ويبقى النظام هوَ هوَ !!

  افتتاحية جريدة آزادي *
  
     لقد كان لمتتبع مجريات الأحداث خلال الفترة الوجيزة المنصرمة استنتاج آخر ، حيث راوده الكثير من الآراء والمفاهيم المستنبطة من التوجهات السياسية الجديدة للنظام السوري وتحركاته التي بدت وكأنها توحي بهذا الشكل أو ذاك بقدوم حالة تنطوي على مستجدات تتفاعل مع المرحلة وسماتها الأساسية ، خصوصا بعد اتفاق دوحة (قطر) بالشأن اللبناني ، وتزامنه مع الإعلان عن مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل عبر الوسيط التركي ، وما رافقها من مساعي إصلاح ذات البين الفلسطيني ، ونسج علاقات اطمئنان مع الجانب العراقي ، فضلا عن بروز الدور الفرنسي الوشيك بالتدخل في معالجة المعضلات المتشابكة مع الشأن الإقليمي والدولي ولاسيما تلك التي لها صلة مع النظام وشأنه 
كل ذلك أرسى إلى ملامسة بصيص أمل البعض من القوى والفعاليات السياسية والثقافية داخل المجتمع السوري ببدء عهد من التجاوب مع المتغيرات الكونية التي إن حصلت ستكون لها أصداء وانعكاسات لا محالة في الداخل السوري الذي يزداد تعطشا إلى الحوار والتفاهم بغية التوافق والتشارك في صنع القرار السياسي والمساهمة في ترجمته وتنفيذه في الواقع العملي على طريق خدمة البلد وتقدمه  ..
    ورغم غياب ما يشير إلى أي دليل موضوعي عن أن النظام قد تخلى عن نهجه في الاستبداد والهيمنة أو أعلن أنه سيعدل عنها، فقط  تجاوبٌ وقتي (تكتيكي) طرأ على تعاطيه مع الجانب الدولي بخصوص بعض قضايا الوضع الإقليمي المذكورة أعلاه ، لكن سرعان ما أخفى تلك التوجهات المضللة أيضا وعاود جهارا سياساته وممارساته من جديد وازداد في علاقاته مع حلفائه التقليديين بشكل أقوى ، وعادت الموازين إلى سابق عهدها بوضوح ، وترافقت بتوترات جديدة على الحدود مع لبنان ، وازدياد في شدة الصراع الفلسطيني، وبدا الوضع العراقي يتخذ منحى يهدد توافقه السياسي وينذر ببروز عوامل اشتعال حرب أهلية قد تكون مدمرة ، وفي الشأن الداخلي لم يتردد النظام في مضاعفة ممارساته القمعية تجاه القوى السياسية حيث تزايد عدد المعتقلين السياسيين والاستجوابات الأمنية المتواصلة ، وسياسته العنصرية الشوفينية تجاه الشعب الكردي حيث المرسوم 49 الذي عطل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في محافظة الحسكة وكل الناطق المعنية وما يخفيه للأيام القادمة ، والأساليب التجويعية تجاه المجتمع السوري حيث جيوش البطالة واستفحال الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع ..

وكأن ما يحصل هو بمثابة رد فعل على اختلال قد حدث في العلاقات بين النظام والأطراف المعنية ، أو أن صفقة مبرمة غير معلنة قد جرى المساس ببعض أو كل جوانبها، أو أن التوجه الذي قبله النظام لم يكن خيارا استراتيجيا بل ربما جاء حصيلة ضغوط مورست عليه وأجبرته بقبول هذا التعاطي على مضض ، و ينبغي أن يتراجع طالما هناك (تطورات في الوضع الدولي) في اعتقاده أنها ستغير كل الموازين ..

    الواقع ، أن النظام يبني سياساته وتوجهاته على عامل الزمن بالدرجة الأساس ، ويتمسك عبره بأمرين أساسيين الأول: هو العمل بأقصى ما يمكن لاشتداد قبضته وزيادة هيمنته على مقدرات الدولة والمجتمع معا، ولا يدخر في ذلك أي وسع أو مسعى ، ويبقى مفهوم التغيير والإصلاح ومكافحة الفساد وما إلى ذلك هو ذاك الذي يخدم هذا الاتجاه ، وليس كما يفهمه البعض من تجديد أو تغيير في السلوك ، لأن التغيير أو التغيير في السلوك بنظر النظام ليس سوى تغيير فيه وبالتالي انفلات زمام الأمور من يده ..

أما الأمر الثاني :  أنه يضع خططه وتوجهاته السياسية بدلالة الآخر أو دلالة تبدلات الوضع الدولي الطارئ ، فراهن تارة على احتمالات حدوث شروخ في الوضع الدولي بسبب الصراعات الاقتصادية والمنافسات الدائرة في الأسواق العالمية، وأخرى على موقف الصين وروسيا عبر المناقشات وقضايا التصويت وممارسة حق الفيتو في هيئة الأمم المتحدة ، وثالثة على أمل عودة التكتل الدولي والحرب الباردة وخصوصا بين روسيا وأمريكا بسبب ما زعم تدخل هذه الأخيرة في شؤون روسيا وصراعاتها مع دول الجوار وكذلك الدرع الصاروخي في بولونيا وغيرها متناسيا أن روسيا اليوم غير الاتحاد السوفييتي السابق فهي الأخرى دولة ذات طبيعة رأسمالية تهتم بقضاياها الاقتصادية وعوامل تطورها ولا ترى الدول الرأسمالية ومنها أمريكا عدوا أو خصما لها بل العكس تأمل منها الاستفادة في تقدمها، واليوم يقع الرهان على التبدلات المنتظرة في السياسة الدولية بتسلم الرئيس الأمريكي المنتخب بارك أوباما لزمام الأمور في إدارته الجديدة ، متغافلا عن أن أمريكا تحكمها استراتيجيات ومؤسسات ومصالح وليس أفراد أو فئات أو مجموعات عرقية أو طائفية أو فئوية ، وأن الحزبين الأمريكيين الجمهوري والديمقراطي لا يختلفان مطلقا على المسائل والقضايا الجوهرية ، وأن الرئيس المنتخب وطاقمه الإداري الجديد ليسوا سوى حوامل لتنفيذ سياسات وبرامج هي مرسومة بالأساس ، ربما اختلف أسلوب العمل أو الممارسة بين شخص وآخر أو إدارة وأخرى ، لكن يبقى الهدف الأساس هو خدمة الإنسان والمجتمع الأمريكي ..
    هكذا ، و من التمحيص بسياسات النظام تلك وممارساته المستمرة يظهر بوضوح أنه متوتر في داخله فاقد لبوصلته ، متشبث باستئثاره السلطة والثروة التي تعميه عن رؤية الحقائق ،  يعاني من أزمات واحتقانات بين مراكز القوى في مختلف أوصاله تهدده بتشتيت صفوفه وبعثرة قواه ، فتجعله مذعورا وخائفا مما يكتنفه المستقبل ، لاسيما وأن لدى المجتمع الدولي معاييره الدقيقة في التقييم والتعاطي مع المستجدات ،  فمع نهاية العام الجاري  وبدايات الإدارة الأمريكية الجديدة في مطلع العام القادم يلوح المجتمع الدولي (بمسألة اليورانيوم) ويحدد المكان في موقع قريب من مدينة دير الزور السورية ، ذلك مع اقتراب موعد المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري والآخرين ، لذلك يفقد النظام السلوك الرشيد، ويتصرف وفق الأهواء والأمزجة  فيرتبك ويخفق ، لأنه لا يولي أي اعتبار للمرحلة وتطوراتها ولا لمصالح الجماهير وتطلعاتها ، كونه يفتقر إلى عقل جمعي وإلى مؤسسات حقيقية ينطلق منها في معالجة القضايا والمشاكل واتخاذ الموقف السليم مما يدور من حوله ، أو ليستمد منها الخطط والبرامج نحو درء المخاطر أو خدمة مصالح البلاد العليا وتطورها ..
    إن الزمن بكل المعايير ليس لصالح النظام وسياساته قطعا، كما أنه لا يستطيع الاستفادة من المرحلة ومتطلباتها ولا يمكنه التصدي لما يحيق به من المخاطر ، وأن كل ما يفعله هو العكس تماما حيث اهتزاز مصداقيته مع الجانب الدولي ، وتأليبه للمجتمع السوري وقواه الوطنية في الداخل والخارج ضده  نتيجة تشديد استبداده وفرضه المتزايد لسطوته وعنجهيته على كل المكونات القومية والدينية والشرائح الاجتماعية داخل الوطن السوري ..

من هنا فإن القوى الوطنية ومعها الجماهير العريضة مدعوة للتعاضد والتضامن وممارسة العمل والنشاط ميدانيا ودون خوف أو وجل لإرغام النظام على إلغاء سياساته القمعية المدمرة والتفاعل مع المجتمع الدولي بغية مواكبة عجلة التغيير والتحول الديمقراطي ، على طريق بناء دولة الحق والقانون التي تجعل من البلاد وطنا لكل أبنائه دون تمييز بسبب الانتماء القومي أو الديني أو السياسي ويفسح المجال للجميع بغية المساهمة في بنائه وتوفير مستلزمات عوامل تطوره وتقدمه ، تحقيقا لشعار « سوريا لكل السوريين » .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جريدة شهرية يصدرها مكتب الثقافة والإعلام المركزي لحزب آزادي الكردي في سوريا – العدد 404 – كانون الأول 2008

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…