بيادق على لعبة الشطرنج

  هيمن منداني

من المتعارف عليه أن كل تغيير ٍ في مجتمعٍ ما تليه مرحلة انتقالية يرتبط طولها طردياً مع درجة مرونة ذلك المجتمع في تقبله لذاك التغيير أي ذاك المستحدث فكراً كان أم معتقداً أم نظام حكم …..

و تلك بدورها ترتبط بالسوية الثقافية بعموم أنواعها لمنبتها المجتمعي , إلا أن الإمعان في  الواقع العراقي  الجديد و استقراءه بما فيه من عنفٍ تجاوز الحدود و استهجن القيم ,و فرزٍ طائفي و مذهبي و أثني , خطوط فصله باتت أنهار دمٍ , يوحي إلى شذوذٍ لهذا الواقع عن قواعد التغيير في كل المجتمعات
صحيح أن الجديد جاء على أنقاض نظام دكتاتوري دموي متخلف , لم يمارس القهر و البطش بحق شعوب العراق فحسب , بل أمعن في تمزيقه على أسس طائفية و مذهبية و قوموية و عشائرية بل حتى عائلية في بيئة اجتماعية سمتها الفقر و الأمية بأمراضهما الثقافية و الاجتماعية الغنية عن التعريف , ألقت بظلالها سلباً  بكل تأكيد على الحراك السياسي في عراق ما بعد صدام , في تفاعل غلياني أصبحت أبخرته و أدخنته غطاءً لحركة حيتان هائجة إلى خفايا العملية السياسة العراقية , حراكٌ باطنه ذهنية الانتقام و الإقصاء , بأجندة ذاتية غارقة في الفئوية حتى الثمالة , و موضوعية تابعية فاسدة حتى النخاع , و ظاهره الشراكة التوافقية في العراق الاتحادي الديمقراطي , ضمن عملية سياسية ألزمتهم بها القوى المتعددة الجنسيات التي أسقطت النظام البائد و حررت شعوب العراق من ويلاته , إنه حراك سمته بحق الباطنية السياسية التي استمدت وجودها من ظاهرة التقية الدينية , إذ كان العراق منبتها منذ الخوارج , و حالياً تستعاد بآليات جديدة و أدمغة مدجنة .
إن الديمقراطية التوافقية كمرحلة انتقالية في مثل حالة العراق , واقعٌ لابد منه , في مسارٍ صحي , غايته بناء العراق و ديدنه تماهي قوالب الانتماءات الأثنية و المذهبية و ….

في وعاء العراق الوطن , حيث سيادة مبدأ المواطنة الذي لن يرى النور قبل إنصاف الجميع و رد المظالم في شراكة حقيقية بأسسها و قيمها .
و لكن ما يجري في العراق و يسعى إليه بعض الأفرقاء السياسيون فيه يخالف القواعد و الأسس الواجبة الالتزام بها لبناء العراق الديمقراطي الاتحادي المزدهر , فهي لم تعد تعكس تبعات و إسقاطات السياسات الشوفينية للنظام البائد فحسب بل أن غالبيتها تعمق جراحات هذا الفرز و الغبن و تزيده تقيحاً , كونها في مجملها تلبية لأجندة إقليمية لاقت مرتعاً و تقبلاً من لدن بعض القوى الفاعلة في العملية السياسية في العراق و التي ذهنياتها تجاوزت  ذهنيات الأنظمة البائدة تخلفاً و شوفينيةً , و المضحك المبكي  أن يتباكى البعض من هذا الجوار على استقرار العراق و وحدة أراضيه و هي تجهد سراً و علناً على ألا ينعم هذا البلد و شعوبه بالأمن و الاستقرار سالكةً في هذا كل السبل , و ممارسةً كل أشكال التدخل السافر في شؤونه عبر أدواتها العراقية التي تدين لها بالولاء التام , و تلتزم بوصاياها التي تجاوزت أضعاف العشرة , و لغايات غير نبيلة في مقدمتها , جهود أنظمتها الممانعة للمد الديمقراطي في المنطقة , و المخاوف الجائرة لبعضها من المكسب الكردي في إقليم كردستان , و انعكاساته على داخلها المثقل بالمظالم , و هي تضطهد الشعب الكردي فيما ألحقت بها من كردستان ظلماً و عدواناً , و هذا يتجلى بكل وضوح في قضية كركوك و تطبيق المادة /140/ من دستور دولة العراق , المستفتى عليه من قبل الشعب العراقي بغالبيته العظمى , و التي تناوب الساسة العراقيون الجدد بوضع العصي في عجلة سيرها , و المماطلة بل الممانعة في تنفيذها لتاريخه , بحيث ما إن تحن فرصة يعرض فيها تطبيق هذه المادة للتحريك و التفعيل , سرعان ما تنبلج أعصاب حيتان الجوار لتضييق الخناق على إقليم كردستان , بقصف قراه , و التدخل العسكري في أراضيه و إغلاق الحدود و بالتالي منع حركة التجارة منه و إليه , متذرعةً بأوهى الحجج , و مستثمرةٌ أصغر الفرص و أضيق الثغرات على الصعيدين الداخلي العراقي والخارجي الدولي, لتضع هذه الدول خلافاتها التاريخية و الإستراتيجية جانباً , فتتعانق و تتكالب على الشأن الكردي و قضيته العادلة باتفاقيات أمنية – و هي على عداءٍ مع بعضها البعض – و اسنادات لوجستية و مساهماتية  في تدخلاتها العسكرية في إقليم كردستان , و ما يحدث في الجوار تتممه الكتل السياسية العراقية المرتبطة بهذا الجوار بتابعية أُبوانية بحيث أن هذه الجماعات التي تجهز على بعضها ليلاً من خلال السيارات المفخخة و فرق الموت , تجتمع في النهار تحت سقفٍ واحدٍ و بموقفٍ متفقٍ في وجه الحق الكردي و قضاياه العادلة .


إن أي تتبعٍ لسير العملية السياسية في العراق , يؤكد و دون بذل المزيد من الجهد الفكري بأن هذا البلد لم يصبح ساحة تصفية حسابات بين قوى عديدة فحسب , بل أصبحت ورقة مثمرة لدى معظم دول جواره , تبرزها في معادلات إقليمية و دولية , فتمرر من خلالها صفقاتها و مشاريعها الخاصة بأنظمتها , وذلك على حساب الدم العراقي , الذي لم يسترخصه فقط قوى خارجية , بل تساهم فيه كتل سياسية عراقية باختلاف أحجامها , من خلال تابعيتها الأبوانية لتلك الأنظمة , بحيث لم يعد من العراق قوى سياسية متحررة من تلك التبعية و الولاءات باستثناء الأطراف الكردستانية , و قوى عراقية ديمقراطية محاصرة , و مستهدفة داخلياً و إقليمياً بذهنية اقصائية تصفوية من خلال استثمارهما للحالة المذهبية و العشائرية السائدة في المجتمع العراقي , و التي لا تمت لروح العصر , و لا تخدم استقرار العراق و ازدهاره .
ما يؤسف له أن الجامع بين تلك الكتل من الداخل العراقي صغيرها و كبيرها مع نظم الجوار لا تمت إلى قواعد اللعب السياسية المتعارف عليها في العلاقات الدولية , فهي ليست بتقاطع مصالح , إن كانت هذه الكتل تلتزم بعراقيتها , حيث ليس من مصلحة العراق أرضاً و شعباً أن يكون شركة استثمارية لأطراف خارجية -,نظماً جائرة و تنظيمات إرهابية – و من المفروض ألا تكون تلاقي مناهج و تقاطع مبادئ أيضاً لأن شعوب العراق التي أذاقت الأمرين من أنظمته البائدة , من غير المعقول و المنطق أن تكون شريكاً مساهماً في سياسات تلك الأنظمة التي كلها لا تمثل إرادة شعوبها , بل كلٌ منها تسحق بين أنيابها شعوباً , و منهم العرب و الكرد و التركمان و الكلدو-اشور , أي كل مكونات الطيف العراقي  إلا إذا ارتضت هذه الجماعات و الكتل لنفسها – وهذا ما لا نتمناه لشركاء الوطن – أن تترضع مناهج هؤلاء الأسياد فتتحول من الضحية إلى الجاني , و تلك هي الطامة الكبرى , التي تدخل العراق في دوامة عنفٍ لن ينته إلا بذوبان تلك الذهنيات في أنهار الدم التي سالت , و ما زالت تنزف على أرض العراق .

إن الذي يربط هذه القوى مع أنظمة الجوار – بالتحلي بمزيدٍ من الشفافية – ليست إلا خيوط عرقية و مذهبية لم تعرها تلك النظم أي اهتمام , في علاقاتها مع الأنظمة العراقية البائدة , فلم تضحي تركيا بعلاقاتها مع نظم العراق سابقاً بسبب مظالم التركمان فيه ,كما لم تكن الحرب العراقية – الإيرانية التي دامت ثماني سنوات لرفع الغبن عن الشيعة في العراق , بل كانت لتثبيت حدود اتفاقية آذار /1975/ المشؤومة , و التي فيها تنازلٌ لسيادة العراق عن بعض أراضيه و مياهه الإقليمية , و هل يرضى أي عراقي يعمل من أجل العراق , بهذا الإجحاف بحق عراقه …؟ بأي منطقٍ يخول قادة كتل سياسية  عراقية أنفسهم حماةً بل بيادق لأطماع نظم غير ديمقراطية مضحيةً بالدم العراقي و أمنه و استقراره , و هي تتباهى – ظاهراً – أنها تبني العراق الديمقراطي الاتحادي , ألا تدرك هذه القوى و أسيادها أن من ذاق طعم الحرية و انتزع الكثير من حقه , سيضحي بالغالي و النفيس للحفاظ على تلك الحرية , و انتزاع ما تبقى من حقه ؟ ألم تتعظ تلك الجماعات و سادتها من تجربة العراق التي كانت درساً لكل من تسول له نفسه على البغي و الشر, و أن المستقبل بكل تأكيد هي للشعوب و تعايشها و سلمها الأهلي ,و ليس لقوى البغي و الإقصاء , و نحن على يقين بأنهم يعرفون ذلك حق المعرفة و كلنا أمل أن يعودوا إلى رشدهم, لأن في ذلك صالح الجميع و قبل أن يسبق السيف العزل , و يضيع الصيف اللبن.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

النقل عن الفرنسية إبراهيم محمود باريس – أكد البروفيسور حميد بوزأرسلان على ضرورة تحقيق الكُرد للاندماج الداخلي، وشدد على أن المسألة الكردية، بسبب الاستعمار فوق الوطني لكردستان، لا تقتصر على دولة واحدة بل هي شأن إقليمي. وتحدثت وكالة الأنباء ANF عن المسألة الكردية مع حميد بوزأرسلان، مؤرخ وعالم سياسي متخصص في الشرق الأوسط وتركيا والمسألة الكردية، يقوم بالتدريس في كلية…

درويش محما* خلال الاعوام الستة الماضية، لم اتابع فيها نشرة اخبار واحدة، وقاطعت كل منتج سياسي الموالي منه والمعادي، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم اتواصل معها ولا من خلالها، والكتابة لم اعد اكتب واصبحت جزءا من الماضي، كنت طريح الخيبة والكآبة، محبطا يائسا وفاقدا للامل، ولم أتصور للحظة واحدة خلال كل هذه الأعوام ان يسقط الاسد ويهزم. صباح يوم…

إبراهيم اليوسف من الخطة إلى الخيبة لا تزال ذاكرة الطفولة تحمل أصداء تلك العبارات الساخرة التي كان يطلقها بعض رجال القرية التي ولدت فيها، “تل أفندي”، عندما سمعت لأول مرة، في مجالسهم الحميمة، عن “الخطة الخمسية”. كنت حينها ابن العاشرة أو الحادية عشرة، وكانوا يتهكمون قائلين: “عيش يا كديش!”، في إشارة إلى عبثية الوعود الحكومية. بعد سنوات قليلة،…

سمير عطا الله ظهر عميد الكوميديا السورية دريد لحام في رسالة يعتذر فيها بإباء عن مسايرته للحكم السابق. كذلك فعل فنانون آخرون. وسارع عدد من النقاد إلى السخرية من «تكويع» الفنانين والنيل من كراماتهم. وفي ذلك ظلم كبير. ساعة نعرض برنامج عن صيدنايا وفرع فلسطين، وساعة نتهم الفنانين والكتّاب بالجبن و«التكويع»، أي التنكّر للماضي. فنانو سوريا مثل فناني الاتحاد السوفياتي،…