حصلت الانعطافة الأولى كما ذكرنا باتجاه الفكر القومي التحرري عند تقديم المذكرة الى الباب العالي والمطالب المرفوعة الى الادارات العراقية والصلات بالقادة القوميين الكرد خارج العراق وتعزز ذلك التوجه القومي لدى البارزاني عند الانتقال الى مهاباد وتبلور بصورة أوضح وأكثر عمقا في مضمونه الديموقراطي بعد انتقاله الى الاتحاد السوفييتي السابق وهناك وثيقتان تتضمنان مدى تطور الوعي القومي الديموقراطي في فكره وهما كلمته في مؤتمر باكو عام 1948 لممثلي الحركات التحررية والكردية التي حدد فيها طبيعة وأهداف وموقع الحركة الكردية في الساحتين الوطنية والعالمية وأصدقاءها وأعداءها وكلمته في الكونفرانس السياسي – العسكري في منطقة بالك – كاني سماق – بكردستان العراق عام 1967 التي ناقشت العلاقة بين الحزبية و- الكردايتي – وطرحت هموم الجماهير ومطالب الشعب ومسألة الحرب والسلام والمواجهات مع النظام الحاكم وسبل حل التناقضات الداخلية في المجتمع الكردستاني حسب قوانين حركات التحرر الوطني.
معاصرة الراحل البارزاني للحقب والمراحل التاريخية المتعاقبة صقلته وزادته خبرة فقد لحق بنهاية الامبراطورية العثمانية وراقب الحربين العالميتين وتقسيم الامبراطورية وقيام عصبة الامم ثم هيئة الامم المتحدة ومعاهدتي سيفر ولوزان وساهم في الانتفاضات وشاهد قيام حركة – خويبون – ومعاهدة سايكس – بيكو وتقسيم كردستان واتفاقيات الحلفاء وظهور الحرب الباردة بين المعسكرين واتفاقية الجزائر.
من جهة أخرى فقد شكلت نشأته في بارزان عاملا أساسيا في تبوئه ذلك الدور الكبير في حياته وشخصيته القيادية الكاريزمية فالقرية – المشيخة معروفة بالتسامح الديني التي كانت تضم قبل عقود الديانات السماوية الثلاث الاسلامية والمسيحية واليهودية مع تواصل مع اتباع الازيدية الكرد وانعكس ذلك على النهج الفكري والسياسي في مجال قبول الآخر والعيش المشترك وتحول كردستان العراق في عهده ومن بعده الى خيمة واسعة لمختلف القوميات والأديان والمذاهب المتآخية المتعايشة بسلام.
لقد كان لي شرف اللقاء الأول بالزعيم الراحل في أيار 1967 في مرحلة ثورة أيلول مساء بغرفته في – قصري – بعد فترة استراحة قضيناها في مقر المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكردستاني في – كاني سماق – من عناء السفر لمدة اثني عشر يوما قطعناها في الجبال من زاخو حتى كلالة ولابد من القول أن زيارتنا جاءت في ظروف في غاية الدقة فمن جهة عقدنا المؤتمر العام لحزبنا – البارتي الديموقراطي الكردي اليساري في سوريا – ووصل الانقسام في الحركة الكردية السورية بين اليسار واليمين الى نهايته الحاسمة وأنجزنا كيسار قومي ديموقراطي صياغة برنامج سياسي جديد يتوافق مع متطلبات المرحلة ويستجيب لمطالب وطموحات غالبية أبناء الشعب الكردي في اختيار المصير القومي والسياسي ويجسد الأهداف ووسائل النضال بما في ذلك ارتباط الحركة المصيري بالتطور الوطني الديموقراطي العام في سوريا وفي الوقت ذاته كنا نترقب بحذر محاولات محمومة وفي الخفاء من جانب أوساط النظام الحاكم في حبك خيوط مخطط – الحزام العربي – لتغيير التركيب الديموغرافي في المناطق الكردية وفي جانب آخر حققنا الخطوة الأولى في التعارف والتنسيق وللمرة الأولى مع الفصائل الأساسية في المقاومة الفلسطينية وقوى عربية تقدمية وكان لابد من وضع السيد البارزاني في صورة الوضع في الجانب الآخر كانت الثورة الكردية في عامها السادس وحققت بعض الخطوات أهمها رضوخ النظام الى عملية التفاوض والتعاطي مع مطالب الكرد وحصول حراك سياسي عام كما أن الانقسام الكبير في الثورة والحزب كان في عامه الأول وصراع الأخوة يخيم على فضاء كردستان والكرد خارج العراق في ذهول من أثر الصدمة التي كادت أن تبدد الآمال والأخبار المتسربة الى الخارج كانت متناقضة لذلك كان لابد من معرفة الحقائق من مصدرها الأصلي والبحث عنها كان من احد أهداف الزيارة , ومن جملة ما أشار اليه الراحل خارج سياق المحادثات الثنائية الخاصة والعلاقات المشتركة ابداء غضبه الشديد في معرض شرح أوضاع الثورة من الذين يعادون ثورة ايلول التحررية الديموقراطية خاصة الأغوات ورؤساء العشائر وبعض المتعلمين الذين لايتفهمون واقع شعبهم ودعا الى ضرورة وحدة الحركة الكردية وتجاوز الخلافات ولدى التطرق الى الثورة الكردية والحقوق الكردية والسلطة الحاكمة في بغداد شعرت بقلقه الشديد ازاء النزعة الشوفينية للبعثيين والقوميين في النظام الحاكم رغم محبة الكرد للعرب والوشائج التي تربط الشعبين وأبدى أسفه لنزاعات الرؤساء العرب وانشغالهم بمصالحهم الخاصة على حساب الشعوب كما استذكر بايجاز بعض فترات وجوده باالاتحاد السوفييتي ونقده لستالين وامتداحه لخروتشوف وعدم ارتياحه للمعاملة التي لاقاها هو ورفاقه هناك كما أشار بامتعاض الى بعض الشيوعيين السوريين من أصول كردية – أعتذر عن ذكر الأسماء حيث المجالس أمانات – و التقى بهم في موسكو أيام مهرجان الشبيبة العالمي بسبب ميولهم السلبية تجاه الحقوق القومية الكردية وتغنيهم بالشعارات الأممية التي فهموها بصورة خاطئة وقد كان باديا في حديثه مشاعر الخيبة من القوى الدولية شرقا وغربا.
غالبية الساسة والمثقفين الكرد وقسم من العرب العراقيين يجمعون على الاعتراف والاشادة باالدور التاريخي الكبير للبارزاني الراحل في مسيرة الحركة التحررية الكردستانية عامة وفي العراق على وجه الخصوص وفضله في ترسيخ نهج سياسي مجرب قاد الى انجاز مكاسب استراتيجية للكرد والعرب وفي مقدمتها فدرالية اقليم كردستان في اطار العراق التعددي الجديد ويلمس المرء شعورا لدى العامة من مواطني كردستان من الكرد والقوميات الأخرى مفعما بالامتنان والترحم على ذلك القائد الذي مازالت آثار بصماته بادية في جميع المؤسسات الحكومية والبرلمانية والحزبية وتشكيلات البيشمركة والكل يجمع على فضله في وضع قاعدة متينة لعلاقات الصداقة والعيش المشترك بين الكرد والعرب في عراق موحد وانفتاحه على القوى الديموقراطية العراقية وخاصة الشيوعيين وحرصه الشديد على مصالح المسيحيين والتركمان في العراق وكردستان ومحاربته لكل أشكال الفساد واستغلال السلطة لمآرب خاصة ومنعه في جميع المراحل منتسبي الثورة والحزب والأمن من الاقدام على تنفيذ أي عمل ارهابي وأعمال التفجير رغم جرائم الحكومات السابقة واعمال الاغتيالات التي نفذتها ضد الكرد وبينهم البارزاني نفسه وأفراد عائلته ووضع قوانين في المناطق المحررة تنصف المرأة والفلاحين والفقراء.