القضية الكردية شراكة تاريخية ووطنية بامتياز..

عبد الرحمن آلوجي

لقد وقف الباحثون والمؤرخون على القضية الكردية وأبعادها التاريخية والاجتماعية والديمغرافية والأنتروبولوجية والجغروسياسية, بوعي منهجي وموضوعية, تخرج من إطار الهوى والتعصب, أو التحامل والكيد والتأثر بالمواقف المسبقة والأحكام الجاهزة , مما يتنافى مع الرؤية المنصفة التي نهجوها والمتفقة مع  الواقع الحياتي و الطبيعة االعلمية المحايدة في البحث الجاد و المتمكن و الموثق .
و لا نريد  – إذ نتصدى لأهم وأكبر قضية عالقة دون حل منصف في الشرق الأوسط – أن نخوض في التفاصيل التاريخية و الجغرافية – والتي لها مكانها في البحث في حينه, بما يتفق مع قواعد وأصول البحث المنهجي- , وبما تقره الأوابد وتثبنه الرقم و ما يتعلق بهما من وجود أثني عريق يتجاوز آلاف السنين , حيث تتجذر الأمة الكردية منذ الحضارات الإنسانية الأولى , و التي نص عليها علماء الأجناس و المؤرخون و كبار الأثريين , مستندين إلى أوابد تذكر بأسلاف الكرد و حضاراتهم من أمثال : ( شتاين هاوزن , وليام اغلتن , ليرخ , هاوزنغ , ولديورانت , مينورسكي , نيكيتين , ميجرسون …) ليتحدثوا من خلال مكتشفاتهم و بعثاتهم الأثرية  عن قصة وجود آري – هندو أوربي في جبل زاغروس منذ فجر البشرية من خلال أوابد ناطقة وحفائر ماثلة , و التي لا تزال إلى يومنا هذا تنقب و تبحث و تكتشف كل حين مجاهل التاريخ  وأصول هذه الشعوب الزاغروسية  : (كالعيلاميين و المؤابيين و السوئيين و السوباريين و الكرتيين و الكردوخيين و الهوريين و النايريين , و الخلديين و السومريين و الماديين و الميتانيين …) , مما تنبئ عن عراقة تاريخية عميقة , تؤصل للتواجد الجغرافي الخصب في جبال و سهوب و وديان كردستان الغنية بآلاف التلول و المواقع الأثرية , و التي لم يمتد إلى الكثير منها يد التنقيب و البحث على كثرة كاثرة , و حجم هائل من الرقم و الألواح و الأوابد المدفونة , بعد أن كشف النقاب عن دلائل هائلة غيرت وجه الحضارة الإنسانية , كما ظهر في : (كوبادو , نيفالي تشوري , شمشاران , شاندر , دو دري , جرمو , ساره تبه …) , و ما عثر عليه في : (ليلان , تل حلف , موزان , القفة , شاغر , آلالاخ , كلها سيتى, حصه روست, هسن كيفا…) و ما سوف يظهره البحث لاحقا , ليؤكد على عراقة الانتماء إلى الأرض و التاريخ, وهما سندان أصيلان, ومقومان أساسيان لمقومات الوجود التاريخي للكرد لا يقلان أهمية عن اللغة والثقافة والتقاليد وقيم وتراث هذه الأمة , والتي كانت ولا تزال معقد مئات الدراسات المنظمة والموثقة للباحثين والدارسين الجادين شرقا وغربا (يمكن للعلماء المهتمين بهذا الشأن أن يعودوا إلى أحدث ما عثر عليه في مديرية الآثار بإقليم كردستان العراق ونتائج بحث المؤرخ العظيم عبدالرقيب يوسف ومئة وأربعين ألف رقم أثري جديد ..) .


وقد كان من الطبيعي -ووفق قواعد وأحكام المنطق و الواقع – أن يتصدى لهذه القضية ذات البعد التاريخي المشترك و الوطني الملح أقرب الدارسين إلى الكرد جيرة وشراكة من الشعوب التي تتقاسم هذه الأمة حياتها ، حلوها ومرها ، وسلمها وحربها ، وأرضها وخيراتها ظاهرة و باطنة ، عربا وفرسا وتركا من أبناء وشرائح ومكونات المجتمع المشترك،والأطياف الجامعة لذلك المحيط الوطني الذي يضم هذه الملونات إلى المجتمع الكردي ،دون اعتبار بما تتصرف به أنظمتها الحاكمة من عسف وقهر وتمييز وإلغاء وتنكر ، لأنها أخبر بهذه الحياة وهمومها ،وأعلم بالشخصية الكردية وخصائصها و سماتها ،وأكثرها التصاقاً بالمعاناة اليومية والتصرف إزاءها ،وردود الأفعال ووقائعها ،والصيغ الإنسانية المتقدمة التي ينتهجها هذا الشعب بضمير يقظ ،وحس رفيع ،وإحساس عال بالمسؤولية .


ولكن الذي يحصل في الغالب الأعم انصراف أولئك الدارسين إلى إرضاء الأنظمة الحاكمة و التودد إليها ، أو الانسياق إلى رغبات ونزوات مكبوتة ، مرتهنة إلى تراكمات واحتقانات موبوءة مردها إلى سلسلة معقدة من التربية و التوجيه والإعداد الطويل ، للوقوف في وجه تطلعات هذا الشعب وحياته وتاريخه وثقافته وإغماض البصر عن الحق الصراح، والإشاحة عن جملة الحقائق الدامغة ,إردافا للحاصل من قيم ومعايير التنكر ، ومحاولات القفز على واقع عياني معاش، والتي أجهدت الأنظمة نفسها, وسخرت أدواتها وطاقاتها الكاملة ووسائلها الإعلامية المنوعة, في الإمعان في ذلك التنكر, وتجاوزه والقفز عليه, وبناء منظومتها الفكرية والتربوية والتوجيهية عليها, كأن ذلك يخدم استراتيجيات مشتركة وهواجس جامعة , يمكن لمجرد الإلغاء-  مفهوما بدائيا -أن يحل هذه المعضلة,أو أن ينسأ في أجلها ,أو أن تواتيها حين غرة, فتأمن حلها, وتدفنها في رمال هشة, أو تستر ضياءها الذي ملأ الآفاق بغربال ؟؟! كيف ذلك في عصر الاتصال الخارق , والبث السريع الهائل والمحيط الإنساني الشاسع المنزوي كثافة وعمقا في مساحة قرية صغيرة؟؟! يتجلى هذا العجب العجاب  في تنكر فاضح لوجود   ما يتجاوز أربعين مليون كردي يتوسط قلب الشرق الأوسط, شعب أصيل في المطقة , وشريك فاعل في بناء حضارتها والذود عن حياضها, وردة غائلة الطامعين فيها عبر قرون ناطقة بهذه الفاعلية وتلك الريادة , وما رافقها من تضحيات جسام ؟؟!،لتأتي هذه الدراسات الهشة وغير المسندة والبعيدة عن المنهج الموضوعي, وحقائق الحياة والتاريخ, منسجمة ومتوافقة مع ما أرادته تلك الأنظمة وخططت لها على مدى عقود ،في طابع تحاملي ،يتهاوى أمام الرصانة العلمية ،والبحث السيسيولوجي الجاد.


إن حل هذه القضية الشائكة تحتاج إلى رؤية علمية جادة و موقف وطني رائد و متميز في كل جزء, وفق معايير دولية تراعي أسس تطور القضايا الإقليمية  والعالمية وتطورات القضية الكردية ذاتها وآفاق تحررها في بعد كامل عن التوجهات القديمة الخاطئة , القائمة على الإنكار و الرفض , أو محاولات الإبادة و الاستئصال و المحو من الوجود , و اعتماد الأرض المحروقة , في ظل سياسات دولية بائدة , و معايير بعيدة عن القيم الأخلاقية و الروحية و المبادئ و القواعد الدولية,واتخاذ أكثر الأساليب وحشية وبعدا عن التعامل العادل المفترض , كما أن أساليب التمييز و الاضطهاد و الإجراءات الاستثنائية و الشوفينية الهابطة و الهزيلة , لم يعد لها مكان في القاموس الدولي و معاييره , و العلاقات الطبيعية بين الأمم و الشعوب المتجاورة و المتباعدة , و الأولى أكثر استحقاقا لهذه العلاقات و أكثرها تضررا بالمفاهيم الإلغائية و الاستئصالية , لأنها تأتي من خلال تطبيقها , بعكس النتائج المخطط لها , و الآثار التي كانت الأنظمة تتوقعها , إذ أن في الرفض إعلانا و جهرية ووضوحا , و في الإنكار تثبيتا لوجود الشعوب في إصرارها على الحياة , و تحديها لمنطق الإلغاء , و في محاولات الإبادة إصرارا على تأكيد الوجود , و دفعه إلى الامتداد عالميا و إنسانيا , و فضحا بالغا لكل محاولات الإبادة الجماعية و المنطق الهمجي و الوحشية التي أودت بفرسانها إلى الهلاك المحتوم, حيث مات نيرون الذي أحرق روما , و سقط فرعون وجنوده و عاشت روما و عاشت مصر و عاشت شعوب و أمم , و فني الطغاة و الجبابرة , و انهارت أنظمة طاغية على رؤوس أصحابها واندحر النظام البائد برمته في العراق , وقبر الشاه على جبروته في أيران, وسوف يهزم كل نظام علا وقهر وأذل وتجبر , لتكون سنن الحياة و الكون و عمارة الارض و ازدهارها , و علو بنيان المدنية , كوضوح الشمس سطوعا و تألقا .
لقد بات واضحا أن القضية الكردية , شأن أشد القضايا الإنسانية  وضوحا و عدالة و وطنية , و شراكة تاريخية مع الشعوب و الأمم المتجاورة , لا يمكن تجاوزها , أو القفز عليها , أو تصويرها قضية شعب مهاجر أو مقتلع , أو غير أصيل على أرضه,أو مشكوك في وطنيته, ورفعة وسمو إحساسه, ونبل توجهه, وعظمة دوره , وبؤس وسذاجة وهبوط محاولة تخوين هذا الشعب , وادعاء ارتباطه بأجندة خارجية , كما تفعل دوائر إعلامية عربية أو غير عربية , و أقلام كارهة و أخرى مغرضة أو جاهلة أو متجاهلة كالذي يحدث في هذه الأيام من تحامل شرس على الكرد و قادتهم في العراق , بادعاء باطل مفضوح و متآمر بإلصاق تهمة قتل المسيحيين و تهجيرهم في الموصل و مناطقها , في الوقت الذي تشارك هذه الفئات المسيحية ومنذ  التسعينات, أعني (الآشورية الكلدانية السريانية) في البرلمان و الحكومة الكردية , و منذ بداية تجربة الإقليم الفتية , في وقت تتصاعد فيه هجمات الترك و آلتهم الحربية في ضرب عمق الإقليم بحجة مساندة و إيواء حزب العمال الكردستاني , مع بروز الأدلة  الوقائع الكاملة حول عدم صحة هذا الادعاء , و حاجة ما يزيد على ثلاثين مليون كردي إلى حل عادل و طني و شامل لشراكة تاريخية دامت قرونا مع الترك في وقت كانوا تبعا ومماليك لقادة الكرد الأيوبيين, الذين كانوا من أشراف الشام والمشرق في القرن الخامس الهجري, مما تعززه المصادر والمراجع التاريخية وموسوعاتها المعتمدة, ليقع هؤلاء في ازدواجية تعنتية منكرة , لم تعد تنطلي على الدارسين و المثقفين الترك المنصفين الذين علت أصواتهم في الآونة الأخيرة بشكل خجول , كل هؤلاء يحاولون أن ينالوا من صفحات خالدات  تتألق رجالات الكرد و أعلامهم قديما و حديثا , شعوبا و قبائل أثرت التراث الإنساني , و خلدت مآثره , فكانت أرضه مبعث الرسالات الكبرى , و مهبط آباء الرسل الكرام , (من ذرية نوح و ابراهيم و اسماعيل و اسحق و يعقوب و من تلاهم …) إلى أوابد تاريخية شاهقة و شاهدة على الرقم التاريخية الأولى , إلى أعلام في الفكر و السيادة و القيادة (الخراساني , الدينوري , الماوردي , ابن تيمية , الجامي , ابن الأثير , صلاح الدين , ابن خلكان , محمد عبده , المازني , شوقي , الرصافي , العقاد , الزهاوي …) و آلاف مؤلفة من كبار أعلام التاريخ و المنطق و الفلسفة , وقادة الفتح العظام إبان محنة التتار والمغول والفرنجة إلى مشارف القرن العشرين والأيادي البيضاء في معارك وطنية مشهودة ( ثورة العشرين والكيلاني في العراق والثورات والمواقع السورية الكبرى في الغوطة وحارم والزاوية والجزيرة في سوريا, والاسهام الكبير فيالاتحاد والترقي في تركيا, وقيادة الثورات في شمزينان وديرسم ومهاباد ومقارعة الشاه في أيران , وقيادة الحركة التحررية الحديثة في العراق ..), مما لا يحيط به مجال هذا البحث المحدد , ليكون ردا مفحما على الناعقين , ممن ينكرون على الكرد وجودهم الأساسي و الطبيعي  ودورهم النضالي المشهود, دون أدنى اعتبار لإسهاماتهم الحضارية و إبداعاته الفذة , و إنكار مبين لقضية عادلة هي في الصلب من القضايا الوطنية في المنطقة, والمتفاعلة مع تلك الشراكة وذلك الجهد الكفاحي الزاخر والعميق ومعطياته , و التي ينبغي أن تكون ماثلة في وجه كل أشكال التنكر والإعراض وإسهامات التعطيل والتعويق وأساليب البتر والتشويه والعداء السافر والمفضوح ومبرراتها الهابطة والواهية , ومحاولة البحث عن  حل هذه القضية العادلة بالتضافر و التعاضد مع أحرار المنطقة و أعلامها و كبار مفكريها , ممن ساءهم أن يجدوا أبناء جلدتهم يسلكون ذلك الدرب المظلم و القاتم في التنكر و الإعراض لفضل الكرد و تاريخهم و مواقفهم المتميزة و المتألقة , يظهر هذا جليا في كتابات (السهروردي و المسعودي و الطبري و الاصطخري , و العالم , و عبد الرحمن الراشد , و فهمي الهويدي , و البرقاوي و تيزيني , و الداوودي , و المطر , و إيهاب نافع وبعض أعلام الكتاب والساسة الأحرار من الترك والإيرانيين…) و آخرين ممن ساءهم مواقف من تقدمهم و من تلاهم (كالموصلي , و العرفي , و القلمجي , و هارون محمد , و الخزاعي , و البكري , و عطوان,والبياتي واوغلو وتوركيش, والقمي ونجاد … و سواهم كثير) .

إن يقظة على   واقع  شعب شقيق و عريق , تستوجب مراجعة جادة لكل السياسات و المواقف و الرؤى الجائرة , و الخارجة على القانون الدولي , و قواعد الجيرة و الشراكة التاريخية , و القيم الوطنية, وما ترجمتها وقائع حية وتضحيات كبيرة و التي أرساها الكرد عبر تاريخ كفاحي متطاول مشرق و شريف , لا يمكن أن يطعن فيه أو يتجاهله او يقفز فوق استحقاقاته و متطلباته إلا معاند أو حاقد أو متجاهل أو متحامل , مما لا نكاد نجد له مكانا في المجتمع الدولي الجديد المنفتح على مكونات الشعوب و مقدرات حياتها , و آفاق المستقبل الإنساني الزاهر الذي تظلله قيم خالدة و مفاهيم أصيلة رائدة , و قانون دولي و إعلان عالمي ائتلفت عليه أمم و شعوب, وتضافرت على صياغة أسس شرائع خالدة, وقوانين واضحة, ومقاييس ثابتة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…