والعجيب إن هذه النماذج استطاعت تسلق أحزاب الزينة والموجة بعد سقوط النظام والتي تمت صناعتها من قبل بقايا البعث او باوامر من دول الجوار وما بعد الجوار، او بإيعاز من قيادات حزب البعث ومؤسساته المنتشرة في دمشق وعمان ودبي وصنعاء وانقرة وغيرها لادارة مليارات الدولارات من اموال العراق وكنوزه التي سرقوها مع هروبهم المشين اثناء الحرب وبعد سقوط النظام، هذه الاموال التي توظف في دعم عمليات التخريب والتقتيل والارهاب وارسال المرتزقة من المتطوعين العرب (للجهاد !!) في العراق على انقاض الاف الضحايا من الاطفال والنساء والشيوخ، أو بتكليف من مخابرات دول الجوار دونما استثناء لإدامة تلك الثقافة المتهرئة والإبقاء على (مكاسب الحزب والثورة) التي أنجزتها ثورة الحروب في كوردستان والجنوب، وإحراق ما يقارب من ألف مليار دولار من ثروات العراق خلال أربعين عاما؟
بل وقد تسلق الكثير منهم مواقع في مجلس النواب والحكومة وكثير من مفاصل الدولة الحديثة المزمع إقامتها على أنقاض ذلك النموذج السيئ والمخزي الذي انهار في نيسان 2003م.
فذاك الذي قتل والده الجندي أو العريف أو الضابط او الرفيق البعثي في حروب النظام ضد كوردستان منذ مطلع الستينات وما زال يحمل تلك العقد والأحقاد على الكورد، فاستحوذ أيام البعث على أملاكهم في خانقين او مخمور أو سنجار أو الشيخان أو كركوك أو غيرها، لتعويض تلك المركبات من الانتقام والسادية التي اشاعها البعث طيلة حكمه.
وآخر يبتدع له قومية جديدة من عدة أسر في عملية من عمليات البعث ، وهو الذي كان يستنكف الانتماء الى أهله ويدعي انتمائه لغيرهم، متلونا كالحرباء بين حزب واخر ليستقر في مجلس النواب ويقع في شباك تلك الثقافة المستهلكة والمتهرئة تارة تحت لافتة المذهبية المقيتة وأخرى تحت تصنيع قوميات جديدة كما كان يفعل الحزب القائد في تصنيع الأحزاب والحركات الوطنية جدا جدا؟
وآخرين ممن يريدون تحويل الأديان الى قوميات في أحدث ما أنتجته الحركات الدينية المتطرفة وغيرها من الظلاميين واعادة تصنيع ماضي البعث في قرارات ما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة باعتبار الكورد الايزيديين عربا ودينهم فرقة اسلامية(!)، في ردة فعل متخلفة وساذجة، ترتبط بأجندات دولية ومشاريع شوفينية وعنصرية لا تمت لهذا العصر وتوجهاته بأي صلة، فتراهم تارة يدعون الى قومية إسلامية وآخرون الى قومية مسيحية وأخيرا قومية إيزيدية، وربما آخرون سيعيدون إنتاج قوميات تلك الإمبراطوريات التي حكمت قبل آلاف السنين فسادت ثم بادت.
وذاك الذي منح اجداده مدينة الموصل واقضيتها الى دولة تركيا في مطلع القرن الماضي حينما طلبوا من الاهالي الادلاء بأصواتهم فتبارى اهله وذويه الى منح اصواتهم الى تركيا، ولولا اصوات الناخبين الكورد كما قال خيري الدين العمري شاهدا تاريخيا، لكان الان واليا على ولاية الموصل التركية بدلا من كونه نائبا في مجلس النواب العراقي عن الموصل(!).
وقد أكدت الأيام والسنوات المنصرمة منذ سقوط النظام وحتى هذا اليوم المماطلة والتسويف الناتجين عن نفس الثقافة البائسة التي كان يحملها النظام السابق في نظرته الى قضية شعبنا العراقي بشكل عام وشعب كوردستان بشكل خاص والتي أدت الى انهيار كامل للدولة العراقية وللأمن الاجتماعي ونسيج المجتمعات العراقية.
فمنذ المادة 58 من قانون إدارة الدولة ظهرت بوادر المماطلة والتسويف والالتفاف على روح المادة وقضية المناطق المحررة من الإقليم بعد انهيار نظام البعث ودولة العرق الواحد والحزب الواحد وليس هناك أدنى شك في الدورالأمريكي والبريطاني ودول الجوار ذات العلاقة بتأخير تطبيق هذه المادة أو لاحقا المادة 140 من الدستور الدائم.
لقد أكدت الأحداث التي رافقت سقوط النظام بُعيد ساعات فقط من انهياره المشين، هوية تلك المناطق وانتمائها الأصيل جغرافيا وتاريخيا الى إقليم كوردستان العراقي حيث هرب المستوطنون والمستحوذين على أملاك الكورد من أراض وعقارات وبيوت ومزارع سواء ما كان منها على شكل قرى استيطانية أو في مراكز المدن كما في الموصل وكركوك وسنجار وخانقين ومخمور والشيخان وغيرها، حيث هرب أولئك الذين استحوذوا على آمال وأفراح وأملاك أصحابها الحقيقيين وسلم الباقي مفاتيح بيوت ساكنيها المرحلين دون قيد أو شرط، وكادت الأمور أن تنهي تعقيدات أكثر من ثلاثين عاما لولا تدخل بعض الأطراف من قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني ومخابرات بعض دول الجوار ممن لديهم مصلحة في إدامة التعقيدات والإبقاء على أوضاع هذه المناطق معلقة لتبقى حافات النار قريبة دائما(!).
واليوم اذ تستمر دوامة تلك الثقافة البائسة من خلال هذه المجاميع التي استطاعت النفوذ الى مفاصل الدولة العراقية الجديدة تحت مختلف التسميات او من خلال الكتل البرلمانية وتنظيماتها تحت يافطة التنافس المذهبي او المناطقي ومن ثم اشاعة الكراهية والاحقاد من خلال حملاتها الاعلامية المشينة ضد العراق الجديد والكورد خاصة، وما حدث في الثاني والعشرين من تموز 2008 م تحت قبة البرلمان العراقي يؤكد استمرار نهج البعث والشوفينية والعنصرية في التعامل مع ضحايا ذلك النظام البائس ومن خلال مؤسسات العراق الجديد.
إن الكورد اليوم اكثر اصرارا وتصميما على تطبيق الدستور والالتزام به مرجعا وفاصلا بين ثقافتين وخطابين وسلوكين:
الاول يمثل اكثر من ثمانين بالمائة من الشعب العراقي في انزه انتخابات تجري في تاريخه وتاريخ المنطقة ويعبر عن اسمى القيم الانسانية واكثرها رقيا ونبلا ويشيع من خلال مبادئه وفقراته ومواده اكثر الحقوق الانسانية دقة وحرية وحفاظا للكرامة الانسانية وحقها في العيش بصرف النظر عن العرق او اللون او الدين او المذهب، ويعتمد قيم الاخوة والعدالة والمساواة ودولة القانون والمؤسسات، بدلا من الحزب الاوحد والعرق الواحد والمذهب الواحد والرئيس الضرورة مدى الحياة.
والثاني يمثل ابشع مراحل الانحدار الحضاري والاخلاقي والسياسي في تاريخ العراق والمنطقة والعالم ومعبرا عن اكثر السلوكيات عنصرية وشوفينية بتوحش وهمجية لا مثيل لها حتى في القرون الوسطى وامتدادا لاخلاقيات متدنية في السلوك واشاعة الكراهية والاحقاد والعبث بمفاتيح الغرائز.
الاول الذي يريد أن يبني العراق على اسس متحضرة ويقيم نظاما سياسيا راقيا يعيد للانسان العراقي كرامته وللعراق وجهه المشرق، والثاني الذي يعمل لاعادة عجلة الزمن الى الوراء ليقتل ويسلب ويغتصب ويهجر مستخدما ابشع الاساليب العنصرية والطائفية في اباحة قتل الكورد والشيعة والديمقراطيون الوطنيون، وهو امتداد لثقافة المقابر الجماعية والانفالات وحلبجة ومدرسة التآمر والتحايل والتسلق والتلون على مدى تاريخ العراق منذ الغدر بالحسين وقبله التخلي عن الامام علي بن ابي طالب وحتى تآمرهم وخيانتهم للبارزاني الخالد بعد اتفاقية السلام عام 1970 م وقبلها انقلابهم المشين على الزعيم عبدالكريم قاسم.
انه يمثل اي الدستور الدائم نتاج نضال دؤوب للعراقيين عبر عشرات السنين وملايين الضحايا التي ابتلعتهم الحروب والسجون وصحراوات الوسط والجنوب واحتضنتهم المقابر الجماعية في كل ارض البلاد من الكورد والشيعة وغيرهم ممن كانوا لا يصطفون مع اولئك الجبابرة الطغاة.
لقد اصبح اليوم هذا الدستور القاسم المشترك لكل القيم الخلاقة والعليا وهو الفاصل بين الخير والشر والخطيئة والفضيلة ولذلك فان الكورد يعتبرونه اساس الانتماء الى بلد متحضر ودولة متقدمة.
بينما يعتبره الاخرون مرحلة طارئة وسيتم من خلال التعديلات نسف الدستور ومكتسباته؟
الغريب انهم متفرقون لكنهم يجتمعون ضد اهداف الكورد وحقوقهم في عراق ديمقراطي اتحادي تعددي وما حصل ويحصل من مواقف وتحضيرات لمراحل جديدة في الصراع، ما هو الا محاولات للوصول الى سدة الحكم مرة اخرى تحت غطاء الاكثرية وباستخدام سلم الديمقراطية هذه المرة بدلا من القطار الامريكي او الانقلابات العسكرية البيضاء والملونة؟
إن المساس بالدستور وروحيته ومعانيه السامية وثوابته في الديمقراطية والتعددية والفيدرالية وما حققه الشعب العراقي من خلاله من مكاسب في الحرية والعدل والمساواة يعتبر مسا بكيان الدولة العراقية وتنصلا عن المصالح العليا للبلاد ونية سيئة ومبيتة لاعادة الماضي وتصنيعه من خلال اولئك الذين نفذوا وتطفلوا على مؤسسات الدولة الجديدة باساليبهم المعروفة تاريخيا كما وصفها ذات يوم من سبعينات القرن الماضي السيد علي صالح السعدي في وصفه لوصول البعث الى السلطة على قطار امريكي؟