بعد تراجع المشاريع القومية العربية والأممية، و بدء ظهور فكر وأحزاب في سوريا تستند الى شعار “سورية أولا ” بعيدا عن المشروعيات التقليدية، ترافق ذلك مع صعود واضح للتيارات الاسلامية والكردية ، وسط تسارع المتغيرات الداخلية والدولية، و اعادة صياغة المنطقة في اطار الدول الوظيفية ؛ نتوجه لكم بالسؤال عن المسار الذي ستتخذه سوريا، وما يمكن ان تؤول اليه في المستوى الداخلي، وفي مستوى علاقاتها الاقليمية والدولية.ثمة بداية لمسار مستقبلي سوري , أسسه الاستبداد ووضع لبنته الأولى القمع العاري والمقنع , وأتم بنائه العقل الفرداني وثقافته الواحدية , والمستندة بنفس الوقت إلى موروث ذاتوي متضخم , أعيد إنتاجه مرات ومرات ليخدم ديمومة السيطرة على مقدرات البلدان ومصائر الشعوب , حتى بات يشكل خللا بنيويا على صعيد الثقافة أولا , وعلى صعيد بناء الإنسان وتكوين الوعي بالوجود الإنساني ثانيا .
في الخمسينات وقبل سيطرة المشروعيات الثورية , كان المجتمع السوري متماسكا في اغلبه , تتعايش جميع مكوناته في إطار تعبيرات سياسية , أو قبلية , لكن السمة الأبرز والجامع الأوحد كان مفهوم الوطن السوري كمتحد يجمع أبنائه ويساوي بينهم , ومع تضخم القوموية العروبية , التي توجت بانقلاب حزب البعث وسيطرته على المجتمع , بدا التدمير المنهجي لبنى وقيم وثقافة سوريا , وبالتالي وصلت البلاد بعد فترة طويلة من الاستبداد والفساد والإفساد وتفتيت المجتمع إلى تعبيرات ما قبل مدنية , إلى حافة الهاوية .
إن إخراج السياسة من المجتمع , والإبعاد العنفي للناس عن المشاركة بالشأن العام , أو بما يتعلق بمصيرهم وحياتهم ومستقبلهم , شكل راهنا , فاصلا مخيفا بين جماهير الشعب السوري , وهوة يصعب جسرها فيما لو استمرت ثقافة المعتقدالأمة , وهي ثقافة تزرع الفتنة والتفتت , وتلقى تشجيعا من الكثير من الجهات الرسمية , وحتى أغلبية المعارضة العربية , التي تنهل من ذات الفكر المؤسس لثقافة قاطعي الرؤوس , بمعناه المجازي , فنفي وإنكار وجود الآخر ومحاولة صهره وتعريبه , هو قطع للرأس , مثلما هو وأد لمفهوم الإنسان المختلف في قوميته أو دينه .
إن استخدام منطق تيارات قطع الرؤوس , سواء من قبل السلطة أو من قبل بعض المعارضة , كعلاج وحل للازمة البنيوية التي أوصلنا إليها نظام الاستبداد , أمر في غاية الخطورة , لما يشكله من ثقافة سياسية مفتتة للمجتمع فوق ما هو مفتت , خاصة وان مجتمعنا متعدد القوميات والطوائف والمذاهب , وبالتالي يدفع باتجاه التناحر والتطاحن وليس التعايش والتشارك .
اعتقد بان الموجود في الداخل السوري , مواقف وممارسات سياسية , ناظمها العدمية والانهزامية , بحكم أنها منتجات لمستوى ثقافي متدني وطوباوي, وهي ثقافة لا تحمل أية ملامح مستقبلية ايجابية على صعيد التعايش المشترك في مجتمعنا , بل تحمل النقيض , المزيد من الاغتراب , والمزيد من التفتت , والمزيد من الضحايا الأبرياء , بينما يكمن البديل في تغيير الأدوات والعقليات والمناهج التربوية , والاهم وجود تعبيرات مجتمعية مدنية , تحمل مشروعا نهضويا , يقوم على بعض الركائز , منها الحريات الفردية وترسيخها في وعي وثقافة وسلوك الناس , كنقيض لما تم زرعه وترويجه , إذ لا يمكن إنقاذ مجتمع يكون فيه الفرد مهانا ومهمشا ومقصيا ويتوزع انتماءه بين العشيرة والطائفة , وبالتالي تأسيس حس جماعي ينطلق من عقد اجتماعي جديد , يكون قاعدة بناء وطن , يسمى سوريا .
إن مهمة بناء الداخل وتوجيهه وجهة مدنية , حضارية , تتطلب وعي بالديمقراطية , وثقافة إنسانية جامعة , وبالتالي هناك فاتورة ستدفع شئنا أم أبينا , ولكني اعتقد بأنها ستكون في حدودها الدنيا , فهناك الكثير من الطاقات السورية المغيبة , وهناك موروث التآخي والتعايش , وهناك الحرص على بناء سوريا ديمقراطية , تكون لكل أبنائها , قد لا تتواجد ظاهريا هذه المواصفات , في بعض المعارضة , لكنها ستتواجد في غيرها , عندما يحتاجها المجتمع السوري.
ولعل مستوى التوجه الداخلي , يرتبط إلى حد كبير بمستوى التوجه الخارجي , خاصة وان ثنائية الداخل والخارج باتت في عصر العولمة متشابكة ومترابطة ومؤثرة ومتأثرة , وإذا كان الإرباك والتخبط الرسمي واضحا تجاه الخارج , فهذا ناتج عن انتهاء وظيفته الإقليمية , التي اكتسبها بحكم موازين القوى الدولية السابقة , وهي الموازين التي لا يستطيع العقل الأمني أن يصدق بأنها انتهت , لذلك نراه يحاول اللعب بأوراق مختلفة , للإيحاء بعدم انتهاء دوره ووظيفته في خدمة المصالح الدولية .
اعتقد بان تشابك المصالح الدولية الباحثة راهنا عن ثقافة تتناسب مع تلك المصالح , وعن بيئة قابلة لها ومتجاوبة مع تطلعاتها , وضعت النظام الأمني السوري في وضع لا يحسد عليه , لان بنيته وطبيعة بناءه غير قابلة للتغيير , وهي سمة لكل الأحزاب الشمولية , الثابتة , والمرشحة للانهيار بمجموعها .
وعدم قدرة النظام على تغيير بنيته , وعدم قدرته على استيعاب متغيرات السياسة الدولية , إضافة إلى أخطاءه السياسية القاتلة ,الإقليمية , سواء على الساحة اللبنانية أو العراقية أو حتى الداخلية , وضعته خارج مستقبل اللعبة السياسية الدولية .
إن تصحيح العلاقة مع الخارج , تتطلب تصحيحا في الوضع السياسي الداخلي , وبالتالي تغييرا في الفكر السياسي الناظم للقراءة السياسية لمجمل متبدلات ومتغيرات المشهد الدولي , وهي استحقاق يحاول النظام تجاوزه بالاستناد إلى أوراق إقليمية , تشكل عبئا أضافيا عليه , لانتفاء أهميتها , وتفاوت الرؤية إليها , وتجاوز الزمن لها .
وإذا كانت المطالب الدولية تندرج في إطار المصالح , والاستجابة لها من قبل النظام , أمر في غاية الصعوبة , ليس في صعوبة الاستجابة , وإنما في تأثير الاستجابة على مستقبل وجود النظام الأمني نفسه , وخاصة أن هناك ملفات متعددة , بعضها أن ثبت تورط النظام السوري فيه , يعتبر وفق قرار مجلس الأمن , عملا إرهابيا ( اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري ) .
وفي هذا السياق , التخبط السياسي الرسمي , وسلسلة تحالفاته الجديدة- القديمة , مع إيران , ومع حزب الله , ومقتدى الصدر , والجهاد الإسلامي , وكلها تحالفات الضعفاء , وهي تشكل خطرا على مستقبل سوريا , كوطن , وان كان النظام يحتمي بها , لكنها ستكون مظلة مؤقتة , يقايض بها البعض بالبعض الأخر , مما يزيد العزلة وقد يعرض سوريا إلى المجهول , وبالتالي فالشعب السوري بحاجة إلى تصحيح كامل للعلاقة مع المجتمع الدولي , والالتزام بكل القرارات الدولية , فلا شرعية لنظام ولا سيادة إلا تحت مظلة الأمم المتحدة .
إن مستقبل سوريا وسوية علاقاتها الدولية , ترتبط بتغيير نهجها السياسي الداخلي , وهو التغيير الذي سيشكل ركيزة لقراءة جديدة يكون ناظمها مصلحة الشعب السوري وليس ديمومة نظام الاستبداد .
———
* الناطق الرسمي باسم تيار المستقبل الكوردي في سوريا
* خاص بالمشهد السوري