خطان متوازيان في الفكر القومي العربي تجاه القضية الكردية (ح2)

عبد الرحمن آلوجي

في تناولنا لخطوط الفكر القومي العربي , بعد استعراض التراكمات و العوامل التي أدت إلى بلورة ووضوح الخطين المتوازيين ..


خط يعتمد رؤية موضوعية منهجية قائمة على حقائق الحياة و العلم و التاريخ , و العلاقات الكفاحية و التراثية المشتركة بين العرب و الكرد و الشعوب المتجاورة و المتآخية , و ما لهذا الخط من عمق و أصالة و رؤية عادلة و متوازنة , معززة بفئة واسعة من الباحثين و المفكرين و الأكاديميين و قطاع شعبي عريض بات يتشكل من تطور آفاق القضية الكردية و بعدها التاريخي و عمقها التراثي , وصلتها بحقوق الإنسان , و القيم الإنسانية و الأخلاقية التي شكلت الرافد الأساسي لمجمل قضايا الشعوب , ووصول هذه القضايا إلى  المحافل الدولية , و المنابر العامة , و حقول البحث و الدراسة تأسيسا
و إضافة إلى مجمل التراث الحقوقي و الدستوري العام , حيث يتجلى كل ذلك في هذا الخط الذي ركّزنا عليه و ثبّتنا قواعده و رؤيتنا له في الحلقتين المتقدمتين  و خط آخر يعتمد – كما أسلفنا – منطق رد الفعل , و النزعة الغرائزية , وحب التسلط , و رفض الآخرين , انطلاقا من أرضية هشة , و ثارات و احتقانات تعتمد منطق الكراهية و الاستعلاء و سوء التصور و التصرف, و محاولة زرع الألغام في طريق فهم منهج عقلاني واع و مدروس , اعتقادا و تصورا يتجليان في مثل هذه الردات و المواقف الانفعالية و الرؤى الضبابية البعيدة عن الوضوح, وغير المتماسكة و التي تدعي في ثقة مطلقة أنها تدافع عن الأمة العربية و ثقافتها و تاريخها غوائل الاعتداء و التآمر و الخيانة و الاتصال بالأعداء بمجرد التوجه القومي للكرد , هذا الاعتقاد الذي يقع في مغالطات و أخطاء و بعد عن منطق العلم و حدود التميز بين الأمم و الشعوب في ثقافاتها و آدابها و لغاتها , دون أن يعني ذلك تنابذا و تخاصما و مكيدة و مكرا , لأن في مثل هذا التنوع الأثني و الفكري و المذهبي بين الملل و النحل و الاتجاهات و الشعوب و القبائل إثراء للثقافة الإنسانية , و تنوعا إيجابيا , و إضافة مثمرة في التراث الإنساني , الذي يخصب الفكر و يعمق تناول الحياة و جوانبها , مما يعد زادا ثريا , و أساسا عميقا لفكر إنساني مقارن, و ثقافة تتكامل و تتعاون و تتحاور لبناء قاعدة إنسانية جامعة لهذا الفكر, و رافدا عظيما يمكن أن يغني التراث و يضيف إليه نمطا معاصرا من الفكر الجامع و المرتقي, حيث يسمو بتطور الإنسان و ارتقاء فهمه للحياة , بعيدا عن كل عوامل العنصرية والإلغاء و أسبابها و مقدماتها و أثرها في سحق تطلعات الآخرين , و محاصرتها لحياتهم الفكرية و العقائدية و تطور قيمها الأخلاقية والتراثية و التي يمكن أن تتداخل و ترتقي و تتكامل …
و قد أردنا بتعميق هذين الخطين و بيان افتراقهما و تباينهما , أن ندل على خطل و انحراف الخط الواهم , و الغارق في الذاتية , و المحكوم بردات الفعل تلك , من خلال المقارنة و الموازنة و تصوير بشاعة الانطلاق الذاتي المتضخم و الموهوم في الفكر القومي الارتكاسي – إن صحّ التعبير – بوضعه أمام تلك التصورات المتطرفة و القائمة على الشطب و الإلغاء و إنكار وجود الآخرين , بدفن الرؤوس في الرمال , أو ستر عين الشمس بالغربال , بالقفز فوق ملايين البشر , و ما لهم من تصورات و قيم و تقاليد و لغات و ثقافات , ظنّا بأن من شأن ذلك أن يطفئ الشعلة المتوهجة للوجود القائم للشعوب و الأقوام و الملل و الأجناس و الأعراق التي تشكل الخارطة الكبرى للتلوينة المجتمعية في هذه المعمورة , و المترسخة في العمق الإنساني لهذا المجتمع المتعدد و المتنوع و الذي يشمل من بين ما يشمل الخارطة الإنسانية في الشرق الأوسط من الكرد و الأمازيغ و الأرمن و الآشوريين و السريان و التركمان و الشراكسة و بقايا الكلدان و الكنعانيين و الآراميين و الفينيقيين و الأقباط …  و آلاف الألوان و الأطياف و المكونات التي تملأ مساحة الجغرافية البشرية الواسعة , و التي تتنوع و تتكامل , و تزداد مع الأيام وضوحا و تألقا مع تقدم الفكر الإنساني , و تطورات مجالات حقوق الإنسان و الانتشار الواسع للمعرفة الإنسانية , و ثقافات الشعوب و طموحها و ألوانها بما يتعاضد و يتداخل و يتكامل مع الثقافة الإنسانية الواسعة و العريضة ..
هذا الإيضاح من شأنه أن يخدم الفكر العربي الإنساني و المشرق و المنهجي و الذي يصبح منتجا , و يثمر علاقات وجدانية , و رؤية جامعة و فكرا يتّسم بالواقعية و قوة الحقائق , بالمقارنة مع هشاشة و انفعالية و سطحية الفكر الاستئصالي القائم على منطق تحدي وجود الآخرين و الشعور بعدائية بالغة و تشنج عاطفي سطحي كقول منذر الموصللي و هو يدرس القضية الكردية في مقال له : ” إن أي كردي سوري يفكر تفكيرا قوميا , ينبغي استئصاله استئصالا … ” هذا الاستئصال يعيد إلى الأذهان مدية الجزّار , و رؤية الجلاد لفريسته , و هو يحمل الساطور لقصله و قصه و تقطيع أوصاله , وهو في الوقت نفسه يرفع من شأن العروبة و كل ما يمت إليها بصلة , و يرى العربي فوق الجميع , و آية من آيات الله , مذكرا بفرض سياسة (تصحيح القومية) أو (تغيير الهوية) كما كان يحدث في كركوك و مناطقها للكرد و الترك , كأن الآية التي منحها الله للإنسان , في اختلاف الألسنة و الألوان , يمكن تغييرها و تبديلها في النظام الصدامي البائد , و في كل فكر عنصري متهافت و ضيق , يرى في الإنسان سلعة تبدل كأي قطعة مادية بأخرى , و هي ظاهرة بدائية متخلفة و بائسة , تلتقي مع رؤية العداء الساخر لكل ما هو مغاير و مختلف , في حين يطمح منذر الموصللي المستعرب إلى أن يكون للعرب من المحيط إلى المحيط  دولة كاملة متكاملة , لها كامل الوجود و التكامل و التفاعل و الحقوق , في حين لا يمكن أن يتصور الكردي – مجرد تصور – أو أن يفكر – مجرد تفكير – بأنه كردي يحق له ما يحق للآخرين من طموح قومي مشروع للحياة , لا يتعارض و وجود الآخرين و ثقافتهم مدركا أن البشر يتفاضلون بما يبدعون و يحققون و ينشرون السلم و الخير , لا بما يتميز به عرقهم أو لونهم , و هو يتفق مع ما تبجّح شاعر قومي متطرف بادعاء كون الرسول و خالقه عربيا وهو ما أدلى به الشاعر اللبناني المستعرب أيضا (نجيب جمال الدين) حيث يقول من قصيدة له :
منّا الرسول و منا الواحد الأحد ..
في تطرف سطحي غريب , يلتقي فيه مع ذلك الشاعر العراقي الشعبي الذي يقول بالتبجّح عينه  :
(عميا الشمس لو ما تشرق من عدنا ..)
فالشمس ينبغي أن ينطفئ عينها إن لم تشرق من أرض العرب , و هو في ذلك يقع في المبالغة الغريبة مع الشاعر الأندلسي الذي وهب أحد الخلفاء صفات الذات الإلهية :
ما شـئـت لا ما شـاءت الأقــدار       فـاحكم فأنـت الواحـد القهّـار
أو الآخر الذي يتصور كل شيء عربيا ليس لسواه وجود , حتى الأرض تتكلم العربية …
و الشاعر البحتري – في طفرة انفعالية زائفة –  , يقع في المبالغة ذاتها , و في التطرف عينه , في زمن سحيق كان الإسلام السمح يؤاخي بين الأمم و الشعوب , و يعلنها مساواة مطلقة بين الناس كأسنان المشط , و ذلك في قوله ( متحدثا عن العنصر العربي )
و كـأن الإله قال لنا في الحـــرب         كونوا حجارة أو حـــديـدا
ملكوا الأرض قبل أن تـلك الأرض       و قـادوا في حافيتها الجنـــودا
إن هذه النزعة التملكية و الاستعلائية سبقت النزعة الهتلرية بأكثر من ألف عام ..

لتؤسس مع النزعات و التصورات اللاحقة و المتواصلة عبر القرون ..

لصورة ” العنتريات ” و الرؤى ” الدونكيشوتية ” المتوالية , و التي جسدت رؤية مهتزة كالتي أعلنها في صياغة برنامجه مؤخرا محمد طلب هلال و أمثاله في الفكر الاستئصالي و القمعي القائم على الإلغاء و البتر و السحق .

إن على الفكر العربي المتوازن الآخر أن يعري هذه الرؤية الهزيلة , و أن يتبرأ من نزعة استعلائية تضير أيّما ضير بالفكر العربي المشرق الإنساني ..

كما يطل من خلاله على أفق مستنير يظهر بشاعة الآفاق  المظلمة و المسدودة , و الرؤية المتشنجة , و المرتكنة إلى ردود أفعال و مواقف و رؤىً ظلامية مضادة و مواجهة للتطرف بمثله , و هي حالة خطيرة ينبغي تداركها , للخروج من حالة الحكر و الإنكار و ضرب الآخرين, و الاستهتار بهم ..

و هو ما يفترض بيانه و إيضاحه و تجريد كل الإمكانات المتاحة لتعرية المواقف و الممارسات و الرؤى النظرية المساندة , بما يعزز الرؤية الحقيقية الناصعة , و الخط الإيجابي المشرق و يسعى إلى بناء قاعدة أكثر مواجهة للحقائق, حقائق الحياة و العلم و التاريخ , و يعيد إلى الأذهان أن أي فكر قومي يستند إلى التفوق و العرقية و العنصرية الاستعلائية , من أية أمة يؤول إلى الشر , و يفضي إلى الصراع و العراك , و يقع في خانة الجهل و التخلف و بلادة الحس , و يرسم المقدمة إلى التطاحن و الحرب , و يدمر كل آمال السلام و المدنية و الاستقرار , و أن الفكر القومي ذا الرحابة الإنسانية , و الرؤية الجامعة , و المنطق العلمي و الأخلاقي يمكن أن يراهن على البقاء و التطور و الارتقاء و السمو بالإنسان و قضاياه العالية ..

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…

بوتان زيباري   في قلب المتغيرات العنيفة التي تعصف بجسد المنطقة، تبرز إيران ككيان يتأرجح بين ذروة النفوذ وحافة الانهيار. فبعد هجمات السابع من أكتوبر، التي مثلت زلزالًا سياسيًا أعاد تشكيل خريطة التحالفات والصراعات، وجدت طهران نفسها في موقف المفترس الذي تحول إلى فريسة. لقد كانت إيران، منذ اندلاع الربيع العربي في 2011، تُحكم قبضتها على خيوط اللعبة الإقليمية،…