آرام قنديل
بعد حوالي نصف قرن من تعويم قضيةٍ قضائية طرفاها الدولة السورية و آلاف المواطنين الذين سلبت منهم أملاكهم خلافاً للشرائع البشرية و النصوص الدستورية بصيانة الملكية، لكن مدفوعة بشرعية ثورجية استوردت منطقها من بلاد بعيدة ليس واقعها الاجتماعي بمشابهٍ لواقعنا أبداً، للإستيلاء على أملاك الآلاف من المواطنين الذين فقدوا في يومٍ واحدٍ ملكيتهم المثبتة بسندات أصدرتها الدولة السورية و النظم الإدارية القائمة قبلها بشكلٍ شرعيّ.
و يصور الكثيرون أن الإقطاع في سوريا كان استبدادياً متأثرين بالإعلام المشوه للحقائق و الأدبيات اليسارية التي تبناها عبد الناصر و البعث و غيرهم بدون تطبيقٍ علميٍّ على واقع سوريا، ليزيدها بعد ذلك الإعلام المحلي من خلال الأفلام و المسلسلات التي ينتجها، متجاهلين ما في ذاكرة الشعب عن الرخاء و العدالة السائدة قبل كارثة التأميم.
ليس في تاريخ سوريا منذ حوالي نصف قرنٍ من الزمان مظاهر اجتماعية استبدادية بالموارد العامة للشعب تبرر الدعاية النارية التي نشاهدها أينما التفتنا في الكتب المدرسية و البرامج الإعلامية و التوجيه السياسي و حُشيت بها عقول الأجيال بشكلٍ يهين تاريخ سوريا الحديث التي لم تعرف نظاماً طبقياً رسمياً منذ استقلالها.
كان النظام الاجتماعي يطلق الألقاب التشريفية لعلية القوم نتيجة موروث اجتماعي كان يضمحل رويداً رويداُ و لا يمتد للتسمية الرسمية، إذ كيف بجمهوريةٍ أن تمنح إقطاعاتٍ و ألقاباً إقطاعية للمواطنين.
كل ما يذكره التاريخ أنه كانت هناك دولة فتية تنمو و تصيغ تشريعاتٍ لتنظيم التجارة و العمل، و كانت العدالة بمستوياتٍ أعلى مما هي عليه الآن.
أما ما يقال عن الاستبداد الطبقي الإقطاعي بالأملاك الزراعية فهو لا يعدو خطابةً ثورية ليست تخرج من دائرةٍ منغلقة مستوردة الألفاظ تفتقد للبراهين المقنعة الواقعية، سيما و أن تلك الحقبة “الذهبية” في تاريخ المجتمع السوري لم تكن ببعيدة.
نعم كانت هناك أخطاء اجتماعية و اقتصادية، لكن الدولة كانت فتية خرجت للتو من انتداب عسكري و سيطرة عثمانية أورثتها كل ما هو متخلف في سياق إدارة الدولة و الاقتصاد.
ألم يكن من عظمة إنجازات الشعب السوري أنه حافظ على الجمهورية الديموقراطية عندما كان محاطاً بالملكيات المتعفنة و الأنظمة العسكرية القمعية؟!
في سوريا، و منذ الاستقلال، لم يكن هناك من مالك زراعي يستبد خارجاً عن القانون بمن حوله من فلاحين و مواطنين و أراضٍ كما يشيع الملتهبون بالخطابة الرومانسية لأن قوانين الدولة السورية الفتية لم تكن قوانين ذات منفعة طبقية، كانت القوانين تتطور بشكلٍ طبيعي -كما المجتمع- لتصيغ علاقة عادلةً بين مالك الأرض و الفلاح العامل بالأجر فيها و لم يكن هناك ما يبرر نزع ملكيةٍ من مواطنٍ لمصلحة مواطنٍ آخر بغير وجه حقٍّ و حكم محكمةٍ أو جزاءً لعقدٍ منظمٍ تبعاً لقوانين الدولة، بل كانت التشريعات متقدمةً اجتماعياً بأكثر من التشريعات المتخبطة التي تصدرها الدولة الآن إذا نسبناها لفترتها الزمنية.
الكثير من تلك التشريعات استمرت ملائمةً للمجتمع عدة عقودٍ و بعضها بقي صامداً لم يتغير منذ الخمسينات لأنّ الذين صاغوها كانوا نواباً حقيقيين عن الشعب و أعضاء حكومة متنكبين لمهامهم بكل أمانةٍ و إحساسٍ بالواجب العام، أسسوا لدولةٍ بدأت تنمو ديموقراطياً و اقتصادياً بنسب مرتفعة جداً حتى أتى التأميم و دمر الفعاليات الحقيقية لهذه الدولة النامية ويقعدها حتى الآن بعقليةٍ عدوانيةٍ منغلقةٍ عن كل ما حولها و داخلها.
في تلك الحقبة التي يصورها الخطباء الحماسيون على أنها استبدادٌ و مَكرهةٌ اجتماعية، انتقدت الصحافة بشدة رئيس الدولة لأنه اشترى سيارة ثانية! و كان رئيس الوزراء يدفع ديون الحكومة من ماله الخاص! و كان رئيس البرلمان يمشي في سوق الصالحية ليلتقي بالناس! كان كبار الملاك في الجزيرة المعروفين من مثل أصفر و نجار و غيرهم قد قلبو الأرض خضراء بسياسة زراعية حكيمة أدخلت المكننة الزراعية المتقدمة لهذا البلد آنذاك ففاض إنتاج الأرض غلالاً لتجف اليوم و تختفي فيها الأنهار نتيجة آبار “الرفاق” المخالفة للقوانين و الطبيعة التعدي على الأراضي المنهكة بدون احترام عدم صلاحيتها للزراعة لتستحيل صحراء فقيرة بعد موسم إنتاج واحد فقط، و سياسات الحكومات المتتالية “الشعبية” التي أفقرت الشعب و تدهورت قيمة العملة على يديها أكثر من خمسة عشر ضعفاً!
الأراضي الزراعية صودرت من مالكيها الذين قلبوها خضراء منتجة بجهودهم و تعبهم لتعطى لمواطنين آخرين ليسوا فلاحين! نعم معظمهم ليسو فلاحين، لأن الفلاح أو المزارع هو بالمعنى من يدير الأرض لتنتج، وليس من سيخفض إنتاجها فيما بعد! المواطنين الذين سقطت عليهم من السماء قطع الأرض التي استصلحها غيرهم باعوها بعد فترة وجيزة لأنهم يعجزون عن إدارتها أو لأنهم يريدون مالاً بدلاً من هذه الأرض، فمن لا يتعب بالأرض لا يقدر قيمتها أبداً.
هل سيبقى هؤلاء الفلاحين ينتجون في أراضيهم فيما لو رفعت الحكومة الحالية دعمها التفضيلي لمحاصيلهم؟ بينما كان الملاك الحقيقيون ينتجون بدون أي دعم من “مصرف زراعي” أو “اتحاد فلاحين”…
مزارع الدولة مشروعٌ فاشل باعتراف الحكومة التي ألغتها! كانت تضم عشرات آلاف العاملين الذين أرهقوها بالهدر و النهب، أعدادهم مع الآلات الزراعية المتوفرة في هذه المشاريع كانت لتقلب أراضي مزارع الدولة لما يشبه هولندا بإدارة أحد المزارعين الحقيقين الذين جردوا من حقهم في أملاكهم.
على الجميع أن يقف نفس الموقف الذي كان فيه الآلاف ممن خسروا أموالهم و أملاكهم بليلة واحدة ليروا حجم الدمار الذي حاق بدورة الإنتاج في سوريا و برأس المال الوطني.
يقال أن الإصلاح الزراعي كان يهدف لإلغاء الإقطاع، إلاّ أن المشكلة على ما يبدو محددة في التعريف، إذ و كما يبدو أن الإقطاع كان يعني للبعض مجموعة محددة من الأشخاص بالإسم و استغل هؤلاء حقداً دفيناً على ذلك البعض نتيجة الوفرة التي ينعم بها ذلك البعض بفضل عملهم و إنتاجهم دون أن يسرقوا أو يقتلوا أو ينهبوا، فجاء الإصلاح الزراعي و المزمرين له، ليصير في القرية الواحدة بدلاً من ذلك الملاّك -الذي سمي “إقطاعي” بإسلوب مكـّارثيّ- عشرات الإقطاعيين الحقيقيين يرأسون الجمعيات الفلاحية و الفرق الحزبية و التنظيمات الشعبية الأخرى.
نعم، كان في الجزيرة و الفرات و الغاب عشرات الملاك، الآن لدينا آلاف الإقطاعيين و اللصوص الذين ينبهون الموارد العامة باسم الشريعة الثورية من على كراسيهم.
الإقطاعي من يقتطع لنفسه جزءاً من الكل دون وجه حق.
لذا، نرى أن من أصابهم اتهامٌ تاريخيّ بأنهم إقطاعيون لم يكونوا كذلك، بل كانوا من أكثر المواطنين إخلاصاً للوطن بإنتاجهم و مشاركتهم بالحياة السياسية و الاجتماعية، مع بعض الإستثناءات التي يقوم بها جشعون كانوا يستغلون غياب سلطة الدولة و رقابتها في بعض المناطق ليستولوا على ملكية بعض الأراضي العامة، في حين نرى الآن أن الإقطاعيين الحقيقيين يتكاثرون في كل مكان في الدولة و المجتمع… من يتعين مديراً لمؤسسة سيعتبرها إقطاعيته الخالصة و يسمي نفسه الحاكم بأمره فيها، يعين من شاء من حاشيته و أقاربه، يعصر موارد مؤسسته في جيوبه و جيوب اقاربه و بطانته ليكون بذلك إقطاعياً حقيقياً… من “يتعين” نائباً في البرلمان سيركض لمكاتب الوزراء وراء تراخيص و استثناءات عن القوانين و منفعة شخصية له و لأقاربه ليكون بذلك إقطاعياً حقيقياً… من يدير بلدية سيقلبها إقطاعية له..
من يدير ناحية سيقلبها إقطاعيه له..
من يدير سجناً سيحوله لإقطاعية..
من يقود قطعة عسكرية سيقلبها مزرعة شخصية له….
و تطول القائمة.
هنا، يود الكثيرون التساؤل: من هم الإقطاعيون الحقيقيون؟ أهم الذين سلّموا الحكومة الدولار بخمسة ليرات ليصير بأكثر من خمسين على يد الحاكمين باسم الطبقة الشعبية؟ أهم اللذين كان إنتاجهم يفيض على المواطن ليكون دخله قادراُ على شراء سبع ليرات ذهبية براتبه الشهري، و الآن لا يستطيع شراء ليرة واحدة بفعل بركات النظام الشعبي “بالإسم”؟! أهم اللذين شغّلوا كل الطاقات البشرية في الوطن لتدور دورة اقتصادية-اجتماعية صحيحة و سليمة، في حين تزداد معدلات البطالة و الفقر و الجريمة على يد “الثورجيين”؟!
إذا كان قلق البعض من المبلغ الذي استحق على الدولة نتيجة هذه الممارسة كبيراً، فهذا القلق يجب ألاّ يكون مفرطاً لأن هذه الأموال حق مسلوب، و عند كلمة “حق” يجب أن يقف الجميع بصمت.
و إذا كان المبلغ كبير، فهو ليس من حق الدولة لأنها استملكت مالم يكن لها و استعملته أكثر من 40 سنة، أفلا يكون قد تضاعفت قيمته و استفادت منها الدولة على حساب المالك الأصلي بغير وجه حق؟ ألا تكفي فوائد استعمال الأرض و الانتفاع منها؟
نفسها تشريعات الإصلاح الزراعي منذ 1958 و ما تلاها تنص على تعويض المالكين حقهم بعد انقضاء أربعين عاماً من تاريخ المصادرة.
و للآن، ترفض الحكومة تنفيذ أحكام قطعية صادرة عن محكمة النقض بتعويض قيم الأراضي “بدون ملحقات” مع بدل الانتفاع! أي أن الحكومة لا تحترم قرارات القضاء! كيف يمكن للمواطن أن ينظر لحكومة لا تحترم القانون و القضاء؟؟
ليس من العقل تشجيع الدولة على تجاهل هذا الحق لأن الدولة التي تستولي على أملاك مواطنيها و تتجاهل الاستيلاء، بل و تغطيه بتشريعات “كنغرية”، يجب ألاّ تلقى مؤازرة فهذا سيبقي باب الفوضى مفتوحاً على مصراعيه يصدّر كل الممارسات الشاذة اجتماعياً و اقتصادياً للشعب كما تطالعنا بين فينة و أخرى الحكومات المتعاقبة منذ الستينات برفع أسعار المواد و ابتداع الضرائب و التضييق على الحرية الاقتصادية و خنق المواطن و عبثية السياسات التي أنتجت 209 منطقة سكن عشوائي و أحزمة فقر تحيط بالمدن، و جفاف بردى و الساجور و الخابور، و انهدام سد زيزون، و عدم انتهاء مشاريع الاستصلاح الزراعي المستمرة منذ 30 عاماً و تستنزف المليارات رغم رادءة التنفيذ و تجاوز الخطة الزمنية بعشرين عاماً!
من منكم لا يترحم على “أيام زمان” ……..؟؟
كلنا شركاء
ليس في تاريخ سوريا منذ حوالي نصف قرنٍ من الزمان مظاهر اجتماعية استبدادية بالموارد العامة للشعب تبرر الدعاية النارية التي نشاهدها أينما التفتنا في الكتب المدرسية و البرامج الإعلامية و التوجيه السياسي و حُشيت بها عقول الأجيال بشكلٍ يهين تاريخ سوريا الحديث التي لم تعرف نظاماً طبقياً رسمياً منذ استقلالها.
كان النظام الاجتماعي يطلق الألقاب التشريفية لعلية القوم نتيجة موروث اجتماعي كان يضمحل رويداً رويداُ و لا يمتد للتسمية الرسمية، إذ كيف بجمهوريةٍ أن تمنح إقطاعاتٍ و ألقاباً إقطاعية للمواطنين.
كل ما يذكره التاريخ أنه كانت هناك دولة فتية تنمو و تصيغ تشريعاتٍ لتنظيم التجارة و العمل، و كانت العدالة بمستوياتٍ أعلى مما هي عليه الآن.
أما ما يقال عن الاستبداد الطبقي الإقطاعي بالأملاك الزراعية فهو لا يعدو خطابةً ثورية ليست تخرج من دائرةٍ منغلقة مستوردة الألفاظ تفتقد للبراهين المقنعة الواقعية، سيما و أن تلك الحقبة “الذهبية” في تاريخ المجتمع السوري لم تكن ببعيدة.
نعم كانت هناك أخطاء اجتماعية و اقتصادية، لكن الدولة كانت فتية خرجت للتو من انتداب عسكري و سيطرة عثمانية أورثتها كل ما هو متخلف في سياق إدارة الدولة و الاقتصاد.
ألم يكن من عظمة إنجازات الشعب السوري أنه حافظ على الجمهورية الديموقراطية عندما كان محاطاً بالملكيات المتعفنة و الأنظمة العسكرية القمعية؟!
في سوريا، و منذ الاستقلال، لم يكن هناك من مالك زراعي يستبد خارجاً عن القانون بمن حوله من فلاحين و مواطنين و أراضٍ كما يشيع الملتهبون بالخطابة الرومانسية لأن قوانين الدولة السورية الفتية لم تكن قوانين ذات منفعة طبقية، كانت القوانين تتطور بشكلٍ طبيعي -كما المجتمع- لتصيغ علاقة عادلةً بين مالك الأرض و الفلاح العامل بالأجر فيها و لم يكن هناك ما يبرر نزع ملكيةٍ من مواطنٍ لمصلحة مواطنٍ آخر بغير وجه حقٍّ و حكم محكمةٍ أو جزاءً لعقدٍ منظمٍ تبعاً لقوانين الدولة، بل كانت التشريعات متقدمةً اجتماعياً بأكثر من التشريعات المتخبطة التي تصدرها الدولة الآن إذا نسبناها لفترتها الزمنية.
الكثير من تلك التشريعات استمرت ملائمةً للمجتمع عدة عقودٍ و بعضها بقي صامداً لم يتغير منذ الخمسينات لأنّ الذين صاغوها كانوا نواباً حقيقيين عن الشعب و أعضاء حكومة متنكبين لمهامهم بكل أمانةٍ و إحساسٍ بالواجب العام، أسسوا لدولةٍ بدأت تنمو ديموقراطياً و اقتصادياً بنسب مرتفعة جداً حتى أتى التأميم و دمر الفعاليات الحقيقية لهذه الدولة النامية ويقعدها حتى الآن بعقليةٍ عدوانيةٍ منغلقةٍ عن كل ما حولها و داخلها.
في تلك الحقبة التي يصورها الخطباء الحماسيون على أنها استبدادٌ و مَكرهةٌ اجتماعية، انتقدت الصحافة بشدة رئيس الدولة لأنه اشترى سيارة ثانية! و كان رئيس الوزراء يدفع ديون الحكومة من ماله الخاص! و كان رئيس البرلمان يمشي في سوق الصالحية ليلتقي بالناس! كان كبار الملاك في الجزيرة المعروفين من مثل أصفر و نجار و غيرهم قد قلبو الأرض خضراء بسياسة زراعية حكيمة أدخلت المكننة الزراعية المتقدمة لهذا البلد آنذاك ففاض إنتاج الأرض غلالاً لتجف اليوم و تختفي فيها الأنهار نتيجة آبار “الرفاق” المخالفة للقوانين و الطبيعة التعدي على الأراضي المنهكة بدون احترام عدم صلاحيتها للزراعة لتستحيل صحراء فقيرة بعد موسم إنتاج واحد فقط، و سياسات الحكومات المتتالية “الشعبية” التي أفقرت الشعب و تدهورت قيمة العملة على يديها أكثر من خمسة عشر ضعفاً!
الأراضي الزراعية صودرت من مالكيها الذين قلبوها خضراء منتجة بجهودهم و تعبهم لتعطى لمواطنين آخرين ليسوا فلاحين! نعم معظمهم ليسو فلاحين، لأن الفلاح أو المزارع هو بالمعنى من يدير الأرض لتنتج، وليس من سيخفض إنتاجها فيما بعد! المواطنين الذين سقطت عليهم من السماء قطع الأرض التي استصلحها غيرهم باعوها بعد فترة وجيزة لأنهم يعجزون عن إدارتها أو لأنهم يريدون مالاً بدلاً من هذه الأرض، فمن لا يتعب بالأرض لا يقدر قيمتها أبداً.
هل سيبقى هؤلاء الفلاحين ينتجون في أراضيهم فيما لو رفعت الحكومة الحالية دعمها التفضيلي لمحاصيلهم؟ بينما كان الملاك الحقيقيون ينتجون بدون أي دعم من “مصرف زراعي” أو “اتحاد فلاحين”…
مزارع الدولة مشروعٌ فاشل باعتراف الحكومة التي ألغتها! كانت تضم عشرات آلاف العاملين الذين أرهقوها بالهدر و النهب، أعدادهم مع الآلات الزراعية المتوفرة في هذه المشاريع كانت لتقلب أراضي مزارع الدولة لما يشبه هولندا بإدارة أحد المزارعين الحقيقين الذين جردوا من حقهم في أملاكهم.
على الجميع أن يقف نفس الموقف الذي كان فيه الآلاف ممن خسروا أموالهم و أملاكهم بليلة واحدة ليروا حجم الدمار الذي حاق بدورة الإنتاج في سوريا و برأس المال الوطني.
يقال أن الإصلاح الزراعي كان يهدف لإلغاء الإقطاع، إلاّ أن المشكلة على ما يبدو محددة في التعريف، إذ و كما يبدو أن الإقطاع كان يعني للبعض مجموعة محددة من الأشخاص بالإسم و استغل هؤلاء حقداً دفيناً على ذلك البعض نتيجة الوفرة التي ينعم بها ذلك البعض بفضل عملهم و إنتاجهم دون أن يسرقوا أو يقتلوا أو ينهبوا، فجاء الإصلاح الزراعي و المزمرين له، ليصير في القرية الواحدة بدلاً من ذلك الملاّك -الذي سمي “إقطاعي” بإسلوب مكـّارثيّ- عشرات الإقطاعيين الحقيقيين يرأسون الجمعيات الفلاحية و الفرق الحزبية و التنظيمات الشعبية الأخرى.
نعم، كان في الجزيرة و الفرات و الغاب عشرات الملاك، الآن لدينا آلاف الإقطاعيين و اللصوص الذين ينبهون الموارد العامة باسم الشريعة الثورية من على كراسيهم.
الإقطاعي من يقتطع لنفسه جزءاً من الكل دون وجه حق.
لذا، نرى أن من أصابهم اتهامٌ تاريخيّ بأنهم إقطاعيون لم يكونوا كذلك، بل كانوا من أكثر المواطنين إخلاصاً للوطن بإنتاجهم و مشاركتهم بالحياة السياسية و الاجتماعية، مع بعض الإستثناءات التي يقوم بها جشعون كانوا يستغلون غياب سلطة الدولة و رقابتها في بعض المناطق ليستولوا على ملكية بعض الأراضي العامة، في حين نرى الآن أن الإقطاعيين الحقيقيين يتكاثرون في كل مكان في الدولة و المجتمع… من يتعين مديراً لمؤسسة سيعتبرها إقطاعيته الخالصة و يسمي نفسه الحاكم بأمره فيها، يعين من شاء من حاشيته و أقاربه، يعصر موارد مؤسسته في جيوبه و جيوب اقاربه و بطانته ليكون بذلك إقطاعياً حقيقياً… من “يتعين” نائباً في البرلمان سيركض لمكاتب الوزراء وراء تراخيص و استثناءات عن القوانين و منفعة شخصية له و لأقاربه ليكون بذلك إقطاعياً حقيقياً… من يدير بلدية سيقلبها إقطاعية له..
من يدير ناحية سيقلبها إقطاعيه له..
من يدير سجناً سيحوله لإقطاعية..
من يقود قطعة عسكرية سيقلبها مزرعة شخصية له….
و تطول القائمة.
هنا، يود الكثيرون التساؤل: من هم الإقطاعيون الحقيقيون؟ أهم الذين سلّموا الحكومة الدولار بخمسة ليرات ليصير بأكثر من خمسين على يد الحاكمين باسم الطبقة الشعبية؟ أهم اللذين كان إنتاجهم يفيض على المواطن ليكون دخله قادراُ على شراء سبع ليرات ذهبية براتبه الشهري، و الآن لا يستطيع شراء ليرة واحدة بفعل بركات النظام الشعبي “بالإسم”؟! أهم اللذين شغّلوا كل الطاقات البشرية في الوطن لتدور دورة اقتصادية-اجتماعية صحيحة و سليمة، في حين تزداد معدلات البطالة و الفقر و الجريمة على يد “الثورجيين”؟!
إذا كان قلق البعض من المبلغ الذي استحق على الدولة نتيجة هذه الممارسة كبيراً، فهذا القلق يجب ألاّ يكون مفرطاً لأن هذه الأموال حق مسلوب، و عند كلمة “حق” يجب أن يقف الجميع بصمت.
و إذا كان المبلغ كبير، فهو ليس من حق الدولة لأنها استملكت مالم يكن لها و استعملته أكثر من 40 سنة، أفلا يكون قد تضاعفت قيمته و استفادت منها الدولة على حساب المالك الأصلي بغير وجه حق؟ ألا تكفي فوائد استعمال الأرض و الانتفاع منها؟
نفسها تشريعات الإصلاح الزراعي منذ 1958 و ما تلاها تنص على تعويض المالكين حقهم بعد انقضاء أربعين عاماً من تاريخ المصادرة.
و للآن، ترفض الحكومة تنفيذ أحكام قطعية صادرة عن محكمة النقض بتعويض قيم الأراضي “بدون ملحقات” مع بدل الانتفاع! أي أن الحكومة لا تحترم قرارات القضاء! كيف يمكن للمواطن أن ينظر لحكومة لا تحترم القانون و القضاء؟؟
ليس من العقل تشجيع الدولة على تجاهل هذا الحق لأن الدولة التي تستولي على أملاك مواطنيها و تتجاهل الاستيلاء، بل و تغطيه بتشريعات “كنغرية”، يجب ألاّ تلقى مؤازرة فهذا سيبقي باب الفوضى مفتوحاً على مصراعيه يصدّر كل الممارسات الشاذة اجتماعياً و اقتصادياً للشعب كما تطالعنا بين فينة و أخرى الحكومات المتعاقبة منذ الستينات برفع أسعار المواد و ابتداع الضرائب و التضييق على الحرية الاقتصادية و خنق المواطن و عبثية السياسات التي أنتجت 209 منطقة سكن عشوائي و أحزمة فقر تحيط بالمدن، و جفاف بردى و الساجور و الخابور، و انهدام سد زيزون، و عدم انتهاء مشاريع الاستصلاح الزراعي المستمرة منذ 30 عاماً و تستنزف المليارات رغم رادءة التنفيذ و تجاوز الخطة الزمنية بعشرين عاماً!
من منكم لا يترحم على “أيام زمان” ……..؟؟
كلنا شركاء