لن يكسر ظهر الكرديّ إلا كرديّ

هوشنك أوسي

حافظت أنقرة على علاقتها بالقوى الكردية إبان حكم النظام السابق، وكانت تقدم لهم تسهيلات في الحركة والتنقُّل، وسمحت بفتح مكاتب رسميّة لأحزابهم في تركيا.

حتى أن جوازات السفر الدبلوماسيَّة لبعض قادة كردستان العراق، كانت تركيَّة.

لكن، حين تغيّر الوضع الجيوبولوتيكي في العراق، وصار لقادة الأكراد، ثقل ودور استراتيجي في العمليَّة السياسيَّة، وتبنِّي العراق للنظام الفيدرالي، وتضمين الحقوق الكرديَّة في السلطة والثروة العراقيَّة، والمطالب الكرديَّة في كركوك، ضمن الدستور العراقي
هنا، تغيّرت سحنة العلاقة التركيَّة بأكراد العراق 180 درجة.

حتى أن بعض الخبراء والمحللين الاستراتجيين الأتراك، رأوا؛ أن تركيا ارتكبت خطأً فادحاً بحقّ نفسها ومصالحها في العراق، بعدم اشتراكها في الحرب عليه، ورفض السماح للقوَّات الأمريكيَّة استخدام الأراضي التركيَّة، ما ترك الساحة خالية لتعزيز النفوذ الإيراني في بغداد، والكردي في الشمال.

الآن تشهد العلاقة التركية- الكردية بوادر انفتاح وتنسيق أمني، تكتنفه آمال كردية باعتراف أنقرة السياسي بإقليم كردستان.

فما الذي تغير؟

فور أن أدركت تركيا حجم الخسائر التي لحقت بها بعد الـ 2003، بدأت بالبحث عن موطئ قدم لهما في العراق يدرأ عنها تلك المخاطر الناجمة عن تغير الوضع السياسي.

فسارعت إلى استثمار ورقة الأحزاب السنيَّة، وعقدت مؤتمرات عدة في اسطنبول، للمّ شمل العشائر والمجموعات السنيَّة المسلَّحة المناهضة للعمليّة السياسيَّة في العراق، ناهيك عن استثمار الورقة التركمانيَّة، عبر “الجبهة التركمانيَّة” في كركوك التي تعتبر دكَّان سياسي للمخابرات التركيَّة، بحسب الكثير من تركمان العراق أنفسهم.

بذا، خلقت تركيا لنفسها حضوراً دمويَّاً “خفيَّاً” في العراق، واستطاعت عبر المساهمة في توجيه الحرب الأهليَّة الشيعيَّة _ السنيَّة عن بُعد، والإخلال بتركيبة العمليَّة السياسيَّة، لتذكير الإدارة الأمريكيَّة والحكومة العراقيَّة بحجم دورها الإقليمي الذي بمقدورها أن تلعبه.

وقد نجحت فعلاً في التأثير على المزاج السياسي الأمريكي، عبر استمالة بعض مراكز البحوث والدراسات الأمريكيَّة المؤثِّرة في القرار الأمريكي، كمعهد “هودسون”، ناهيك عن البصمات التركيّة الواضحة على تقرير بيكر _ هاميلتون، الذي رفضته الإدارة الأمريكيَّة جهراً، لكنها عملت به سرَّاً.

والمعطى الحالي في العراق، يؤكِّد ذلك.

الجانب الكردي في السنتين الاخيرتين، كان يكثر من نقد “الجبهة التركمانيَّة” وتبعيتها التركيَّة، لكنه كان يسهى عن أن “جبهة التوافق” العربيَّة السنيَّة، ولعبتها في الكرّ والفرّ، والحضور والانسحاب من العمليَّة السياسيّة العراقيَّة، ما كانت لتحدث، لولا التغطية التركيَّة.

ولعل انسحاب 17 وزير سنّي من حكومة المالكي في صيف 2007، هي التي أجبرته على الزيارة السريَّة المفاجئة لأنقرة، ودون إبلاغ أكراد العراق بتلك الزيارة، في آب/أغسطس 2007.

وبعد عودة المالكي إلى بغداد، وبحوزته تفاهم أو اتفاق مبدئي مع الأتراك، عاد الوزراء السنّة لحكومته.

ومن هنا، بدأت رحلة التفاف بغداد على أربيل، بتغطية ودعم من أنقرة.

إذن، ليس من المجازفة القول: إن الصوت العالي الذي بدأ يشوب تعاطي المالكي مع كردستان العراق، منشأه تركي بالدرجة الاولى، وقد سبقه تعيين الرئيس التركي عبدالله غُل لإرشاد هورموزلو (تركماني عراقي، من مواليد كركوك 1943) مستشاراً له لشؤون الشرق الأوسط وبلدان المنطقة، وهو اختيار يقوم على اعتبارات تأتي كركوك في مقدمتها.

الآن بدأت تركيا بحصد نتائج سياساتها، فعلى المستوى السياسي تقلصت مخاوف تركيا من أكراد العراق، بعد تعطيل حكومة المالكي للمادة 140 من الدستور العراقي، و بعد أن اتجه الأخير إلى لغة التهديد العسكري حيال أربيل بشأن صلاحيات قوات البشمركة خارج محافظات الاقليم الثلاث، الأمر الذي انعكس انفتاحاً بين الطرفين التركي والعراقي، تم تتويجه بزيارة أردوغان الأخيرة لبغداد، وتوقيعه على سلسلة الاتفاقيَّات الاستراتيجيَّة السياسيّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة المشتركة مع العراق، وتوثّق الحضور الاستراتيجي لتركيا في هذا البلد.

وبموجب تلك الاتفاقيَّات، سيصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 10 مليار دولار.

وقد أشار أردوغان في زيارته، إلى سعي البلدين لرفع سقف التبادل إلى 25 مليار دولار خلال السنوات الثلاث القادمة.

وبالنتيجة، الحضور الاقتصادي التركي في العراق يسير أيضا من حسن إلى الأحسن.

من ناحية أخرى، تشهد علاقة أنقرة مع أكراد العراق تحولات جديّة.

في الجانب الاقتصادي، لم تؤثر التجاذبات السياسيَّة بين الطرفين الكردي والتركي على حجم الاستثمارات التركيَّة في الاقليم، بل على العكس، ما زالت تركيا تشدّد قبضتها على مفاتيح الاقتصاد الكردي، حيث تعمل اكثر من 800 شركة تركيَّة في القطاعات الخدميَّة والإنشائيَّة، ويزيد حجم الاستثمارات التركيَّة عن مليار دولار.

وقد وصل حضورها في اربيل أخيراً إلى قطاع التعليم مع افتتاح جامعة “إيشك/ النور” التركيَّة الخاصَّة في أربيل، قبل أيام.

وهي جامعة، تابعة لمؤسسة فتح الله غُلان، الإسلاميَّة النورسيَّة (نسبة إلى المفكِّر والداعيَّة الإسلامي، بديع الزمان النورسي)، المقرَّبة جداً من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.

أمَّا سياسيَّاً، فيكثر الحديث في الآونة الاخيرة في الإعلام التركي والكردي حول ضرورة انفتاح أنقرة على أربيل بشكل مباشر، على خلاف ما جرى من تجاهل تركي لحكومة الاقليم خلال السنوات الخمس الماضية.

حيث كثيراً ما كان ينعت رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الجمهوريَّة عبدالله غُل، قادة كردستان العراق، بأنهم قادة عشائر، ولن تخاطبهم وتجالسهم أنقرة، وأن الأخيرة، لا تعترف بالكيان الكردي في شمال العراق.

وإلى جانب جولة المباحثات الأخيرة بين الوفد التركي برئاسة الموفد الخاص لأردوغان، أحمد داوود أوغلو، والمستشار في الخارجيّة التركيَّة مراد أوزتشليك، ولقاءاته بالقيادات الكرديَّة في بغداد وأربيل، خلال الأيام القليلة الماضية، يتمّ الحديث عن زيارة مرتقبة للرئيس التركي عبدالله غُل لبغداد وأربيل، وافتتاحه لمطار أربيل الدولي الذي أنشأته شركة تركيَّة.

كما يتمّ الحديث عن زيارة مرتقبة لأردوغان سيقوم بها إلى أربيل.

وكشفت مصادر كردية مطَّلعة في نفس الوقت، عن زيارة سيضطلع بها رئيس حكومة كردستان العراق نيجيرفان بارزاني لأنقرة.

لماذا كل تلك الزيارات المتبادلة، دفعة واحدة؟

ما بات بحكم المؤكد أن مباحثات الوفود التركية مع القادة الكرد في العراق، لن تكون لتطوير العلاقات الاقتصاديَّة، المتطوّرة أصلاً.

انما سيكون الملفّ الكردي في تركيا، ومعاجلة مسألة حزب العمال الكردستاني PKK، هي في رأس أولويات أي لقاء تركي _ عراقي، أو تركي _ كردي (عراقي) في الفترة المقبلة.

سيما، مع تصاعد وتيرة عمليات حزب العمال الكردستاني ضد الجيش التركي، وتكبيده خسائر فادحة، وصلت لإسقاط طائرة هيلوكبتر من نوع كوبرا، وطائرة عاموديَّة من نوع “إف 16”.

وهو ما ألمح أليه وزير الخارجية التركي في تصريحات صحفية تحدث فيها عن تعاون عسكري وعن عملية مشتركة امريكية عراقية تركية لن تقتصر فقط على الجانب الاستخباري على حد قوله.

قد تكون اللقاءات القادمة هي الخطوة الاولى الرسمية نحو الاعتراف السياسي التركي بالاقليم الفيدرالي الكردي، وهي كلفة جد باهظة للأتراك، ولا شك، لكن أكراد العراق يدركون أيضا الثمن الذي سيدفعون، فهم يدركون أن تركيا تحاول جرّهم لمواجهة دامية جديدة مع حزب العمال الكردستاني، عملاً بالمثل الكردي القائل: لن يكسر ظهر الكرديّ إلاّ كرديّ.

نقاش | 2008/10/28

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…