البحث عن الحقيقة.. أسئلة برسم الأستاذ محمد ملا أحمد

هوشنك أوسي

إيماناً منه، بحجم المسؤوليَّة الملقاة على عاتقه، لكونه شاهد على حقبة جدّ حساسة وهامَّة من تاريخ شعبنا الكردي السوري، وفي رغبة صادقة لتسليط الضوء على بعض تفاصيل هذه الحقبة، كتب الأستاذ الفاضل محمد ملا أحمد مقالاً تحت عنوان: “في ذكرى 51 لتأسيس البارتي في سوريا.

لا تلوي عنق التاريخ”، مقالاً، ذاكراً فيه معلومات هامَّة، ووجهة نظره حيال راهن الحركة الحزبيَّة الكرديَّة في سورية.

وبعد قراءتي لفحوى المقال، التمس العذر من شجاعته، طارحاً هذه الأسئلة، آملاً منه سعة الصدر، وطول البال.

يقول الأستاذ محمد ملا أحمد: “كثرت الكتابات عن البارتي وأحداثه، القديمة والحديثة، خاصة ونحن نقترب من ذكرى تأسيسه الحادي والخمسين.

وللبعد الزمني، نصف قرن من الزمن، بدأت الأقلام تسرب ما يحلو لها، عن قصد، لتشويه سمعة الحركة، أو جهلاً بالأحداث، تتصورها حقيقة كانت في يوم من الأيام.

فالمعاصرون ( المؤسسون، والقياديون، والمسؤولون، والأعضاء) لتلك الفترة، إما قد رحلوا ( فلهم الرحمة )، أو أحياء مطلعين، يتحاشون الضوضاء، ويطلبون الدعة والهدوء، في هذا الصخب الكبير المنتشر بلا رحمة.

لذا فهؤلاء الكتاب، مع الاحترام، يبدؤون في التحليل والربط ما يشتهون، ويتركون ما لا يرغبون فيه، ويطلقون الأحكام، على أحداث هم بعيدون عن أجوائها زمنياً نصف قرن، منها جائرة، بعيدة عن العدل والإنصاف، وأخرى تحاول أن تكون منصفة”.


يا سيّدي الكريم، ليس بالضرورة أن نعايش حدثاً ما، كي يحقَّ لنا مناقشته أو تحليله أو إطلاق الأحكام عليه.

فلازالت البحوث والدراسات تجرى على فلاسفة الإغريق، أو حول تاريخ روما، أو أحداث فجر الإسلام…الخ.

وعطفاً على رأيك السالف، كان ينبغي ألا يكتب الراحل هادي العلوي “فصول من الإسلام السياسي” أو “شخصيَّات غير قلقة في الإسلام”، لأنه لم يعاصر أحداث بداية الدين الإسلامي!.

والأمثلة في هذا السياق، أكثر من أن تحصى.

والأسئلة التي أودُّ طرحها هنا هي: إذ كان الأحياء، الذين عاصروا تلك المرحلة، ينأون بأنفسهم عن الضوضاء والصخب، وتوخِّي الهدوء والدعة، فممن يمكن استقاء المعلومة الحقَّة؟!.

ثمَّ أوليس وظيفة وواجب ومهمَّة الذين عاصروا تلك المرحلة، حسم اللغط بصوتهم الحيادي الجاد والجريء، المجاور للحقيقة؟!.

أوليس صمتهم هذا، هو بمثابة تواطؤ على الحقيقة؟!.

ثمَّ أليس الأستاذ الفاضل محمد، معي في أن الكثير من المناضلين الأحياء الموزَّعين على الحركة الحزبيَّة، هم أبرز ركائز إثارة اللغط والجدل القديم الجديد، حول نشأة الحركة الحزبيَّة الكرديَّة في سورية، فمنهم من يقول: إنها تأسست سنة 1957، ومنهم من يقول: بأنها تأسست سنة 1956 (الراحل شيخ باقي، ونجله الأستاذ جمال ملا محمود)؟!.

يقول الأستاذ الفاضل: “أتصور أن الكل يريد أن يسمع الحقيقة، ويرغب فيها، ولكن كيف له أن يقتنع بان هذا القول هو حقيقي أو بعيد عنه، لذا أطلب من القارئ الكريم، أن يصبر على قراءة مقتطفات عن حقيقة بعض أحداث تلك الفترة، ( المرحلة الأولى من تاريخ البارتي )، أسردها عليه ؟ وله ان يحللها أو يقارنها أو يسأل القدامى عنها.

وآمل ان يطمئن إلى حقيقتها حسبما عشتها في البارتي، وسوف لن ألوي عنق الحقيقة من أجل أحد”.
يا سيّدي الفاضل؛ لو كان الكلّ يودُّ سماع الحقيقة، لما رأيتنا وسط هذه البلبلة والشقاق والفوضى والخراب والعطب…!.

لو كان الكلّ يودُّ سماع أو معرفة الحقيقة، أو يرغب في ابتغائها، مهما كانت مرَّة، وتطال قطاعاً واسعاً ممن يمتهنون الفبركة والتدليس والدجل…، لما كان حال أحزابنا المتناسخة التي لا تنفِّذ حتَّى برامجها، ما تراه الآن؟!.

والذي يزيد الإشكال علينا، بإنَّه، ليس كلُّ ما يُقال، ويُصدَّق، هو عين الحقيقة؟!.

وبرأيي، الأفضل من الحقيقة هو السعي نحوها.

والحقيقة، ليست بالضرورة أن تكون دوماً جيّدة أو جميلة.

وحتَّى لو كانت سيئة أو قبيحة، تبقى الحقيقة دوماً مفيدة.

يقول الأستاذ محمد ملا أحمد: “المؤسسون: معروف للجميع، وإن كان بعضهم يتجاهل الحقيقة، أن الثمانية: عثمان صبري، حميد حاج درويش، حمزه نويران، شيخ محمد عيسى ملا محمود، رشيد حمو، محمد علي خوجه، خليل محمد، شوكت حنان ( نعسان )، هم فقط المؤسسون الحقيقيون للبارتي.

ولكن مع الأسف، الموالاة، أو قلة الاطلاع، تلعب دورها في ذكر أسماء المؤسسين للبارتي في سوريا عام 1957، أو إعطاء هذا الدور للبعض، وتغييب آخرين.

مثلا: كثيرون لا يذكرون اسم الشيخ محمد عيسى ملا محمود بين أسماء المؤسسين.

وأحس أحياناً، لو استطاع بعضهم لحذف اسم عثمان صبري ( مع ما له من دور في التأسيس ) من لائحة المؤسسين !!! بينما آخرون يضيفون اسم الدكتور نورالدين ظاظا، أو اسم جكرخوين، إليهم.

وحتى جلال الطالباني له حصة كبيرة في التأسيس.

فالدكتور نورالدين ظاظا وجكرخوين انضما إلى صفوف البارتي في صيف عام 1958 ( أي بعد تأسيس البارتي بعام كامل”
والأسئلة: برأيكم، لماذا يتجاهل البعض الحقيقة، في ذكر أسماء المؤسسين كاملة!؟.

ولماذا يتمُّ شطب اسم الشيخ العلامة الراحل محمد عيسى من أسماء المؤسسين، عمداً!؟، ولمصلحة من؟!.

ولماذا ينتابك شعور أن البعض لو أمكنه، لَشطب اسم اسم المناضل الراحل عثمان صبري أيضاً!؟.

ويا ليتك لو أشرت إليهم بالبنان إلى هؤلاء المشوّشين المشوِّهين، كي لا يختلط أو يلتبس علينا الأمر؟!.

قد أكون أدرجت اسم نورالدين ظاظا في عداد المؤسسين، وقد يكون هذا الإدراج ليس في محلِّه، كما ذهبتم، وأنا (لم أعاصر تلك المرحلة)، والوثائق حول تلك المرحلة شحيحة.

لكن، ما رأيك بالأستاذ عبد الحميد درويش، وكلّ قادة الحركة الحزبيَّة، حين يدرجون اسم ظاظا ضمن المؤسسين!؟.

طيّب، علينا أن نصدِّق من منكم، برأيك!؟.

ولماذا ينصَّب شخص لم يكن من المؤسسين، جاء إلى الحزب بعد مرور سنة من تأسيسه، رئيساً للحزب!؟.


قبل أيَّام، زارني السيّد كوركين ملا حسن كرد، وذكر لي، ما يلي: “أثناء دعوة لتناول الغداء، وجهها الأستاذ عبدالحميد درويش للسيّد كوركين والمستشرق الهولندي مارتن فان بوروسن، منتصف الثمانينات، وحين سأل الأخير الأستاذ درويش بأنه من مؤسسي البارتي، ردَّ الأستاذ عبدالحميد نافياً بأن يكون من ضمن مؤسسي أول حزب كردي في سورية.

وأردف قائلاً، موجِّهاً كلامه لبروسون: إن أول من شكَّل خلايا البارتي في عامودا وقامشلي هو أنا وحمزة نويران، ويشهد كوركين على ذلك”، وطلب منِّي السيّد كروكين نشر هذه المعلومة، نقلاً عنه، وتحت مسؤوليّته، فما رأيك يا سيّدي الكريم بهذا القول.

وللسيّد كروكين ووالده المتنوِّر الراحل ملا حسن كرد، أفضال على الحركة الحزبيَّة الكرديَّة، وأنتَ والأستاذ عبدالحميد دوريش والكثير من رموز الحركة الحزبيَّة الكرديَّة، يعرفون ذلك.

وليس لديه غايات مشبوهة، أو تحيّز لهذه الجهة أو تلك.

وكان هو، ووالده الراحل، وروشن بدرخان والدكتور نوري ديرسمي وآخرون، من مؤسسي جمعيَّة “الثقافة والتعاون الكردي”، منتصف الخمسينات في دمشق، والتي أشرت إليها في مقالك، باقتضاب، رغم أن دورها في دمشق، كان نشطاً، وحلَّت نفسها واندمجت في البارتي.

يقول الأستاذ محمد ملا أحمد: “جلال الطالباني اللاجئ السياسي إلى سوريا، وعضو قيادة البارتي الديموقراطي الكردستاني في العراق، ( بعد اتفاق المؤسسين على تأسيس البارتي في سوريا ) أراد أن يساهم في جمع الأكراد العاملين في المجال السياسي في سوريا، حول البارتي، لذا ذهب في خريف 1957 إلى القامشلي، وهناك اتصل بقيادة ( جمعية وحدة الشباب الديموقراطيين الأكراد التي تأسست عام 1952 ) وحاول دفعهم نحو التوحد مع البارتي الناشئ حديثاً.

ثم ذهب إلى ( تربسبي- قبور البيض – القحطانيه ) ليقوم بنفس الدور مع عائلة حاجو آغا، كممثلين عن رفاقهم من زعماء الأكراد المهتمين بقضية شعبهم و لقادة خويبون.

وكان دوره مشكوراً من الجميع”.
يُفهم من كلامكم، أنه ليس لجلال طالباني المقيم في دمشق وقتها، أيّ دور في لمِّ شمل مؤسسي أوَّل حزب كردي سوري؟، واقتصر دور طالباني في مرحلة ما بعد التأسيس!.

وذلك، بالذهاب إلى محافظة الجزيرة بغية إقناع الجمعيَّات والشخصيَّات الكرديَّة الناشطة هناك بالانضمام للـ”بارتي”؟!.

وهل كان مؤسسوا البارتي عاجزين عن إقناع جمعيَّة الشباب الديمقراطي، وإقناع آل حاجو، والشخصيَّات الكرديَّة الفاعلة وقتئذ، بالانضمام للحزب الناشئ، حتَّى يعتازوا جهود طالباني في هذا الأمر!؟.

إنْ كان الجواب: نعم؛ فهذا يعني أن دور السيّد جلال طالباني كان وقتئذ، أكثر قوَّة وفاعليَّة وثِقل، (وهو الشاب، واللاجئ السياسي) من دور ثمانيَّة شخصيَّات كرديَّة، أسست حزب كردي، بين الجماهير الكرديَّة السورية!؟.
ولئن المصادر التي أرَّخت لتلك المرحلة، لا زالت شحيحة، فضلاً عن تكتُّم البعض من الرعيل الأوَّل من الساسة الكرد السوريين عن بعض تفاصيل نشأة الحزب الكردي الأوَّل في سورية سنة 1957، تبقى الشبهات حول نشأة هذا الحزب قائمة، وبحاجة للمزيد من التدقيق والتمحيص والتنقيب والاستدلال.

ثمَّة فرضيَّة تقول: إن الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، طلب معونة ومساندة التيارات القوميَّة الحاكمة في سورية، لموجهة نظام نوري السعيد في بغداد.

وقد كان جلال طالباني وقتها، عضواً في اللجنة المركزيَّة للحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي، بزعامة القائد الراحل الملا مصطفى بارزاني، ولديه علاقات جيَّدة مع القوميين العرب في سورية ومصر، من ناصريين وبعثيين.

فوافقت التيارات القوميَّة العربيَّة السورية على دعم الحركة الكرديَّة في العراق، لموجهة نظام نوري السعيد، وحلف بغداد، بشرط أن يؤسِّسوا حزباً كرديَّاً في سورية، يكون مهمَّته إثارة القلاقل في تركيا، التي كانت أحد أقطاب حلف بغداد، وعلى علاقة بإسرائيل، وحليفة أمريكا.

وعليه، بدأ كل من طالباني وعبدالرحمن ذبيحي (ناشط سياسي كردي إيراني)، وبعد أن أخذوا الضوء الأخضر من عبدالحميد سرَّاج (كان مسؤولاً أمنيَّاً، قبل أن يصبح ناب عبدالناصر في عهد الجمهوريَّة المتَّحدة، سنة 1958) بدأوا بالاتصالات مع النخب السياسيَّة والثقافيَّة الكرديَّة السوريَّة.

وخلُصت هذه الاتصالات، لتشكيل حزب، حمل اسم “بارتي ديمقراطي كردستان سورية”.

وكان شعاره “تحرير وتوحيد كردستان”.

ما يعزز هذه الفرضية، هو إيفاد الحزب، للشيخ محمد باقي ملا محمود إلى كردستان تركيا، لتشكيل خلايا الحزب هناك، والتواصل من التعبيرات والشخصيات الكرديَّة في تركيا.

بالإضافة إلى أنَّ في زمن دولة الوحدة بين سورية ومصر، كانت الأحزاب محظورة، إلا أنَّ الحزب الكردي، كان ينشط، بشكل شبه علني!.

لكن، سرعان ما انقلبت الطبقة الحاكمة في سورية منذ سنة 1960 على الحزب الكردي.

بعد زوال مبررات وجوده.

وهي زوال النظام الملكي في بغداد، وإبطال مفعول حلف بغداد, وإعلان الملا مصطفى بارزاني الثورة على النظام العراقي سنة 1961، والخشية من أن تنتقل العدوى الكرديَّة لكردستان سورية!.

وعليه، تمَّ اعتقال كافة قيادات هذا الحزب، بشكل سريع، وهذا يعني أنَّ الحزب الكردي السوري، كان مكشوفاً لدى السلطات السوريَّة آنئذ!.

وتأسيساً على تلك الفرضيّة، لم تكنْ الولادة السياسيَّة الكرديَّة الأولى في سورية سنة 1957، صحيَّة وسليمة على الصعيد الوطني السوري!.

فما رأيك، أستاذي الفاضل؟!.

يقول الأستاذ محمد ملا أحمد: “كان عثمان صبري في فترة البحث ( عام 1956 ) عن شركاء له، يدعمونه في تأسيس البارتي، قد كتب برنامجاً سماه ( ريزنامه ) يعالج النواحي (السياسيه، الثقافيه، والإجتماعيه ) كمطاليب للشعب الكردي في سوريا، ضمن برنامج حزبه الجديد الذي دعا إلى تأسيسه ب ( بارتيا كوردين ديموقراطين سوري  Partiya Kurdên Dêmoqratên Sûrî.

وحين قراءتهم لبنود برنامجه، السياسيه والثقافيه والاجتماعيه، للاتفاق عليها، حذفوا بعضها وأضافوا أخرى مثلا: كان عثمان  قد كتب في قسمه السياسي أن ( حزب الأكراد الديموقراطيين السوريين ) هو حزب تحرري تقدمي، يتعاون مع كافة الشخصيات والأحزاب التقدمية، ويحارب الاستعمار وأذنابه.

وكتب في البند الرابع لبرنامجه.

4 ـ ( حينما يبتعد ظل الاستعمار عن وطننا سوريا، وتبتر طرق التدخلات الخارجية، سيطالب ب، ك، د، س، من أجل 400000 كردي يعيشون في الجزيرة وعين العرب و جبل الأكراد  ب (نظام خاص ـ ريزانه كه خاص) لهم.

من أجل أن يحافظوا عن طريقه على حقوقهم السياسية والاجتماعيه والثقافيه في الوطن سوريا ).

أي أنه كان يطالب قبل / 50 / عاماً بإدارة ذاتية للمناطق الكردية في سوريا.

ولكن رفاقه المؤسسون ، الآخرون، لم يوافقوا على بقاء هذا البند في برنامج حزبهم، الذي يعملون على تأسيسه معاً، واستعاضوا عنه بالبند الذي يقول ب (تحرير وتوحيد كردستان ).

وذكر لي حميد حاجي درويش عن موقف عثمان حينما رفضوا ما جاء في بنده واستعاضوا عنه ب (تحرير وتوحيد كردستان )، أنه اعترض على وضع البند الجديد عن تحرير وتوحيد كردستان، كأحد المهام الرئيسية لحزبهم، بانه غير مناسب للظروف التي يعيشها شعبنا المجزء مع وطنه بين دول أربعة مغتصبة، وغير ملائمة لأوضاع المنطقة، وأهداف الحزب المرحلية، لكنهم أصروا على إبقاء  بندهم، الذي أصبح احد أسباب الخلاف في السجن عام 1960 (كان الخلاف حول: الاعتراف به أمام القاضي، كبند موجود في البرنامج، أم غير موجود فيه ).

فقط عثمان لوحده من بين السجناء، في هذا الوقت الحرج،  تمسك أمام المحكمة ببرنامجه وببنده (الذي اعترض عليه حين كتابته)، بينما تهرب الآخرون من القول بوجود البند في برنامجهم”.
هذا الرأي الصادر من الأستاذ محمد ملا أحمد، يتطابق مع ما أوردته في إحدى مقالاتي النقديَّة للحركة الحزبيَّة، وإن الراحل عثمان صبري، لم يكن متزمِّتاً، (كما كان يشاع حوله من قبل قيادات الحركة الحزبيَّة) وكان ضدّ شعار الحزب “تحرير وتوحيد كردستان”.

ولكنه أصرَّ على هذا الشعار، وعلى الهوية السياسيَّة للتشكيل الكردي أمام القاضي، حين لمح تخاذلاً وانبطاحاً سياسيَّاً، ممن فرضوا هذا الشعار أثناء المحاكمة.

وعليه، رفض صبري للشعار، في البداية، كان موقفاً عقلانيَّاً وموضوعيَّاً، ودفاعه عن هذا الشعار أثناء المحاكمة، كان موقفاً رجوليَّاً وطنيَّاً وقوميَّاً شجاعاً.

إذن، لا خلاف بيننا في هذه المسألة، كما يبدو لي.

لكن بيت القصيد الكردي كامن في مسألة طرد صبري من الحزب بتهمة الخيانة والعمالة لتركيا سنة من كتلة اليسار.

ويقال أن ذلك، تمَّ بتدبير محبوك من صلاح بدرالدين!.

فيا ليت الأستاذ محمد، لو وضعنا في صورة تلك المؤامرة، إنْ كانت موجودة، وما مدى صحَّة هذه المعلومة!؟.

لماذا تمَّ استهداف عثمان صبري؟!، ولماذا تعرَّض للتشهير، وفيما بعد للنسيان، حتَّى أيام وفاته!؟.

لماذا تتحاشى الأحزاب الكرديَّة تناول السنين الأخيرة من عمر عثمان صبري؟!، هل لأنه صار من أصدقاء أوجلان، ومن مناصري حزب العمال الكردستاني، كما هو معروف، وكان السيّد اوجلان يتردد على داره في حي الأكراد بدمشق!؟.

لماذا اتَّجه المناضلان الشيخ محمد عيسى وعثمان صبري وشيخ باقي إلى تأييد ومساندة حزب العمال الكردستاني، وجعلهم هذا التأييد، في مرمى سهام وطعنات الأحزاب الكرديَّة.

ولقد أشرت في مقالك إلى أنه لو شاء البعض، لشطب اسم عثمان صبري أيضاًَ من قائمة مؤسسي البارتي في سورية، فضلاً عن تجاهل وتغافل دور الشيخ محمد عيسى كمؤسس لهذا الحزب، من هم هؤلاء البعض؟!.

أستاذي الكريم: هل قرأت “ريزنامة” السياسيَّة التي تحدثت عنها؟! وأين هي الآن؟.

هل تتوفَّر كوثيقة حاليَّاً؟.
سئل أحد قادة الأحزاب الكرديَّة عن سبب توجُّه مؤسسي البارتي في سورية إلى تأييد حزب العمال، قاصداً بذلك، الشيخ محمد عيسى وعثمان صبري.

فهل تعرف يا سيّدي، بماذا ردَّ هذا القيادي العريق؟!.

ردَّ بتهكُّم وسخرية قائلاً: “حين يصل مؤسسو البارتي في سورية إلى تخوم الخَرَف، يصبحون من مناصري حزب العمال”!.

فما رأيك بهذه الزمالة النضاليَّة، وهذه الفصاحة والشهامة السياسيَّة!؟.

يقول الأستاذ محمد ملا أحمد: “فلو تحلى المؤسسون الآخرون بوعي سياسي أعلى حينها، وإدراك أعمق للأوضاع، كحال عثمان، لوافقواعلى بقاء البند الرابع من برنامجه، المطالب (بإدارة خاصة، ذاتية) للمناطق الكردية في سوريا ولم يستعيضوا عنه ببند مثير للعواطف (تحرير وتوحيد كردستان) حيث تهربوا منه بعد قليل وتسبب البند في إثارة تلك الخلافات في السجن وخارجه.

ولوبقي، لربما كان الآن سيلعب دوراً في تقريب وجهات نظر الاحزاب حول أهداف الحركة، وخففت من هذا التمزق والابتعاد عن البعض.

ولما جاءت بعد 50 عام، تطالب بنفس ما جاء في بند برنامج عثمان الرابع، حين التأسيس”.
رأي منطقي ورائع، أشكرك عليه.

وأوافقك عليه تماماً.

واسمح لي أن أزيد عليه بالقول: إن من فرض شعار “تحرير وتوحيد كردستان”، كان يودُّ خدمة أجندة طالباني ووعوده للقوى العربيَّة بتشكيل حزب كردي سوري مناهض لتركيا، وقتئذ.

والإصرار على ذلك الشعار، يعزز فرضيَّة دور طالباني في تأسيس أول حزب كردي في سورية.

إن من فرض شعار توحيد وتحرير كردستان وقتئذ على برنامج البارتي، هو نفسه الآن الذي يتحدث غزيراً عن الوطنيَّة السوريَّة، والعقلانيَّة، والابتعاد عن تجييش العواطف وتهييجها، قياماً وقعوداً.

ولكن، من المؤسف القول: إن متطرِّفي أيَّام زمان، صاروا عقلاء الراهن.

فلا تطرُّفهم آنئذ كان صميميَّاً، وخرّوا وانهاروا في أول مواجهة مع النظام أثناء المحاكمة!.

ولا عقلانيّتهم وواقعيتهم وموضوعيتهم وليبراليتهم الآن هي صميميَّة، إذ يستشهدون بأوجلان وتخلِّيه عن الدولة القوميَّة وتبنيه للدولة الوطنيَّة، واعتبار ذلك وثيقة تدعم مواقفهم الهشَّة.

لأن أوجلان، حين طرح شعار الدولة القوميَّة الكردستانيَّة، أخلص لهذا الشعار، وقاتل في سبيله، وأنجز ثورة، هزَّت تركيا والشرق الأوسط والعالم، وتكالبت عليه كلُّ قوى الشرّ في العالم، لتودعه في السجن الذي هو فيه الآن.

أمَّا حين طالب البعض بـ”تحرير وتوحيد كردستان”، وأجبروا عثمان صبري على قبول هذا الشعار، ثمَّ تخلُّوا عن شاعرهم، وما أنجزوا طيلة 50 سنة، سوى حياة سياسيَّة ركيكة مرتبكة، ونتاج ثقافي ضحل، وأحزاب أقرب إلى القبيلة والعشيرة منها إلى التعبير السياسي النشط الذي ينتج الظروف والأحداث، ولا يكون شاهد عليها، يظنُّون أن الشعب الكردي سيبقى متكتِّماً على هذا المسلك إلى أبد الآبدين، وإن ساعة الحساب الكردي، ستبقى معطَّلة، كما هي أحزابهم معطَّلة!.

وعليه، هذا النفر المهلهل، الذي يجتهد في الحديث عن الممكن والشعارات المعقولة، ويستحضر مثال أوجلان، وتخلِّيه عن شعار الدولة القوميَّة، ينبغي أن يستفيض في شرح الظورف والمتغيرات الدوليَّة التي أدَّت بأوجلان لتغيير شعاره، حتى قبل اختطافه واعتقاله بستة سنوات، وتحديداً سنة 1993.

حينها أيضاً، قال عقلاء اليوم: أنظروا، كيف انهزم واستسلم أوجلان!؟.

كان عليه أن يبقى ملتزماً بشعار الدولة القوميَّة، مهما كلَّف الأمر!.

وكأنَّ القضيَّة عناد وثارات قبليَّة بين الأكراد والأتراك.

وشتَّان بين عقلانيَّة أوجلان وعقلانيَّة هذا النفر من قيادات أحزاب كرد سورية.

فعقلانيَّة الأول، انتجت ثورة ونهضة قوميَّة، وتلاحماً كردستانيَّاً، جمع أوصال الشعب الواحد، حول قضية واحدة، ولا تزال هذه الثورة متقدة.

فيما أنتجت عقلانيَّة ذاك النفر، أحزاباً تالفة ومتلفة، قوامها التمييع، ومآلها التركيع.

فأين الثرى من الثريَّة؟!.

يقول الأستاذ محمد ملا أحمد: “لذا أصبح بند (تحرير وتوحيد كردستان) الموجود في البرنامج، إضافة لما قاله الدكتورظاظا في السجن ، بأن البارتي جمعيه ثقافيه وليس بحزب سياسي.

وقول حميد حاج درويش فيما بعد، بأن الأكراد في سوريا أقليه قوميه، وليسو بشعب يعيش على أرضه التاريخية، أسباباً لخلافات عميقة دفعت البارتي نحو الانقسام، الذي أصبح واقعاً من بداية عام 1966”
يُفهم من كلامك، إن طاقم اليمين (ظاظا، درويش، حمو…”، هم المسؤولون عن الخلاف والشقاق.

فلو بقوا على برنامج عثمان صبري، وعدم أرغامهم على وضع شعار “تحرير وتوحيد كردستان” في برنامج البارتي، والتخلي عنه أثناء المحاكمة، وقول درويش أن الكرد في سورية أقليَّة قوميَّة وليسوا شعباً…، لما كنَّا أمام هذا التكاثر المسرطن من الأحزاب الكرديَّة في سورية!.

فما رأيك؟!.

وآخر ما يمكن سؤاله هنا: ماذا يعني لك 50 سنة من النضال الذي لم يحقق أيّ إنجاز وطني أو قومي؟!.

بماذا يمكننا قياس هذا النضال، مع انعدام الانجازات القوميَّة والوطنيَّة!؟.

أليس أقلُّ ما يقال في هذا النضال العريق العتيق: بأنه فاشل؟.

ولماذا تخلّيت أنت عن الحياة السياسيَّة ضمن هذه الأحزاب؟!.

دمشق 20/6/2008

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…