العراق «الجديد» … إلى أين يتجه؟

روني علي

   حاولت التجربة العراقية، ومنذ انطلاقتها، أن توحي بأنها صنيعة أبنائها، ونتاج تلك الدماء التي أريقت على مدى عقود من الزمن، وانها لن تدخر جهداً من أجل بناء عراق ديموقراطي تعددي، يعكس الصورة الحقيقية لواقعه المتعدد والمتنوع بشرياً وجغرافياً، بحيث تجعل من جديده نموذجاً للتآلف والتعايش والتعاضد، بعدما كان بؤرة للاحتقان ونموذجاً لثقافة الدم.

وإن كنا – في قرارة أنفسنا – نشك بإمكانية قيام تجربة، من شأنها أن تقوض النمط المتوارث في بناء الدولة
والأسس المعتمدة في تسيير شؤونها التي تستمد حضورها من العقلية الشمولية وإقصاء الآخر المختلف، والتي ترسخت بحكم عوامل تاريخية وفكرية وثقافية، واشتغلت عليه الأنظمة لأن تجعل منها ثقافة مجتمعية، تشكل جزءاً من جدار الممانعة لأي فعل، قد يخلخل في موازين القوى، المفروضة بفعل القوة، مع ذلك كانت الأنظار متجهة إلى الحدث العراقي، وآمال الرازحين تحت وطأة الظلم والاضطهاد، معقودة على نجاح التجربة، لأن في إخفاقها أو فشلها، انعكاساتها الخطيرة على مسارات الحراك الدائر في المنطقة، والطامح نحو الانتقال بالواقع من حالة الانكسار إلى آفاق قد تمهد لأرضية التغيير التدريجي، ومن ثم الخروج من براثن الأنظمة الشمولية.

ولعل تلك الانعكاسات تتحدد في نقطتين أساسيتين:
  الأولى: إن فشل أو إفشال هذه التجربة، إنما هو لجم لتلك الرؤى التي تراهن على دور العامل الخارجي، لأن في فك الارتباط بين العاملين الداخلي والخارجي، تتحقق غاية المشاريع الإقليمية، كونها ستجعل من رياح التغيير التي تهب على المنطقة، لن تخلف سوى بعض من الزوابع.
  والثانية: ان في فشلها، يكمن قصّ أجنحة قوى المعارضة في المنطقة بأكملها، كون نجاح التجربة، يشكل بالنسبة لها سنداً قوياً، وهي مدعومة من بعض مراكز القوة الدولية.
  لا شك أن مهندسي سياسة المحاور وجبهات الرفض، باتوا على دراية تامة، بأن التجربة العراقية إذا ما استوفت شروط نجاحها، فإنها لن تقف عند حدودها الجغرافية، وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة المعطيات التي كانت السبب وراء الحدث العراقي، منها ما يتعلق بالسياسة الدولية التي تفرض نفسها في إطار معادلات جديدة، هي بخلاف ما كانت سائدة أيام كانت القطبية هي المتحكمة بمفرداتها، والتي تحاول أن تعيد صياغة خارطة المنطقة وفق نموذج يواكب المتغيرات الحاصلة، ويؤسس لمستقبل يحافظ على المصالح الحيوية لمراكز القوة الدولية، ومنها ما يتعلق بالأزمات الخانقة في المنطقة نفسها، والتي يشكل العراق مرآة عاكسة لها، وأن الدخول في معالجة هذه القضايا انطلاقاً من العراق، لا بد وأن يساهم في رفع الغطاء عن مثيلاتها في الدول التي تحتضن نماذجها، ومن شأن ذلك التأثير في التركيبات السياسية السائدة، وفتح ثغرات في المحاور الإقليمية.

ومن هذا الفهم، إضافةً إلى عوامل أخرى، حاولت قوى الممانعة، في الداخل والخارج، أن تتكالب وتجيش طاقاتها لضرب التجربة العراقية في المهد، واستطاعت باعتمادها لغة المواجهة وشرعنة القتل على الهوية، وعبر أدواتها من ميليشيات مسلحة وجماعات تكفيرية وفرق موت، أن تنخر في أوصال التجربة، وتحول الواقع العراقي إلى مستنقع موبوء، وساحة مفتوحة على قوى الشر والإرهاب، وهي تتناحر وتقتتل، لتبدأ عمليات لعبة شد الحبل من جانب كل طرف أو جهة، تتصارع على السلطة والمكاسب والامتيازات، وعلى برك من الدماء، التي ذهبت ضحية اشتغال الأجندات على أوتار حساسة، مثل الطائفية والمذهبية واجتثاث البعث ومواجهة المحتل، إلى جانب إثارتها للقضايا ذات الأبعاد الخلافية، وطرحها لمسألة الهوية العراقية إلى الواجهة، والتي ستكون لها مفاعيلها في إثارة النعرات القومية والعنصرية من جديد، حتى تكون العملية السياسية (التوافقية) أسيرة تلك الأجندات ومرتكزاتها.

ويتم الإمساك بخيوط اللعبة والدخول إلى معادلة التوازنات بهدف تغييرها وإعادة الترتيب لأوراقها، بما يخدم والعودة بالعراق إلى سابق عهده، وضمن ضوابط ومحددات تلبي دوافع وغايات تلك الأجندات.
  إن المشهد السياسي في عراق ما بعد السقوط، والقائم على اصطفافات تشكل من حيث الجوهر انصياعاً للشروط الإقليمية، ورضوخاً لإرادة تلك الدول التي لها المصلحة في الإبقاء على الوضع ضمن حالة السيطرة، حتى وإن ادعت أطرافه غير ذلك، ينبئ بأن العراق الجديد الذي نشتم منه رائحة الدم، على موعد مع مستقبل مجهول، كون الذهنية المعتمدة في التعاطي مع استحقاقات الوضع، هي نفسها التي باتت تشكل الآفة الحقيقية في مجتمعاتنا، والمبنية على القهر والقسر والإقصاء.

فالعراق الذي يتم التعارك فيه بين أطرافه وكياناته السياسية، سواء أكانت في السلطة أم خارجها، على دستوره المجمع عليه، كونه يجسد واقع حاله من جهة التركيبة البشرية والجغرافية، بغية التنصل منه، وخاصةً مواده المتعلقة بمسائل الفيدرالية وكركوك وتوزيع الثروة… إلخ، وكأنه جاء في غفلة من الزمن وأصحابه، والعراق الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام التدخلات الخارجية كي تنهش جسده، وتتصاعد فيه لهجة الحدية في الخطاب بحق جزء من مكوناته، أي الأكراد، بالترافق مع تصريحات وتدخلات دول الجوار، قد يُدفع به إلى مسارات واحتقانات لا أحد يمكنه التنبؤ بنتائجها، وقد تحمل تلك النتائج معها استعادة الشارع لذكرياته أيام الطاغية، أو حتى التباكي عليها، بعد أن يكون العراق «الجديد» قد تاه في دوامات العنف والعنف المضاد.

الحياة     – 11/10/08//

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نظام مير محمدي* لم تکن ممارسة عملية الحکم من قبل النظام الإيراني سهلة وهينة لأنه ومنذ البداية واجه رفضا داخليا قويا مثلما کانت هناك عزلة دولية تفاقمت عاما بعد عام، وحاول النظام جاهدا مواجهة الحالتين وحتى التعايش معهما ولاسيما وهو من النوع الذي لا يمکن له التخلي عن نهجه لأن في ذلك زواله، ولهذا السبب فقد مارس اسلوب الهروب…

نارين عمر ألا يحقّ لنا أن نطالب قيادات وأولي أمر جميع أحزاب الحركة الكردية في غربي كردستان، وقوى ومنظّمات المجتمع المدني والحركات الثّقافية والأدبية الكردية بتعريف شعوب وأنظمة الدول المقتسمة لكردستان والرّأي العام الاقليمي والعالمي بحقيقة وجود شعبنا في غربي كردستان على أنّ بعضنا قد قدم من شمالي كردستاننا إلى غربها؟ حيث كانت كردستان موحدة بشمالها وغربها، ونتيجة بطش…

إبراهيم اليوسف منذ اللحظة الأولى لتشكل ما سُمِّي بـ”السلطة البديلة” في دمشق، لم يكن الأمر سوى إعادة إنتاج لسلطة استبدادية بشكل جديد، تلبس ثياب الثورة، وتتحدث باسم المقهورين، بينما تعمل على تكريس منظومة قهر جديدة، لا تختلف عن سابقتها إلا في الرموز والخطاب، أما الجوهر فكان هو نفسه: السيطرة، تهميش الإنسان، وتكريس العصبية. لقد بدأت تلك السلطة المزيفة ـ منذ…

شادي حاجي سوريا لا تبنى بالخوف والعنف والتهديد ولا بالقهر، بل بالشراكة الحقيقية والعدالة التي تحفظ لكل مكون حقوقه وخصوصيته القومية والدينية والطائفية دون استثناء. سوريا بحاجة اليوم إلى حوارات ومفاوضات مفتوحة وصريحة بين جميع مكوناتها وإلى مؤتمر وطني حقيقي وشامل . وفي ظل الأحداث المؤسفة التي تمر بها سوريا والهستيريا الطائفية التي أشعلت لدى المتطرفين بارتكابها الجرائم الخطيرة التي…