بقلم: صالح بوزان
salihbozan@yahoo.com
في جريدة الثورة العدد 13747 تاريخ 28/10/2008 وفي زاوية معاً على الطريق كتب الدكتور أحمد البرقاوي مقالة قصيرة بعنوان “العرب ومفهوم الأقلية”.
المهم في هذه المقالة القصيرة رؤية الكاتب حول الأقليات في الوطن العربي وفي سوريا بشكل خاص.
يرى الدكتور البرقاوي أن مفهوم الأقلية مفهوم نسبي وملتبس، لكنه لا يقف عند هذه المسألة، بل ينتقل مباشرة إلى أفكاره الأساسية ليقول: (وعندي أن الغرب وأمريكا يلعبون هذه الورقة – يقصد ورقة الأقلية- ويحاولون عبرها التدخل في الشؤون الداخلية لبلداننا واستخدامها لضرب وحدة المجتمع.
ولهذا علينا أن نواجه ذلك لا بالصمت بل بالهجوم والعمل على خلق الوعي بالانتماء الكلي.).
ويتابع أن أكراد (المدن الشامية ما عادوا أكراداً بمعنى الأتني المدعى به.
منهم من حكام المنطقة واقطاعيها وشعرائها وفنانيها ..الخ فيما أكراد شمال العراق الذين استمروا بالعيش داخل طابع كردي صرف وحافظوا على لغتهم وأعيادهم ووعيهم هم أقلية كردية.).
وكدلالة على مصداقية نظريته في الأقليات (لأنه بروفيسور في الجامعة ويحق له أن ينظّر) استشهد بالشاعرين الكرديين شيركو بيكس وسليم بركات.
فاعتبر أن الأول شاعر كردي والثاني شاعر عربي لأنه يكتب باللغة العربية ويحمل ثقافة عربية.
ويستطرد البرقاوي في تنظيره بالقول أن (الأول كردي كتب باللغة الكردية وبالطريقة الكردية ووعيه بذاته كردي لكن إن سألته عن بلده: سيقول إما أنا من العراق أو من العراق كردستان أو من كردستان مدينة أو قرية كذا.
والثاني من أصل كردي لكنه عربي كتب بالعربية وأغنى العربية وفضاؤه اللغة العربية وإن سألته من أي بلد أنت لأجاب سوري فهو عربي من حيث الثقافة والإبداع لأنه ابن العربية وسوري لأنه من بلد يسمى سورية).
2
وهكذا ينزلق الدكتور البرقاوي إلى منطق الأنظمة العربية تجاه الأقليات القومية، هذا المنطق الذي ينكر وجود الأقليات، ويجعلها مشروعاً للذوبان في العروبة سواء بشكل مباشر أو من خلال الإسلام، أو من بواسطة مخططات عنصرية تعتمد على قوة الدولة.
أما الأقليات التي تقاوم هذا الذوبان-حسب هذا المنطق- فهي مرتبطة بالغرب وبأمريكا.
بمعنى آخر يريد الدكتور البرقاوي أن يهمس في أذننا بأن لا مشكلة كردية في سوريا، وأن الغرب وأمريكا هما المسؤولان عن الاحتجاجات والإضرابات الكردية، وأن نضال الشعب الكردي السوري خلال أكثر من نصف قرن ضد الإنكار والتمييز العنصري عبارة عن تدخلات خارجية.
وكأن حزب البعث الذي ينتمي إليه البرقاوي لم يمارس أية تميز أو تفرقة عنصرية ضد الشعب الكردي السوري منذ عام 1963، تاريخ استيلائه على الحكم في سوريا عن طريق انقلاب عسكري.
يتجاهل البروفيسور البرقاوي أنه في 23 آب من عام 1962 جرّد النظام السوري بالمرسوم رقم 93 أكثر من 150 ألف مواطن كُردي سوري من جنسيتهم، خلافا لاتفاقيات حماية حقوق الأقليات وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وفي عام 1966، استثنى قانون الإصلاح الزراعي الفلاحين الفقراء الكُرد من الاستفادة منه.
وهذا ما اعترف به وزير الزراعة، خلال مناقشة القانون في مجلس الشعب.
* ثم تبعه بمرسوم آخر عام 1966 يُنشئ الحزام العربي، بتوطين العرب بدلاً من الكُرد، في منطقة الحسكة، حيث تمَّ البدء بالحزام المذكور في 24 حزيران 1974، ووزعت الأراضي على أعداد غفيرة من العشائر العربية في منطقة الجزيرة، تنفيذاً لهذه السياسة العنصرية.
ثم صدر مؤخراً خطاب وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي رقم 1682 في شباط 2007 بإنشاء الحزام العربي الجديد، والغاية منه الفصل بين الكُرد في سوريا والكُرد في كردستان العراق وذلك بإسكان 151 عائلة عربية على أراضي الكُرد، وهي سياسة تطهير عرقي واضحة.
ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم، ما زال الشعب الكُردي السوري ضحية اضطهاد عنصري متعدد الأشكال، يبدأ بالاعتقال التعسفي، وينتهي بالقتل، مثلما حدث سنة 2005 للشيخ محمد معشوق الخزنوي.**
3
لا أدري كيف يقبل مفكر كبير (على الساحة السورية طبعاً) أن يجعل من نفسه عراباً فكرياً لهذه السياسات التي لا يقبلها أي منطق عصري ولا أي مفهوم وطني.
فالبرقاوي لا يرى في سوريا سوى الأكراد الذين ذابوا في عروبته؛ أكراد دمشق وحماه وقرى حمص واللاذقية وفلسطين ولبنان، ويغض الطرف عن أكراد الجزيرة السورية وعين العرب وعفرين وحلب وزورافا (دمشق).
لماذا يتجاهل الأستاذ الجامعي هذه الحقيقة التي يعرفها ليس كل السوريون فقط، بل كل العرب، ومعظم المؤرخين وكتاب السياسة الأجانب.
وقد كشفت انتفاضة أذار 2004جغرافية الوجود الكوردي السوري في عز الظهيرة.
نعم..
لا يعترف الدكتور البرقاوي إلا بالأكراد الذين ذابوا في العروبة، ولا مانع عنده من أن يقال أن هذا عربي من أصل كردي.
فقد استطاب هذا المصطلح مؤخراً للشوفينيين السوريين والأتراك، ويتبجح بها الآن أردوغان في خطاباته الأخيرة.
في الحقيقة، أن هذا الموقف تجاه الأكراد غير جديد، فالفكر القومي العربي قد وضع بدايات هذه النزعة العنصرية منذ النصف الأول من القرن الماضي على يد القوميين العرب السوريين والعراقيين.
وتجلت هذه النظرية بوضوح أكثر عند ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث ومنظره الايدولوجي.
ودخلت هذه الايدولوجيا العنصرية في دستور حزب البعث في كل من سوريا والعراق.
تقول المادة 11 منه: (يجلى من الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية).
ولعل الرؤية العنصرية واضحة في هذه المادة، وبرزت بوضوح أكثر خلال التطبيق، فقد كانت هذه المادة تعني دائماً (وهذا ما تم تطبيقه في سوريا والعراق) أن كل من لا يقول أنه عربي يجب تهجيره، وهو عنصري جاء إلى الوطن العربي لغاية استعمارية.
لا شك أن كلمة الاستعمار هنا لا تعني في الحقيقة الاستعمار الغربي الذي برز في القرن التاسع عشر، فلو كان الأمر كذلك لاستخدمت كلمة طرد أو تحرير، بل يقصد بها أن لا حق لأحد غير العربي في هذه البقعة التي سموها الوطن العربي سوى الرضوخ لهذا المنطق.
طبعاً أنا لا أنكر أن هناك بلاداً عربية، وبالإمكان اعتبار مجموع هذه البلدان بالوطن العربي أو العالم العربي، كما يشاء الدكتور البرقاوي، لكن في الوقت نفسه، أرى أن الاستيلاء على أراض الغير بأنها أراض عربية واستلاب هويات ساكنيها بأنهم عرب، شاءوا أو أبوا، تالله أن ذلك قمة العنصرية، وحالة أسوأ من الاستعمار الغربي.
نحن نعلم أن الاستعمار الفرنسي لم يدّع بأن سوريا جزء من فرنسا، أو أن الشعب السوري هو فرنسي من أصول أخرى.
الدكتور البرقاوي لا يريد أن يعترف بأكراد الجزيرة وعين العرب وعفرين، ولا يريد اعتبارهم من سكان هذه الأرض تاريخياً.
فهو مازال يجسد منطق الغزوات العربية الإسلامية التي كان الغازي يعتبر كل ما يأخذه عنوة في غزواته هو ملك طبيعي له؛ الأرض والناس والحيوانات.
كيف يمكن لدكتور يدرّس مادة الفلسفة في جامعة دمشق، ومنذ تخرجه من جامعات الاتحاد السوفييتي يعيش في سوريا (رغم أصله الفلسطيني) ولا يعرف هذه الكتلة البشرية التي لا تقل عن ثلاثة ملايين كردي سوري.
ولا بد أنه تعرف على الكثير من طلابه الكرد في الجامعة، وعلى حد علمي قد أشرف على أطروحات الدكتوراه لبعضهم، ومع ذلك يتجاهل الحقيقة.
ألم يقرأ الدكتور برقاوي الإحصائية التي قامت بها الأجهزة الأمنية السورية ونشرها موقع كلنا شركاء عام 2005 والتي ذكرت أن تعداد الأكراد في سوريا حوالي مليونين وسبعمائة ألف.
طبعاً يستثني الإحصاء أولئك الأكراد المجردين من الجنسية، والذين يربو تعدادهم الآن إلى أكثر من أربعمائة ألف كردي.
وإذا ضمينا هؤلاء إلى التعداد السابق فسيصبح عدد الأكراد السوريين أكثر من ثلاثة ملايين نسمة بكل تأكيد.
أتساءل لماذا يقفز الدكتور البرقاوي إلى شمال العراق ليتكلم عن البيئة الكردية الصرفة ويتجاهل الشمال السوري الكردي؟ كيف أدرك الدكتور بان أكراد هذه المناطق لا يعيشون داخل طابعهم الكردي الصرف؟ ومن قال أنهم فقدوا لغتهم وأعيادهم ووعيهم بذاتهم الكردية؟.
إذا كان الدكتور برقاوي لا يعرف هذه الحقائق فهي مصيبته.
ولكن في هذه الحالة يكون قد أساء كثيراً للشهادة العلمية العليا التي يحملها، وللصفة الأكاديمية التي يتصف بها، لأنه يكتب في موضوع يجهله.
أما إذا كان يعرف هذه الحقائق ويلوي عنق الزجاجة عن دراية، عندئذ من حقي أن أترفع عن وصف هذه الحالة التي حشر البروفيسور البرقاوي نفسه فيها، وأترك للقراء اختيار الصفات التي يرونها مناسبة لحالته هذه.
إن السؤال المحير الذي يجب على الدكتور البرقاوي أن يجاوب عليه: لماذا يريد أن يجعل الأكراد الذين ذابوا في العروبة بديلاً عن الأكراد الذين مازالوا أكراداً؟.
وزيادة في تنويره ( ولا أعتقد أنه يقبل أن ينوره كردي مثلي، مادام يتعالى على شعب بكامله) أقول ليس كل من كتب بالعربية أصبع عربياً، وليس كل كردي، ولسبب خارج عن إرادته، فقد لغته يعني ذلك أنه يتنكر لشعبه ولقوميته، ولا أعتقد أنه لا يعرف تاريخ كفاح الشعب الجزائري.
هل يعلم الدكتور أن في حزب المجتمع الديمقراطي الكردي في تركيا مئات من الأعضاء لا يعرفون اللغة الكردية، وهم أكثر صلابة في العمل من أجل حقوق شعبهم.
ويذكر العديد من مقاتلي حزب العمال الكردستاني أن كثيرا ما كان ينضم إلى صفوف الحزب، كمقاتلين، أكراد ما كانوا يعرفون كلمة كردية واحدة.
في أية خانة سيضع الدكتور برقاوي مواطنه المفكر الكبير ادوارد سعيد الذي كتب أهم مؤلفاته بلغة غير عربية، وماذا سيقول عن الدكتور محمد أركون الذي يكتب بالفرنسية.
وهل ثقافته هو بالذات ثقافة عربية صرفة، ألم يطلع على الفلسفية فكراً وتاريخاً من خلال الجامعات الروسية وبلغة غير لغته الأم؟.
ألا يتذكر الدكتور أن معظم رواد اليقظة العربية كانوا ممن اطلعوا على الثقافة الأوروبية وباللغات الأوروبية؟.
ألا يعلم الدكتور أن الشعر العربي الحديث انبثق من قبل رواد تأثروا بالشعر الغربي ومن خلال لغات هذا الغرب، وكان جميعهم يعرفون اللغات الأجنبية مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأدونيس؟
لقد اختار الدكتور البرقاوي من بين ثلاثة ملايين كردي سوري الشاعر الكبير سليم بركات ليطبق عليه نظريته القومية العروبوية، ويعتبره مثالاً للكردي الذي أصبح ابن العروبة.
لا أريد هنا أن أتكلم بلسان سليم بركات، بل سأتركه يجاوب البرقاوي بنفسه حين قال: (قبل أن أولد، بسنين عشر ربما، لم تكن ثلاثة أرباع هذه البلاد بلاداً بعد.
ومع ذلك طلب مني معلم اللغة العربية أن “أعود” إلى تركيا !! بالطبع لم أطلب منه، هو، أن يعود إلى الجزيرة العربية، ….
، وها أنا أود أن أكتب إلى ذلك المعلم أنني ابتعدت قليلاً عن مصافي العروبة التي يديرها بشهامة أشعار الفخر، غير أن شركاء له يتبعونني إلى اللغة كي يعيدوا إليها “استقلالها” من احتلال كردي يتوسل بها الترجمة إلى لغة الغرب الغاربة.
لم أخترع شعباً على مقياس خيال الغرب.
لم أهن الشخصية العربية في أي نص.
أم تراني أزاحم البعض على جزء من خيال المكان؟ إنه مكاني أيضاً.
إنه المكان الذي يحق لي، مثلهم، إعادة ترتيبه، والإضافة إليه، وصوغه، وتصويره على حاله.
فإن ذهبوا في الأمر على وجوب تصنيفي كاتباً كردياً، خارج مملكتهم، فإنما لم أدع، قط، أنني غير كردي.
منذ “دينوكا بريفا” في عام 1973، وأنا مسترسل في القبض على “البرهة الكردية”.
فليقرؤوا “البرهة الكردية” بالحق الذي يقرؤون به يابانياً مترجماً إلى العربية فيبتهجون بإضافة شيء ما على معرفتهم بأحوال العالم في نص أدبي.
أم أن وراء الأكمة عود زرياب؟).
لم أقرأ شيئاً للدكتور أحمد برقاوي عن الأكراد السوريين ولا عن القضية الكردية.
لكنه كتب اليوم ما كتب، بعد أقل من شهر على صدور المرسوم 49 تاريخ 10/9/2008، الذي يدخل في مسار تطبيق مشروع البعثي العفلقي محمد طلب هلال السيئ الصيت، الذي كتبه في 12/11/1962 عندما كان رئيساً للشعبة السياسية في الحسكة، هذا المشروع الذي وضع خطة تذويب الأكراد في العروبة أو تهجيرهم حسب المادة 11 من دستور البعث.
هل يعتقد الدكتور البروفيسور بأن المثقفين السورين، سواء من الكرد أو العرب، لا يشمون من هذه المقالة الدور غير اللائق لمثقف يضع نفسه في خدمة مشاريع عنصرية، في عصر أصبح فيه الاعتراف بالأخر واحترام رأيه وخصوصيته جزءاً من بنية الحضارة المعاصرة.
يبدو أن مشكلة شعوب المنطقة, بما في ذلك الشعوب العربية ليست مع الأنظمة الدكتاتورية فحسب، بل المشكلة الأكبر مع فقهاء هذه الأنظمة.****
ــــــــــــــــــــــــ
* في قرية كوبرلك- حيث مكان ولادتي حسب سجل النفوس- التابعة لمنطقة تل أبيض والتي بدورها ضمن محافظة الرقة، تم الاستيلاء على أراضي آل كردو، وطرد الفلاحين الكرد من الأرض، كما جلبوا فلاحين من عشيرة “أبو جرادة” العربية من قرية مجاورة، ووزعوا عليهم الأراضي.
كما قسموا القرية إلى قريتن وأعطوها تسميات عربية فسمو الأولى تل الكبير بدل التسمية الكردية كوبرلك والثانية سموها “الحرية”، كناية عن حصول الأرض على الحرية من الأكراد.
** انظر: الدكتور شاكر نابلسي في موقع إيلاف من خلال الرابط:
http://www.elaph.com/Web/ElaphWriter/2008/11/381223.htm
*** انظر موقع عامودا تاريخ 23/02/2003 .
**** بالاعتذار من الدكتور شاكر النابلسي الذي استخدم مصطلح (فقهاء السلطان).
منهم من حكام المنطقة واقطاعيها وشعرائها وفنانيها ..الخ فيما أكراد شمال العراق الذين استمروا بالعيش داخل طابع كردي صرف وحافظوا على لغتهم وأعيادهم ووعيهم هم أقلية كردية.).
وكدلالة على مصداقية نظريته في الأقليات (لأنه بروفيسور في الجامعة ويحق له أن ينظّر) استشهد بالشاعرين الكرديين شيركو بيكس وسليم بركات.
فاعتبر أن الأول شاعر كردي والثاني شاعر عربي لأنه يكتب باللغة العربية ويحمل ثقافة عربية.
ويستطرد البرقاوي في تنظيره بالقول أن (الأول كردي كتب باللغة الكردية وبالطريقة الكردية ووعيه بذاته كردي لكن إن سألته عن بلده: سيقول إما أنا من العراق أو من العراق كردستان أو من كردستان مدينة أو قرية كذا.
والثاني من أصل كردي لكنه عربي كتب بالعربية وأغنى العربية وفضاؤه اللغة العربية وإن سألته من أي بلد أنت لأجاب سوري فهو عربي من حيث الثقافة والإبداع لأنه ابن العربية وسوري لأنه من بلد يسمى سورية).
2
وهكذا ينزلق الدكتور البرقاوي إلى منطق الأنظمة العربية تجاه الأقليات القومية، هذا المنطق الذي ينكر وجود الأقليات، ويجعلها مشروعاً للذوبان في العروبة سواء بشكل مباشر أو من خلال الإسلام، أو من بواسطة مخططات عنصرية تعتمد على قوة الدولة.
أما الأقليات التي تقاوم هذا الذوبان-حسب هذا المنطق- فهي مرتبطة بالغرب وبأمريكا.
بمعنى آخر يريد الدكتور البرقاوي أن يهمس في أذننا بأن لا مشكلة كردية في سوريا، وأن الغرب وأمريكا هما المسؤولان عن الاحتجاجات والإضرابات الكردية، وأن نضال الشعب الكردي السوري خلال أكثر من نصف قرن ضد الإنكار والتمييز العنصري عبارة عن تدخلات خارجية.
وكأن حزب البعث الذي ينتمي إليه البرقاوي لم يمارس أية تميز أو تفرقة عنصرية ضد الشعب الكردي السوري منذ عام 1963، تاريخ استيلائه على الحكم في سوريا عن طريق انقلاب عسكري.
يتجاهل البروفيسور البرقاوي أنه في 23 آب من عام 1962 جرّد النظام السوري بالمرسوم رقم 93 أكثر من 150 ألف مواطن كُردي سوري من جنسيتهم، خلافا لاتفاقيات حماية حقوق الأقليات وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وفي عام 1966، استثنى قانون الإصلاح الزراعي الفلاحين الفقراء الكُرد من الاستفادة منه.
وهذا ما اعترف به وزير الزراعة، خلال مناقشة القانون في مجلس الشعب.
* ثم تبعه بمرسوم آخر عام 1966 يُنشئ الحزام العربي، بتوطين العرب بدلاً من الكُرد، في منطقة الحسكة، حيث تمَّ البدء بالحزام المذكور في 24 حزيران 1974، ووزعت الأراضي على أعداد غفيرة من العشائر العربية في منطقة الجزيرة، تنفيذاً لهذه السياسة العنصرية.
ثم صدر مؤخراً خطاب وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي رقم 1682 في شباط 2007 بإنشاء الحزام العربي الجديد، والغاية منه الفصل بين الكُرد في سوريا والكُرد في كردستان العراق وذلك بإسكان 151 عائلة عربية على أراضي الكُرد، وهي سياسة تطهير عرقي واضحة.
ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم، ما زال الشعب الكُردي السوري ضحية اضطهاد عنصري متعدد الأشكال، يبدأ بالاعتقال التعسفي، وينتهي بالقتل، مثلما حدث سنة 2005 للشيخ محمد معشوق الخزنوي.**
3
لا أدري كيف يقبل مفكر كبير (على الساحة السورية طبعاً) أن يجعل من نفسه عراباً فكرياً لهذه السياسات التي لا يقبلها أي منطق عصري ولا أي مفهوم وطني.
فالبرقاوي لا يرى في سوريا سوى الأكراد الذين ذابوا في عروبته؛ أكراد دمشق وحماه وقرى حمص واللاذقية وفلسطين ولبنان، ويغض الطرف عن أكراد الجزيرة السورية وعين العرب وعفرين وحلب وزورافا (دمشق).
لماذا يتجاهل الأستاذ الجامعي هذه الحقيقة التي يعرفها ليس كل السوريون فقط، بل كل العرب، ومعظم المؤرخين وكتاب السياسة الأجانب.
وقد كشفت انتفاضة أذار 2004جغرافية الوجود الكوردي السوري في عز الظهيرة.
نعم..
لا يعترف الدكتور البرقاوي إلا بالأكراد الذين ذابوا في العروبة، ولا مانع عنده من أن يقال أن هذا عربي من أصل كردي.
فقد استطاب هذا المصطلح مؤخراً للشوفينيين السوريين والأتراك، ويتبجح بها الآن أردوغان في خطاباته الأخيرة.
في الحقيقة، أن هذا الموقف تجاه الأكراد غير جديد، فالفكر القومي العربي قد وضع بدايات هذه النزعة العنصرية منذ النصف الأول من القرن الماضي على يد القوميين العرب السوريين والعراقيين.
وتجلت هذه النظرية بوضوح أكثر عند ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث ومنظره الايدولوجي.
ودخلت هذه الايدولوجيا العنصرية في دستور حزب البعث في كل من سوريا والعراق.
تقول المادة 11 منه: (يجلى من الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية).
ولعل الرؤية العنصرية واضحة في هذه المادة، وبرزت بوضوح أكثر خلال التطبيق، فقد كانت هذه المادة تعني دائماً (وهذا ما تم تطبيقه في سوريا والعراق) أن كل من لا يقول أنه عربي يجب تهجيره، وهو عنصري جاء إلى الوطن العربي لغاية استعمارية.
لا شك أن كلمة الاستعمار هنا لا تعني في الحقيقة الاستعمار الغربي الذي برز في القرن التاسع عشر، فلو كان الأمر كذلك لاستخدمت كلمة طرد أو تحرير، بل يقصد بها أن لا حق لأحد غير العربي في هذه البقعة التي سموها الوطن العربي سوى الرضوخ لهذا المنطق.
طبعاً أنا لا أنكر أن هناك بلاداً عربية، وبالإمكان اعتبار مجموع هذه البلدان بالوطن العربي أو العالم العربي، كما يشاء الدكتور البرقاوي، لكن في الوقت نفسه، أرى أن الاستيلاء على أراض الغير بأنها أراض عربية واستلاب هويات ساكنيها بأنهم عرب، شاءوا أو أبوا، تالله أن ذلك قمة العنصرية، وحالة أسوأ من الاستعمار الغربي.
نحن نعلم أن الاستعمار الفرنسي لم يدّع بأن سوريا جزء من فرنسا، أو أن الشعب السوري هو فرنسي من أصول أخرى.
الدكتور البرقاوي لا يريد أن يعترف بأكراد الجزيرة وعين العرب وعفرين، ولا يريد اعتبارهم من سكان هذه الأرض تاريخياً.
فهو مازال يجسد منطق الغزوات العربية الإسلامية التي كان الغازي يعتبر كل ما يأخذه عنوة في غزواته هو ملك طبيعي له؛ الأرض والناس والحيوانات.
كيف يمكن لدكتور يدرّس مادة الفلسفة في جامعة دمشق، ومنذ تخرجه من جامعات الاتحاد السوفييتي يعيش في سوريا (رغم أصله الفلسطيني) ولا يعرف هذه الكتلة البشرية التي لا تقل عن ثلاثة ملايين كردي سوري.
ولا بد أنه تعرف على الكثير من طلابه الكرد في الجامعة، وعلى حد علمي قد أشرف على أطروحات الدكتوراه لبعضهم، ومع ذلك يتجاهل الحقيقة.
ألم يقرأ الدكتور برقاوي الإحصائية التي قامت بها الأجهزة الأمنية السورية ونشرها موقع كلنا شركاء عام 2005 والتي ذكرت أن تعداد الأكراد في سوريا حوالي مليونين وسبعمائة ألف.
طبعاً يستثني الإحصاء أولئك الأكراد المجردين من الجنسية، والذين يربو تعدادهم الآن إلى أكثر من أربعمائة ألف كردي.
وإذا ضمينا هؤلاء إلى التعداد السابق فسيصبح عدد الأكراد السوريين أكثر من ثلاثة ملايين نسمة بكل تأكيد.
أتساءل لماذا يقفز الدكتور البرقاوي إلى شمال العراق ليتكلم عن البيئة الكردية الصرفة ويتجاهل الشمال السوري الكردي؟ كيف أدرك الدكتور بان أكراد هذه المناطق لا يعيشون داخل طابعهم الكردي الصرف؟ ومن قال أنهم فقدوا لغتهم وأعيادهم ووعيهم بذاتهم الكردية؟.
إذا كان الدكتور برقاوي لا يعرف هذه الحقائق فهي مصيبته.
ولكن في هذه الحالة يكون قد أساء كثيراً للشهادة العلمية العليا التي يحملها، وللصفة الأكاديمية التي يتصف بها، لأنه يكتب في موضوع يجهله.
أما إذا كان يعرف هذه الحقائق ويلوي عنق الزجاجة عن دراية، عندئذ من حقي أن أترفع عن وصف هذه الحالة التي حشر البروفيسور البرقاوي نفسه فيها، وأترك للقراء اختيار الصفات التي يرونها مناسبة لحالته هذه.
إن السؤال المحير الذي يجب على الدكتور البرقاوي أن يجاوب عليه: لماذا يريد أن يجعل الأكراد الذين ذابوا في العروبة بديلاً عن الأكراد الذين مازالوا أكراداً؟.
وزيادة في تنويره ( ولا أعتقد أنه يقبل أن ينوره كردي مثلي، مادام يتعالى على شعب بكامله) أقول ليس كل من كتب بالعربية أصبع عربياً، وليس كل كردي، ولسبب خارج عن إرادته، فقد لغته يعني ذلك أنه يتنكر لشعبه ولقوميته، ولا أعتقد أنه لا يعرف تاريخ كفاح الشعب الجزائري.
هل يعلم الدكتور أن في حزب المجتمع الديمقراطي الكردي في تركيا مئات من الأعضاء لا يعرفون اللغة الكردية، وهم أكثر صلابة في العمل من أجل حقوق شعبهم.
ويذكر العديد من مقاتلي حزب العمال الكردستاني أن كثيرا ما كان ينضم إلى صفوف الحزب، كمقاتلين، أكراد ما كانوا يعرفون كلمة كردية واحدة.
في أية خانة سيضع الدكتور برقاوي مواطنه المفكر الكبير ادوارد سعيد الذي كتب أهم مؤلفاته بلغة غير عربية، وماذا سيقول عن الدكتور محمد أركون الذي يكتب بالفرنسية.
وهل ثقافته هو بالذات ثقافة عربية صرفة، ألم يطلع على الفلسفية فكراً وتاريخاً من خلال الجامعات الروسية وبلغة غير لغته الأم؟.
ألا يتذكر الدكتور أن معظم رواد اليقظة العربية كانوا ممن اطلعوا على الثقافة الأوروبية وباللغات الأوروبية؟.
ألا يعلم الدكتور أن الشعر العربي الحديث انبثق من قبل رواد تأثروا بالشعر الغربي ومن خلال لغات هذا الغرب، وكان جميعهم يعرفون اللغات الأجنبية مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأدونيس؟
لقد اختار الدكتور البرقاوي من بين ثلاثة ملايين كردي سوري الشاعر الكبير سليم بركات ليطبق عليه نظريته القومية العروبوية، ويعتبره مثالاً للكردي الذي أصبح ابن العروبة.
لا أريد هنا أن أتكلم بلسان سليم بركات، بل سأتركه يجاوب البرقاوي بنفسه حين قال: (قبل أن أولد، بسنين عشر ربما، لم تكن ثلاثة أرباع هذه البلاد بلاداً بعد.
ومع ذلك طلب مني معلم اللغة العربية أن “أعود” إلى تركيا !! بالطبع لم أطلب منه، هو، أن يعود إلى الجزيرة العربية، ….
، وها أنا أود أن أكتب إلى ذلك المعلم أنني ابتعدت قليلاً عن مصافي العروبة التي يديرها بشهامة أشعار الفخر، غير أن شركاء له يتبعونني إلى اللغة كي يعيدوا إليها “استقلالها” من احتلال كردي يتوسل بها الترجمة إلى لغة الغرب الغاربة.
لم أخترع شعباً على مقياس خيال الغرب.
لم أهن الشخصية العربية في أي نص.
أم تراني أزاحم البعض على جزء من خيال المكان؟ إنه مكاني أيضاً.
إنه المكان الذي يحق لي، مثلهم، إعادة ترتيبه، والإضافة إليه، وصوغه، وتصويره على حاله.
فإن ذهبوا في الأمر على وجوب تصنيفي كاتباً كردياً، خارج مملكتهم، فإنما لم أدع، قط، أنني غير كردي.
منذ “دينوكا بريفا” في عام 1973، وأنا مسترسل في القبض على “البرهة الكردية”.
فليقرؤوا “البرهة الكردية” بالحق الذي يقرؤون به يابانياً مترجماً إلى العربية فيبتهجون بإضافة شيء ما على معرفتهم بأحوال العالم في نص أدبي.
أم أن وراء الأكمة عود زرياب؟).
لم أقرأ شيئاً للدكتور أحمد برقاوي عن الأكراد السوريين ولا عن القضية الكردية.
لكنه كتب اليوم ما كتب، بعد أقل من شهر على صدور المرسوم 49 تاريخ 10/9/2008، الذي يدخل في مسار تطبيق مشروع البعثي العفلقي محمد طلب هلال السيئ الصيت، الذي كتبه في 12/11/1962 عندما كان رئيساً للشعبة السياسية في الحسكة، هذا المشروع الذي وضع خطة تذويب الأكراد في العروبة أو تهجيرهم حسب المادة 11 من دستور البعث.
هل يعتقد الدكتور البروفيسور بأن المثقفين السورين، سواء من الكرد أو العرب، لا يشمون من هذه المقالة الدور غير اللائق لمثقف يضع نفسه في خدمة مشاريع عنصرية، في عصر أصبح فيه الاعتراف بالأخر واحترام رأيه وخصوصيته جزءاً من بنية الحضارة المعاصرة.
يبدو أن مشكلة شعوب المنطقة, بما في ذلك الشعوب العربية ليست مع الأنظمة الدكتاتورية فحسب، بل المشكلة الأكبر مع فقهاء هذه الأنظمة.****
ــــــــــــــــــــــــ
* في قرية كوبرلك- حيث مكان ولادتي حسب سجل النفوس- التابعة لمنطقة تل أبيض والتي بدورها ضمن محافظة الرقة، تم الاستيلاء على أراضي آل كردو، وطرد الفلاحين الكرد من الأرض، كما جلبوا فلاحين من عشيرة “أبو جرادة” العربية من قرية مجاورة، ووزعوا عليهم الأراضي.
كما قسموا القرية إلى قريتن وأعطوها تسميات عربية فسمو الأولى تل الكبير بدل التسمية الكردية كوبرلك والثانية سموها “الحرية”، كناية عن حصول الأرض على الحرية من الأكراد.
** انظر: الدكتور شاكر نابلسي في موقع إيلاف من خلال الرابط:
http://www.elaph.com/Web/ElaphWriter/2008/11/381223.htm
*** انظر موقع عامودا تاريخ 23/02/2003 .
**** بالاعتذار من الدكتور شاكر النابلسي الذي استخدم مصطلح (فقهاء السلطان).