سليمان يوسف يوسف
بعد أكثر من خمس سنوات مضت على خطاب القسم للرئيس (بشار الأسد)، الذي وعد فيه باطلاق مسيرة الإصلاح والتحديث والتطوير في سوريا، وضعت (الشعبة الحزبية)، وهي لجنة من مجلس الشعب، قبل اسابيع، مسودة (قانون الأحزاب) هو أشبه بـ(قانون طوارئ)جديد.
إذ تبدو الغاية الأساسية منه:اجهاض حالة المخاض والحراك السياسي والديمقراطي التي يشهدها المجتمع السوري بالرغم من تشديد القبضة الأمنية من جهة، وتقييد نشاط الأحزاب التي يمكن أن يرخص لها بموجب هذا القانون ووضعها تحت (الإقامة الجبرية) من جهة ثانية و اجتثاث بقية الأحزاب، العربية والآشورية والكردية، تلك المنضوية في (اعلان دمشق) للتغير الديمقراطي، وهو أكبر تجمع للمعارضة السورية من جهة ثالثة.
بالطبع لم يفاجأ أحداً في سوريا بمسودة القانون، فمن غير المتوقع أن يضع حزب (البعث) قانون ديمقراطي للأحزاب مخالف لطبيعة النظام السياسي القائم ويقلص من صلاحياته ويحدد من امتيازاته كحزب حاكم، وربما يفقده السلطة بعد حين.
لكن مع ذلك أثارت مسودة القانون جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والثقافية السورية، خاصة لدى قوى ( اعلان دمشق) نظراً لما سيتركه هذا القانون من تأثيرات سلبية وربما خطيرة – إذا ما أقر بالصيغة التي ظهر بها- على الحياة السياسية السورية التي تسير حتى الآن من غير قانون أو ضابط تخضع له سوى توجيهات وقرارات (النظام الأمني) المهيمن على الدولة والمجتمع.
فقد استند القانون المقترح بشكل اساسي الى (الدستور السوري) الذي وضعه حزب البعث، والذي يكرس فيه نفسه حاكماً أبدياً لسوريا وقائداً أوحد للدولة والمجتمع.
ويلزم القانون جميع الأحزاب بالحفاظ على مبادئ ثورة البعث (انقلاب الثامن من آذار عام 1963)، وأن لا تتعارض أهدافها مع أهداف الثورة، كما يمنع على الأحزاب أن تدعي وجود أقليات على الأرض السورية، ويحول دون تأسيس أحزاب دينية أو عرقية أو مذهبية.
ويشترط على العضو المؤسس ( ألا يكون قد سلك سلوكاً معادياً للثورة)، كما تضمنت مسودة القانون الكثير من الشروط التعجيزية أمام تشكيل الأحزاب في سوريا، بالإضافة الى العديد من التعابير الفضفاضة والغير محددة بحيث يمكن تأويلها وتفسير أي نشاط أو موقف لحزب ما لا ترضى عليه السلطة بأنه معادي لأهداف الثورة وللعروبة ويمس بالأمن القومي للبلاد، وبالتالي تأخذ منها ذريعة لحل الحزب ومعاقبة مسئوليه بالغرامة المالية والحبس لسنوات.
يبدو وبوضوح شديد، أن مشروع القانون المقترح ولد وهو مقيد بأوهام الأيديولوجية القومية المهزومة لحزب البعث وأسير (عقدة احتكار السلطة)، ويقوم على رفض أهم قواعد الديمقراطية وشروطها المتمثلة بمبدأ (تداول السلطة).
وبالتالي عكست مسودة القانون قصور (الفكر السياسي والوطني) والعقل الشمولي لحزب البعث الحاكم، هذا الفكر الذي لا يرى مستقبل لوحدة وطنية سورية إلا من خلال دولة استبدادية يقودها البعث، وتهيمن عليها القومية العربية والغاء القوميات الأخرى من آشوريين(سريان/كلدان) وأكراد وأرمن وتركمان وشركس وغيرهم، وفي هذا السياق لا تبدو (الوحدة الوطنية) التي تتغنى بها المسودة أكثر من ((حق يراد به باطل)).
لنرى كيف تبدو هذه الوحدة، بعد أكثر من أربعة عقود من الحكم المطلق لحزب البعث وتطبيق قانون الطوارئ وتغيب دور الأحزاب ونهج التعريب والاستبداد؟، أعتقد بانها ليست أفضل حالاً عما كانت عليه قبل استلام البعث للسلطة.
فبسبب السياسات القومية والدينية والأمنية الغير متوازنة لحزب البعث ونظامه السياسي، برزت وتنامت بقوة الاصطفافات والانتماءات الإثنية والطائفية والمذهبية، على حساب (الانتماءات الوطنية)، كما أحدثت خللاً(شرخاً) كبيراً في العلاقة بين مختلف مكونات المجتمع السوري.
مما يؤكد استحالة تعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق اندماج مجتمعي ووطني سليم عبر وسائل وآليات القسر والإقصاء والقمع والاستبداد، والحالة العراقية خير نموذج أمامنا.
كما لا يمكن أن تحل مسألة الأقليات الدينية والقومية بالتنكر لوجودها أو القفز فوقها، وإنما فقط من خلال علمنة المجتمع والدولة، والاعتراف بالأقليات وبحقوقها الديمقراطية والمدنية وبنقل سورية من (دولة تسلطية) الى (دولة وطنية) ديمقراطية دستورية.
بالرغم من إدراكنا العميق بأن الأساس في الأحزاب ليس هويتها القومية أو الدينية أو الثقافية وإنما إيمان هذه الأحزاب بالديمقراطية والتزامها بمبدأ تداول السلطة عبر صناديق الانتخاب الحر واحترامها لحقوق الإنسان وحقوق المرأة واحترم حرية العقائد.
لكن من حيث المبدأ، ومن أجل تحقيق أفضل (العلاقات الوطنية) بين ابناء المجتمع الواحد، لا جدال على أهمية اعادة تأسيس جميع ال أحزاب والجمعيات والمؤسسات السياسية والثقافية والاجتماعية على أ ساس (هوية وطنية سورية) واحدة جامعة-كما كانت في بداية عهد الاستقلال و قبل الوحدة المشئومة مع مصر- و على مبادئ و مفاهيم عصرية حديثة وأن يتخلى الجميع في سوريا، بمن فيهم حزب (البعث)وبقية الأحزاب العربية، عن مشاريعهم وأحلامهم القومية لصالح مشروع بناء (الوطن السوري) كوطن نهائي لجميع السوريين دون تمييز أو تفضيل.
فإذا كان القوميون العرب لا ينظرون للعروبة على أنها حالة عرقية أو أثنية، أعتقد بأن حال الآشورية(السريانية) والكردية، لا تختلفان كثيراً عن حال العروبة، فهما أيضاً قوميات ثقافية تشكلت في فضاءات فكرية واجتماعية وفي سياقات تاريخية وحضارية معينة، ولهذه القوميات، كما للعروبة، استطالات وامتدادات بشرية وثقافية في دول الجوار.
لهذا يستبعد أن يلتزم الأكراد والآشوريون وبقية أحزاب قوى المعارضة السورية بهذا القانون الجائر الذي يتعارض في الكثير من مواده مع (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) ويتنافى مع أبسط مبادئ وقواعد الديمقراطية والحريات، وإنما ستبقى تعمل، كل القوى والأطراف المقهورة، من أجل (قانون أحزاب) ديمقراطي عادل ومن أجل دستور جديد للبلاد يعيد للمجتمع السوري توازنه السياسي والاجتماعي والثقافي، دستور يؤسس لمرحلة سياسية واقتصادية وإعلامية وفكرية جديدة في سوريا وينهض بها من أزماتها المستفحلة، في مقدمته مشكلة البطالة والتنمية وظاهرة الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة والمجتمع.