدة متينة لعلاقات الصداقة والعيش المشترك بين الكرد والعرب في عراق موحد وانفتاحه على القوى الديموقراطية العراقية وخاصة الشيوعيين وحرصه الشديد على مصالح المسيحيين والتركمان في العراق وكردستان ومحاربته لكل أشكال الفساد واستغلال السلطة لمآرب خاصة ومنعه في جميع المراحل منتسبي الثورة والحزب والأمن من الاقدام على تنفيذ أي عمل  ارهابي وأعمال التفجير رغم جرائم الحكومات السابقة واعمال الاغتيالات التي نفذتها ضد الكرد وبينهم البارزاني نفسه وأفراد عائلته ووضع قوانين في المناطق المحررة تنصف المرأة والفلاحين والفقراء.

  من طبيعة الحياة وصلب قوانين تطور الوعي الانساني استحالة سير كافة حركات التحرر في خط مستقيم وأن تجد فيها الى جانب الانتصارات وتحقيق الانجازات الكثير من الانتكاسات والكبوات والهفوات وليست تجربة الحركة القومية التحررية الكردية وفي جزئها العراقي استثناء من القانون العام المشترك بين كل تجارب التحرر الوطني وهذا لايمنع أوساط كردية واسعة من النخب الثقافية والسياسية والأكاديمية عن البحث والتقييم في نهج البارزاني الذي أعاد صياغة التاريخ الكردستاني بجوانبه الثورية والسياسية والانسانية وتجربته التاريخية الطويلة والغنية واستنباط العبر والدروس منها لفائدة الأجيال القادمة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…