يا بؤس من يعادي شعباَ ؟

كفاح محمود كريم*

    ربما يختلف الكثير من الناس في آرائهم وطريقة تفكيرهم وحتى في أسلوب معالجاتهم لكثير من الإشكاليات، بل ويتقاطعون مع الآخرين أفرادا أو جماعات  ضمن مؤسسات نيابية أو مجتمعية أو حزبية، لكنها في النهاية لا تمثل رأي كل الناس إطلاقا أو إنها تستحوذ على تأييد ومساندة مطلقة من أي شعب من الشعوب في العالم.
  وكذا الحال عن أي حزب أو جمعية أو منظمة في تمثيلها لعموم الأهالي أو الشعب، فليس هناك في العالم أي حزب مهما بلغ حجمه التنظيمي وتأثيره الإعلامي أن يدعي تمثيلا مطلقا للشعب، وربما نتذكر الحجم التنظيمي للحزب الشيوعي السوفييتي قياسا إلى مجموع نفوس ذلك الاتحاد وكذا الحال مع الصين أو في العراق وتجربة حزب البعث في تبعيث العراقيين جميعا وما آلت إليه هذه السياسة بعد ذلك.

  ولذلك نرى إن الأنظمة الديمقراطية التي سبقتنا في  هذا المضمار تتجه إلى توسيع مساحات تمثيلها للرأي العام بإنشاء تكتلات برلمانية من العديد من الأحزاب والجمعيات والأشخاص في محاولة لكسب مساحة أوسع من الرأي العام، حتى وإن كانت من أجل عملية انتخابية صرفة بعيدا عن الانسجام الكلي في المبادئ والأفكار.
  وفي تجارب الشعوب الأكثر تقدما في ممارساتها الديمقراطية والبرلمانية كثيرا ما تختلف الأحزاب أو المنظمات مع بعضها البعض في توجهاتها أو آرائها ونظرتها لقضية معينة، إلا إن ذلك لا يعني الخلاف الأبدي وعلى طول الخط، إذ انه هناك دوما محطات يتوقف فيها الخصوم أو المختلفون وربما يتحول ذلك الخلاف أو النزاع إلى تحالف وانسجام كبيرين كما يحصل في كثير من البلدان الديمقراطية في تكتلاتها البرلمانية والائتلافية،  فليست هناك صداقات دائمة أو خصومات دائمة في العمل السياسي بل هناك مصالح متبادلة.
   لقد أردت بمقدمتي هذه أن أصل إلى إن الخلافات لا ترتقي إلى مستوى معاداة شعب بأكمله من خلال التصريح والتهجم الإعلامي لأي كائن من كان سواء كان فردا أو حزبا مهما كانت الخلافات في وجهات النظر أو حتى الخلافات الحادة على الحدود أو الثروات، وحتى بين الشعوب أنفسها ليست هناك عداوات مطلقة كما تدعي بعض وسائل الإعلام والتحريض على الكراهية وإشاعة الأحقاد، وما حصل بين الهند والباكستان أو بين العرب وإسرائيل أو الفلسطينيون أنفسهم والدولة العبرية وبعد ذلك الولايات المتحدة ومنظومة الدول الاشتراكية أو الصين وهونك كونك وتايوان، يؤكد إنه ليس هناك عداوة دائمة بل إن نهاية أي خلاف مهما كان هو الحل والتصالح ومن ثم التعايش.
  أعود الآن إلى تصريحات بعض من أعضاء مجلس النواب العراقي المولعون بالمؤتمرات الصحفية وهم يتحدثون لفضائيات عربية ومحلية بلغة لا ينقصها التعميم وخلط الأوراق وإشاعة الكراهية والصراعات العرقية والطائفية حينما يتحدثون عن الكورد أو الشيعة في الموصل وديالى وبغداد وكركوك وبلدات هذه المدن وقراها وكأنما يتحدثون عن أعداء تاريخيين لهم وحتى للعراق بل ويشككون في انتمائهم لهذه الدولة، ساعة بإلغاء وجودهم تماما في تلك المدن كما كان يفعل النظام السابق في سياسة التعريب أو كما فعلت تركيا في سياستها التتريكية للعرب والكورد وكما فعلت إسرائيل في صهينة فلسطين في السياسات الشرق أوسطية البائسة فيما سميت بالتعريب والتتريك والاستيطان، من قبيل التصريح بأن نسبة الكورد في الموصل لا تتجاوز 3 % من مجموع عدد السكان في المحافظة أو عملية تشتيت وشرذمة بعض العشائر الكوردية من الشبك أو من معتنقي الديانة الايزيدية تارة بكونهم عربا وتارة أخرى بكونهم أعراقا وقوميات، أو التعامل مع معطيات جرائم التعريب في كركوك وديالى والموصل وكأنها واقع حال علينا الإذعان لها والقبول بها تحت يافطة العراق الواحد وحرية مواطنه في السكن والعيش أينما يريد(!) متناسين تلك جرائم الترحيل والتهجير وتصحيح القومية، في محاولة لدس السم في العسل وقول كلمة حق مغمسة بالباطل، وتارة أخرى في صناعة قوميات جديدة من عشائر كوردية وإعادة تصنيع وتأهيل قوات ( الجحوش ) السيئة الصيت من عملاء ومرتزقة النظام السابق مما كانت تعرف بالأفواج الخفيفة ويطلق عليها العراقيون تسمية ( الجته ) من مستشاري الأفواج الخفيفة في الموصل، على شكل أحزاب كارتونية شبيهة تماما بتلك التي كانت تصنعها مديرية الأمن العامة في النظام السابق، أو من خلال تصريحاتها غير مسؤولة وينقصها الانضباط  بخطورة وجود قوات البيشمه ركه في الموصل وكركوك وديالى والإيحاء للرأي العام بكون هذه القوات تشبه تلك الميليشيا سيئة الصيت في بقية أنحاء العراق على خلفية ما جرى خلال السنوات الأخيرة في التقاتل الطائفي المقيت والتصور الشعبي السلبي عن أي قوة مسلحة أخرى،  والتعتيم على ما تفعله عصابات البعث والقاعدة والمخابرات الدولية ذات الشأن العراقي في هذه المحافظات، والعمل على تشويه الحقائق وتشويه ما يجري في هذه المدن من عمليات تصفية واغتيال لكل كوردي أو شيعي أو مسيحي أو إيزيدي والتصريح بخطورة الأكراد ومحاولتهم لاحتلال الموصل وتكريد كركوك وسنجار في عملية لنشر الحقد والكراهية العرقية والعنصرية بين أبناء الوطن الواحد كما فعلوا في إشعال الحرب بين السنة والشيعة في تصريحاتهم الطائفية المقيتة.

متناسين حقيقة هذه المناطق وما تعرضت له خلال حكم البعث العنصري طيلة ما يقرب من أربعين عاما.


   وفي ما يتعلق بمدينة ومحافظة الموصل وبمقارنة بسيطة مع معطيات البطاقة التموينية في تحديد نسبة السكان الكورد في المحافظة نرى إن صاحب هذا التصريح وهو السيد أسامة النجفي عضو مجلس النواب قد ( أعدم ) تماما عشرات أو ربما مئات الآلاف من السكان الكورد الذين يشكلون أغلبية مطلقة في أقضية سنجار والشيخان ونواحي زمار وبعشيقة ومع الكلدان والاشوريين والسريان في تلكيف وبلدات سهل نينوى.
   إن اعتماد هذا النهج في التفكير والممارسة يعيدنا إلى ما قبل المربع الأول أو إلى نقطة الشروع التي ابتدأنا منها تحركنا جميعا من أجل حل المشكلات والمآسي التي خلفها النظام السابق باعتبار الايزيدية عربا وتبعيثهم وكذا الحال مع عشائر الشبك ومع معتنقي الديانة المسيحية سواء من كان منهم كورديا أو من الأعراق الأخرى مثل الكلدان والآشوريين وغيرهم، وقد أدت هذه السياسة أي عمليات التحريض ضد الكورد وغيرهم من الأعراق والأقليات الدينية التي انتهجتها مجموعة من أعضاء مجلس النواب إلى عمليات تصفية وتقتيل مئات وربما آلاف الأشخاص من الكورد والشبك ومعتنقي المسيحية والايزيدية منذ تشرين أول 2004م وحتى يومنا هذا، حيث كان التركيز في تصريحاتهم على استخدام كلمات الأكراد في الموصل وكأنهم شعب من خارج العراق أو من خارج محافظة الموصل بما يوحي للرأي العام بأنهم ( محتلون ) لزرع الكراهية والحقد تجاههم تارة بكونهم أتوا بالاحتلال  وتارة أخرى كون المسيحيين تعاطوا مع الاحتلال وكأنهم أقرباء في إشارة لوحدة الدين المسيحي؟
  إن معاداة شعب بأكمله عمل بائس ومشين يدلل على سوء التفكير وضيق الأفق والنظر وعلينا أن نستذكر دوما إن كل عمليات الإبادة الجماعية التي استخدمها النظام السابق وقادته العسكريين والأمنيين في الشمال والجنوب ضد الشيعة والكورد لم تنتج إلا ما نراه اليوم في إقليم كوردستان من نهوض لشعب ينمو كما قال عنه ذلك البدوي الذي شهد عمليات الضرب الكيمياوي في كرميان وبهدينان أيام كان جنديا هناك وعاد إليها ثانية بعد سقوط النظام فقال والله إنكم  شعب لا يقهر مثل زرع الأرض وهذه الجبال!
  وحري اليوم أن يعرف الناس والرأي العام عموما حقيقة ما يجري في الموصل وكركوك وبقية المدن التي انتهكها نظام صدام حسين ومسخ هويتها ويعمل وكلائه ومرتزقته على إدامة تلك العمليات في تطهير الموصل من الكورد والكلدان والاشوريين والشيعة ليس الآن فحسب وإنما منذ سقوط النظام وحتى اليوم، حيث عمليات التقتيل المنظم للكورد وإرهاب المواطنين المدنين ودفعهم إلى الهجرة والرحيل وهذا ما جرى فعلا وامتلأت محافظات دهوك واربيل والسليمانية بعشرات آلاف من العوائل الكوردية  والشيعية من عشائر الشبك ومعتنقي الايزيدية وأخير الحملة الهتلرية الشوفينية ضد معتنقي المسيحية وإجبارهم على ترك الموصل والرحيل خارجها مما دفع مئات العائلات المسيحية بالاندفاع إلى إقليم كوردستان وأطرافه المحمية من قوات حرس الإقليم بحثا عن ملاذ آمن .
  حقا يا بؤس من يعادي شعبا وقد رأينا مصير من كان يعتقد إنه حكم العراق إلى الأبد وإنه أعدم شعبا وأنهى ثورة ونضالا، يا بؤس من يحاول تصنيع الماضي وجرجرة عقارب الساعة إلى الوراء وإخفاء نور الشمس بغربال متهرئ رث.
      

* كاتب وإعلامي

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…