أسباب الانشقاقات وضعف الأحزاب الكردية السورية

صالح بوزان
salihbozan@hotmail.com

قرأت حتى الآن ثماني ملفات حول أزمة الأحزاب الكردية التي أعدها الأستاذ حسين أحمد من خلال حواره مع مجموعة من الرموز الكردية في مجالي السياسة والثقافة ونشرها في موقع (Welate me).
 كنت أتوقع أن أجد في هذه الملفات منطقاً بعيداً عن ذلك الذي تستخدمه الأحزاب الكردية ضد بعضها بعضاً.

ويبدو أن الأجوبة كانت متسرعة.

ومع ذلك فهناك حقائق كثيرة في هذه الأجوبة. 
لكي نستطيع أن ندرك الأسباب الفعلية لانشقاقات الأحزاب الكردية وغير ذلك من الأمراض التي رافقت تأسيسها واستمرت معها حتى الآن لا بد من بحث المسألة تاريخياً، و كشف الجانب الفكري والاجتماعي لها.

عندئذ نستطيع المقاربة مع الحالة السياسية والتنظيمية التي مرت بها هذه الأحزاب، وما زالت تعيشها.
عدت في السنوات الأخيرة إلى كتابات ومذكرات العديد من قادة الكرد السياسيين المنشورة.* وهي تدور غالباً حول الخلافات الحزبية  الداخلية ودور الأفراد في هذه الخلافات، إلى جانب الكثير من المسائل الشخصية.

لكننا نستطيع أن نلمس طبيعة التفكير والعمل السياسي الكردي في تلك المراحل الأولى من خلال هذه الكتابات والمذكرات.**
لقد أثارت انشقاقات الأحزاب الكردية اهتمامي، خصوصاً ضعفها على مختلف المستويات.

وكلما كنت ألتقي ببعض كوادرها، كنت أكتشف مدى التخلف الفكري والسياسي وحتى الاجتماعي المهيمن على عقليتهم.

لم أستطع أن أفهم للوهلة الأولى هذه الحالة الكردية الشاذة.

ومع ذلك يجب الاعتراف بأن هذه الأحزاب، رغم كل انشقاقاتها وضعفها، كانت الأداة الوحيدة في اليقظة القومية بين صفوف الشعب الكردي في سوريا.

ولا نجد في التاريخ الحديث لهذا الشعب دوراً ملموساً للمثقفين الكرد في هذه اليقظة إلا مؤخراً.

وحتى الأمس القريب كان المثقف الكردي يذوب في بوتقة الثقافة العربية وينعزل عن مجتمعه الكردي دون أية ضغوطات من قبل الأنظمة.
أعود إلى القول أن البحث في أسباب الانشقاقات الانشطارية للأحزاب الكردية، يجب أن ينصب قبل كل شيء على تشخيص البيئة الاجتماعية والثقافية التي تأسست فيها هذه الأحزاب.

بمعنى آخر ما هي الخلفية الطبقية والفكرية لقادتها وكوادرها ووسطها الحزبي ومحيطها الجماهيري.
كان المجتمع الكردي السوري بعد انفصال سوريا عن تركيا العثمانية مجتمعاً فلاحياً وبدوياً (أ قصد بالبداوة الاعتماد على الأغنام في المعيشة والانتقال معها حيث مصادر الكلأ).

بمعنى آخر لم يكن ثمة وجود إقطاعي بالمفهوم العلمي للاصطلاح.

كانت الزراعة في المناطق الكردية في الجزيرة والرقة بيد المزارعين من البرجوازية السريانية والأرمينية والعربية الحلبية.*** وفي كوباني (عين العرب) كان هناك ثلاث أو أربع إقطاعيين كبار بينما بقية الشعب عبارة عن فلاحين وغنامين وفئة من المهربين بين كردستان تركيا وكردستان سوريا.

****.

في منطقة عفرين وجدت حفنة من الملاكين الكبار(آغاوات)، أما بقية السكان فكانوا ملاكين صغار وفلاحين وعمال أجراء مياومين في الزراعة إلى جانب فئة من المهربين.

كان الإقطاع الكردي وأكثرية الملاكين يعتمدون في التمويل الزراعي على البرجوازية الحلبية.


لقد كان هذا الواقع الكردي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي غير قادر على انشاء فكر قومي كردي حديث.

كان غالبية الأكراد خارج الثقافة القومية في النصف الأول من القرن الماضي.

وكان المجتمع الكردي مجتمعاً راكضاً وبدائيا بكل معنى الكلمةً.


جاءت الدفعة الأولى لتحريك المجتمع الكردي نحو السياسة من قبل سياسيين كرد انحدروا من كردستان تركيا إلى كردستان سوريا بعد ثورة الشيخ سعيد عام 1925والثورات اللاحقة.

لقد حمل معهم هؤلاء ذكريات مرة عن هذه الثورة وعن الصراعات الكردية التركية الدامية.

ودون الدخول في تفاصيل هذه المسألة، نجد أن الوعي القومي الكردي عبارة عن ردة فعل تجاه الفكر القومي التركي والعربي.

بمعنى آخر لم يكن الوعي القومي وعياً موضوعياً منبثقاً من التطور التاريخي للواقع الكردي.

بل لم تكن هناك أية محاولة جادة  للبحث في التاريخ الكردي والثقافة الكردية عن جذور للفكر القومي من أجل وضع مقدمات تاريخية للحقوق القومية الكردية.


ومع ذلك يجب أن لا نضخم دور أولئك القادة الكرد الذين جاؤوا من كردستان تركيا، مثل جلادت بدرخان، والدكتور نور الدين ظاظا، وقدري جان، وقدري جميل باشا، ونوري ديرسمي، وأوصمان صبري.

فهؤلاء أيضاً لم يكونوا على مستوى سياسي وفكري يؤهلهم لتبني القضية الكردية والسير بها إلى النجاح ( مع التقدير الكبير لعائلة بدرخان على صعيد الثقافة الكردية).

لقد حاول هؤلاء خلق شعور قومي عام بين الأكراد، دون وضع أسس فكرية لهذا الشعور القومي، ودون إدراك الخصوصية الكردية السورية بعد أن تحولت اتفاقية سايكس بيكو إلى واقع، وبعد أن ترسخت الحدود بين سوريا وتركيا الحديثتين.

بمعنى آخر كان الجانب الثقافي والفكري لدى هؤلاء ضعيفاً (المقارنة هنا مع الطرف العربي والتركي).
أما الشخصيات الكردية السورية التي ساهمت في تأسيس أول حزب كردي، وأصبحوا فيما بعد  قادة الحركة الكردية، كانوا عبارة عن شباب متحمسين، لكنهم  شبه أميين في العمل السياسي الحديث، وأميين بالكامل على صعيد الثقافة العامة والثقافة القومية الكردية بشكل خاص.

مثل رشيد حمو وعبد الحميد درويش وحمزة نويران والشيخ محمد عيسى ومحمد علي خوجة وشوكت حنان ..وغيرهم.

لو أجرينا مقارنة بسيطة بينهم وبين زعماء الأحزاب العربية وكوادرها في سوريا حينئذ (وفيما بعد) لتبين لنا الفارق الكبير من حيث الوعي السياسي والمستوى الثقافي والفكري.

أقصد بهذه المقارنة على سبيل المثال لا الحصر مع الدكتور عبد الرحمن شهبندر، مع ميشيل عفلق وصلاح بيطار من حزب البعث، مع انطون سعادة زعيم الحزب القومي الاجتماعي السوري، مع خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري، مع مصطفى السباعي زعيم حزب الإخوان المسلمين..

وإلخ.

لقد كان هؤلاء القادة على مستوى عال من حيث الوعي الفكري والثقافي.

وبالتالي ظهرت الأحزاب العربية على أرضية فكرية واجتماعية أعد لها المثقفون العرب، الذين وضعوا أسساً فكرية وثقافية مقبولة لولادة هذه الأحزاب، بغض النظر إن كان نتاجهم الثقافي والفكري نتاجاً إبداعا أو ترجمة عن الثقافة والفكر الغربيين.

بينما ظهر الحزب الكردي دون أية مقدمات تنويرية على الصعيد الثقافي والفكر القومي والاجتماعي.

وبالتالي كان قادة هذا الحزب الكردي، وفيما بعد قادة الأحزاب الكردية كلها، دون مستوى العمل الحزبي الحديث، لا من الناحية السياسية ولا من الناحية التنظيمية.
في الحقيقة أن أهم عمل سياسي وثقافي وتنظيمي بين الجماهير الكردية قام به الحزب الشيوعي السوري لغاية الستينات من القرن الماضي.

حيث استطاع هذا الحزب جر عدد كبير من الأكراد إلى السياسة والتنظيم الحزبي.

مع العلم أن هذا الحزب  لم يعلن صراحة اعترافه بالقومية الكردية، ولم يدخل في برامجه أية حقوق قومية للأكراد إلا نهاية القرن الماضي.

بل اختصرت أمميته على الدفاع عن سياسة الاتحاد السوفييتي.

وكان لهذه الأممية جانباً كوسموبوليتياً بالنسبة للقوميات غير العربية خصوصاً بالنسبة للشيوعيين الأكراد).
بكلمة أخرى، كان الوعي السياسي والتنظيمي بين الأكراد وعياً هشاً، غير قادر على الاستقلالية لا في التفكير ولا في العمل التنظيمي.

وانعكس ذلك على السيكولوجية الشخصيةً لجميع قادة الكرد في سوريا من حيث الولاء والتبعية.

وبالتالي لم تستطع الأحزاب الكردية خلق تراث خاص لنضالها  ولا لنضال الشعب الكردي السوري، ولم يبرز قائد كردي واحد على صعيد سوريا.

كانت هذه الأحزاب ظلاً للقوى الفاعلة على صعيد كردستان العراق وتركيا.

وكان اسم مصطفى ملا برزاني يؤثر على الشعب الكردي في سوريا أكثر من أي حزب كردي سوري(كما هو الحال الآن بالنسبة لاسم أوجلان).

وكثيراً ما كانت هذه الأحزاب تجعل الولاء للبرزاني أو غيره وسيلة لجمع الأنصار حوله وللحصول على الشرعية الحزبية.


لعلنا نجد في الحزب العمال الكردستاني دليلاً آخر على فكرة التبعية، ليس لدى النخب الكردية السورية فقط، كذلك لدى عامة الشعب الكردي السوري.

لقد انتعش هذا الحزب في سوريا خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي.

حين  كان يقوم بثورته في كردستان تركيا من أجل تشكيل دولة كردية مستقلة.

كان يقيم شكلاً من أشكال التحالف من النظام السوري (الذي كان ومازال يضطهد أكراد سوريا).

ناهيك أن هذا الحزب لم يطرح حينئذ في أدبياته وبرامجه القضية الكردية السورية، بل وجه أنظار ثلاثة ملايين كردي سوري نحو كردستان تركيا.

ومع ذلك أصبح أكبر حزب سياسي بين صفوف الجماهير الكردية، وتوسع على حساب كافة الأحزاب الكردية الأخرى، ولا سيما على حساب الحزب الشيوعي السوري ذي التواجد الكبير بين صفوف الأكراد تقليدياً.

وبعد أن غير إستراتيجيته، وتخلى عن حلم إقامة دولة كردية، واكتفى –  بعد اعتقال زعيمه – بدمقرططة تركيا، بقي هذا الحزب هو الأقوى في سوريا بين الجماهير الكردية.

 ولا شك أنه مازال يلعب دوراً مهماً في نشر الفكر القومي ، واللغة والثقافة الكرديتين.

وفي الحقيقة هو الحزب الوحيد القادر على تحريك الشارع الكردي السوري.
من المؤكد أن هذا الحزب يحمل فكراً قومياً معاصراً، واستطاع إيصال هذا الفكر إلى عامة الأكراد، ولا سيما إلى القاعدة الواسعة من الجماهير الكردية الفقيرة، ولديه قدرة مميزة في مخاطبة الجماهير.

زد على ذلك فقد انعكس كفاحه المسلح إيجابياً بين صفوف الأكراد الذين طيلة تاريخهم عاشوا في حالة الخضوع الإحساسي للآخر.

لكن هناك سبب آخر لانتعاش هذا الحزب بين صفوف أكراد سوريا، وهو عدم وصول الشعب الكردي السوري إلى إدراك خصوصيته الكردية السورية وطبيعة حقوقه القومية كما هو الحال بالنسبة للأكراد في كردستان العراق وتركيا وإيران.

فهذه الغربة عن الذات جعلته مهيأ باتجاه أية جهة تعرف كيف تتعامل مع طاقة التمرد المخزنة فيه منذ تشكيل الدولة السورية التي لم تعترف بحقوقه.

في السابق استغل الحزب الشيوعي السوري هذه الطاقة لفترة طويلة، وكان للتواجد الكردي المكثف في هذا الحزب دور كبير لقوته حتى الأمس القريب.

كما كانت هذه الطاقة الكردية السورية تنصب على كردستان العراق وتنتعش مع ثورة مصطفى ملا البرزاني.

وفي العقدين الأخيرين من القرن الماضي لعبت هذه الطاقة الدور الأكبر في حركة حزب العمال الكردستاني.
في العودة إلى التاريخ، نعلم أن الفكر القومي الذي ظهر في أوروبا، استهدف نسف المجتمع الإقطاعي وتوحيد الأمة وفتح الطريق أمام النظام الرأسمالي.

فكان وراء هذا الفكر كل الطبقات والفئات الاجتماعية المستغَلة.

لكن سرعان ما تخلت البرجوازية عن الفكر القومي عندما بدأ النظام الرأسمالي ينتقل إلى العالمية.

لقد ظهرت الأحزاب السياسية الحديثة مع  ظهور البرجوازية الغربية، وكانت نتاجاً للنظام الرأسمالي.

كان تشكيل أي حزب سياسي، يهدف إلى تغيير الواقع، إما بطريقة ثورية في المجتمعات التي لا تعرف الديمقراطية، أي باستخدام القوة في السياسة.

وإما من خلال الانتخابات في المجتمعات الديمقراطية.
في النموذج الأول نضع الأحزاب الشيوعية على النمط اللينيني، وكذلك الحزب النازي والفاشي، بغض النظر عن اختلاف الأهداف والشعارات.

لقد اعتمد لينين على الطبقة العاملة وعلى المثقفين، واستطاع أن يوحدهم في إطار الفكرة الطبقية والأممية البروليتارية، بينما اعتمد هتلر وموسوليني على الطبقة البرجوازية الصغير والمتوسطة، ووحّدهما في إطار الثقافية القومية العنصرية.

كان ذكاء لينين وهتلر وموسوليني يكمن في أنهم اختاروا بشكل صحيح البيئة الاجتماعية(الطبقة) التي يستطيعون بواسطتها الوصول إلى السلطة.

زد على ذلك معرفتهم العميقة بخصائص هذه البيئة الاجتماعية وضروراتها الفكرية والتنظيمية.
وتجلى النموذج الثاني في الأحزاب البرجوازية والاشتراكية الديمقراطية الغربية.

لقد أدركت هذه الأحزاب في القرن الماضي مستوى التطور في النظام الرأسمالي وفي البنية الطبقية للمجتمعات الغربية، بعد أن انتصرت الرأسمالية على الإقطاع ومخلفاته.

فوضعت برامج وشعارات تربط بين مصالح البرجوازية والتطور الرأسمالي من جهة وبين رفع المستوى المعيشي للطبقات الأخرى من جهة أخرى( خوفاً من ثوراتها).

كان من الطبيعي أن تلتف الجماهير حولها، وتوصلها إلى البرلمانات والسلطة.

بل استمرت بعض هذه الأحزاب على رأس السلطة لسنوات طويلة من خلال اللعبة البرلمانية.


لقد تأسس هذان النموذجان من الأحزاب على بنية اجتماعية واضحة المعالم، وعلى أسس فكرية تجسد تفكير ومصالح قاعدتها الاجتماعية.

ولذلك استمرت وقويت وحققت الكثير من أهدافها دون أن تتعرض لأزمات داخلية حادة.

بمعنى آخر كانت القاعدة الاجتماعية هي التي تحافظ على وحدة هذه الأحزاب.

وبمجرد حدوث التغيرات في هذه القاعدة الاجتماعية كان الحزب يتعرض للخلافات والانشقاقات كما حدث للأحزاب الشيوعية في البلدان الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.


في العالم المتخلف( المستعمرات سابقا) نجد أن البرجوازية الصغيرة هي التي كانت حاملة للفكر القومي، وبغض النظر عن طبيعة هذه البرجوازية المختلطة، فإنها احتضنت الوعي القومي.

فعلى سبيل المثال نجد أن الفكر القومي العربي قام على أكتاف هذه البرجوازية، وما زال حتى الآن يعتمد عليها.

ولعل فشل الفكر القومي العربي في تحقيق أهدافه يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة هذه البرجوازية الصغيرة العربية التي كانت في غالبيتها من منبت فلاحي، وغير قادرة على الدمج بين مصالحها ومصالح الأمة.


عندما نحلل طبيعة وواقع الأحزاب الكردية السورية نجد أنها لم تكن تدرك الواقع الاجتماعي الكردي السوري على حقيقته، كما أنها لم تكن تفهم الواقع العربي المحيط بها.

زد على ذلك أن الفكر القومي في برامج وأدبيات هذه الأحزاب لم يتجاوز الجانب الحسي والأخلاقي الذي لا يصمد أمام الواقع المادي المتطور.

ومن ناحية أخرى لا توجد أية معطيات في وثائق هذه الأحزاب وفي كتابات قادتها بأنهم بحثوا عن الطبقة أو الفئة الكردية التي حسب واقعها وتطورها بالإمكان أن تكون حمالة الفكر القومي الكردي.
لقد افتقر المجتمع الكردي السوري إلى البرجوازية الصغيرة.

وبالتالي لم يحدث أي تطور على صعيد الفكر القومي الكردي ولا على صعيد الحركة الكردية السياسية، هذه الحركة التي ظلت تفيض خارج ذاتها.

كان من نتائج هذه الحالة أن الحركة الكردية السياسية لم تستطع خلق هويتها المستقلة، لا على الصعيد الداخلي ولا على الصعيد الخارجي.


بكلمة مختصرة كان من الطبيعي أن تظهر كل تلك الأمراض في الأحزاب الكردية وفي قياداتها، ولعل من أهم هذه الأمراض التشظي الانشقاقي والزعامات الوهمية “الصامدة” أمام أي تغيير، لأنه لم تكن هناك قاعدة اجتماعية تحتضن هذه الأحزاب وأفكارها.

في الحقيقة لم تقتصر هذه الحالة على الأحزاب الكردية فقط.

بل كانت في الأحزاب العربية أكثر كارثية.

فبالرغم من أن المجتمع العربي السوري على مستوى من التطور أكثر من المجتمع الكردي السوري اقتصادياً واجتماعيا، إلا أن ذلك لم يمنع ظهور هذه الأمراض في الأحزاب العربية.

يكفي أن نذكر أن الحزب الشيوعي السوري انقسم إلى خمسة أحزاب، وكلها مصابة بمرض زعاماتها “التاريخية”.
للإيجاز أستطيع تحديد أهم أسباب أمراض الأحزاب الكردية بما يلي:
1- عدم وضوح الفكر القومي لدى قياداتها، ناهيك عن أن هذه القيادات كانت بعيدة عن صياغة رؤية قومية كردية واضحة المعالم.
2- عدم الفرز الاجتماعي والطبقي بين صفوف الشعب الكردي في سوريا، وبالتالي عدم بروز الكتلة الاجتماعية الحاملة للفكر القومي الحديث.
3- التبعية المطلقة للعامل الكردستاني، بحيث نجد أن الأحزاب الكردية السورية، وكذلك قياداتها استمدت شرعيتها من هذا العامل الكردستاني، وليس من الواقع الكردستاني السوري ولا من الواقع العربي السوري.
4- كانت القيادات الكردية دون مستوى إدراك الواقع العالمي والصراع بين النظام الاشتراكي والرأسمالي وانعكاس هذا الصراع على المنطقة وعلى كل بلدان العالم الثالث.

فالاتحاد السوفييتي لم يكن ليقف مع أية قضية قومية عادلة مادامت هذه القضية في بلد يتحالف النظام الحاكم معه ( كنظام البعث السوري والعراقي).

كما أن الدول الغربية هي الأخرى كانت تتجاهل أية قضية قومية، بل تقف ضدها، إذا كانت تتعارض مع مصالحها في استقرار النظام الذي يضطهد الأكراد، أو إذا كان مزاج الحركة الكردية في هذا البلد له طابع يساري.

( كعلاقة أمريكا مع شاه إيران وتركيا).
5- ابتعاد الأحزاب الكردية عن التراث والثقافة الكردية وانغلاقها في العمل السياسي السطحي.

ومع عدم إنكار دورها نهائياً على هذا الصعيد، لكن إذا قيمنا هذا الدور خلال نصف قرن من النضال، نجد أنه كان دوراً هزيلاً.

ولعل أسوء ظاهرة في هذه الأحزاب هي تهميش المثقفين بحجة منع انتشار الانتهازية بين صفوفها.


الخاتمة
أعتقد أن الواقع الكردي السوري كان غير قادر أن ينتج سوى هذه الأحزاب، وأمراضها هي نتاج هذا الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الكردي.

لكن خلال العقود الثلاث الأخيرة جرى تطور كبير في المجتمع الكردي السوري.

فظهرت البرجوازية الصغيرة والمتوسطة التي تمركزت في المدن.

كما ظهرت فئة واسعة من الموظفين الكرد وكتلة كبيرة من الطلبة الثانوييين والجامعيين.

وأصبح هناك فئة مثقفة كردية عليا تحتك بشكل يومي مع المثقفين العرب السوريين، سواء على صعيد السياسة أو الثقافة أو من حيث الحياة الاجتماعية.

لقد أصبحت التربة الاجتماعية أكثر ملائمة لتطور فكري قومي كردي حديث.

ولعل من أبرز الظواهر الجديدة، هي انتشار الشعور القومي لدى عامة الشعب الكردي السوري، خصوصاً لدى الجيل الجديد.

لقد دفعت هذه الحالة الأحزاب الكردية إلى نوع آخر من الغربة، هي تجاوز الجماهير الكردية هذه الأحزاب.

وجاء الدليل على ذلك من خلال انتفاضة 12 آذار 2004, وما رافق اختطاف واستشهاد شيخ معشوق الخزنوي من مد جماهيري كردي واسع.
أن المجتمع الكردي السوري أمام انعطاف كبير نتيجة التغيرات في بنيته الاجتماعية وانعكاس ذلك على تفكير الأكراد القومي والاجتماعي.

ولم تعد الأحزاب الكردية قادرة على العمل داخل هذه البنية الاجتماعية.

فهذه الأحزاب تسير إلى نهاياتها الحتمية.

فهي لن تستطيع أن تتوحد، مهما كانت هناك نوايا طيبة، ولن تستطيع التخلص من أمراضها.

فهي عملياً غير موجودة على ساحة الجماهير الكردية، باستثناء الحزب العمال الكردستاني.

* أقصد بهذه المذكرات:
       – حياتي الكردية للكتور نور الدين ظاظا
      – أضواء على الحركة الكردية في سوريا لعبد الحميد درويش
      – مذكرات أوصمان صبري
      – صفحات من تاريخ حركة التحرر الوطني الكردية في سوري لمحمد ملا أحمد
     – إضافة إلى غالبية كتب صلاح بدر الدين
    – Dîmenin ji dîroka wida.

Samî Ehmed Namî
    – Dîtin û bîrhatinên min.

Hesen Hişyar
** لا يمكن اعتبار المذكرات مراجع علمية، لأنها تكتب من قبل أشخاص يعتبرون أنفسهم أبطال رواياتهم، فهم  الذي يتحكمون بسرد الأحداث واستنطاق الأشخاص.

غير أنه في الحالة الكردية السوري لا تتوفر لدينا مراجع أخرى، ولا مفر من اعتمادها في الدراسات.

مع  ضرورة وضعها للنقد والتمحيص.

*** المصطلح البرجوازي هنا مجازي.

فحتى هذه البرجوازيات لم تكن على مستوى البرجوازية الغربية، لا من الناحية الاقتصادية ولا من الناحية الفكرية والاجتماعية.
**** كان أكراد سوريا لغاية الخمسينات يتمونون بالمواد الغذائية والاقمشة المهربة من تركيا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…