الكلام سلاحاً

هوشنك أوسي

تستند النظريات النقديَّة في الأدب والفكر والسياسة، على المادَّة الكلاميَّة التي في متناولها، بغية التحليل والفكّ والتركيب، وصولاً لاستكشاف العوالم والخلجات والأحاسيس والهواجس والأفكار.

وعليه، فالنقد برأيي، اختصاراً، هو كلامٌ عن الكلام، أو كلامٌ حول الكلام، أو كلامٌ في الكلام، تفكيكاً وتحليلاً وتركيباً واستنتاجاً.

وكان الكلام في التراث الإسلامي علماً بحدِّ ذاته، ويكنَّى علمائه بـ”عملاء الكلام”، وغالباً ما كانت هذه الصفَّة، تلازم من يشتغلون على العقل والفلسفة، وإنتاج الأسئلة، والسعي لإيجاد الأجوبة، واشتهر منهم فرقة “المعتزلة”.

وعِلم الكلام، كان ولا زال مادَّة رئيسة في العلوم الشرعيَّة.

ولا يخفى ترديدنا القول المأثور، ولعلَّه للسيّد المسيح: “في البدء كانت الكلمة”، حين نودُّ الإشارة إلى أهميَّة الكلمة.

وكثيراً ما ننادي بالكلمة الحرَّة، ونتغنَّى بأصحابها، ونذكر خطورة ضرائبها، وفضائلها على المجتمع.
في مسعى الإنسان للتعبير عن نفسه، يغدو الكلام والخيال والإحساس…، ذخيرة الشاعر والأديب، ويغدو الكلام والأفكار ذخيرة من يشتغل على العقل والفكر والوعي.

وعليه، يمكننا قياس منسوب العواطف والأفكار في الكلام، كي نصنِّفه ونعرف وجهته، أهو للعواطف مصاغٌ أم للعقول؟.

وأجودُ الكلام، ما كان مسبوكاً بمهارة صاغة الذهب، وقلَّ ودلّ، وأصاب مرماه، ونشطَّ الخيال وحفَّز الأفكار، وأتى بجديد في مسعى الوصول للمتعة، إنْ كان أدباً، والحقيقة، إنْ كان فكراً.

وأردأ الكلامِ، هو نقيض ما تمَّ ذكره.
جميلٌ أن يتحدَّث البعض عن “الكلام الطيّب” أو “الكلمة الطيَّبة”، ووقعها في النفس، قاصداً بها، ذلك الصنف الليّن، الهادئ، التوفيقي أو الوفاقي…، كأحد أدوات أو أوجه الدبلوماسيَّة، بداعي التقريب بين المختلفين في وجهات النظر، أو من هم على طرفي نقيض، بغية جسر الهوَّة بينهما، وتجنّب الخصومة والتناحر والتباعد…، وتقليل المضرَّة بمصلحة الأمَّة والوطن…الخ.

وهكذا نسق من الكلام، هي أولى وأهمّ مستلزمات السياسي المحترف الحصيف، الحريص على هموم شعبه وقضاياه.

لكن، لا ينطبق هذا، على المثقف الناقد، الحريص على هموم شعبه ووطنه وقضاياه العادلة.

فالنقد، فعل شجاعة وجرأة، وتجاسرٌ على كشف المستور عنه، أو المسكوت عنه، بكثير من الحزم والأمانة والشفافيَّة.

وعليه، هو ليس بكلامٍ معسول، ولا يقبل المهادنة أو المناورة أو المداورة…، في ساعات الشدَّة والأزمة.

وبل هكذا كلام، في أغلبِ الأحيان، مرٌّ قوله وسماعه، وقد يترتَّب على قائله أعباء وتبعات وخيمة.

فالكلام هو مسؤوليَّة قبل أن يكون امتحاناً ومحكَّاً لجودة الأفكار وقوَّة القرائن والأدلَّة وأصول المحاججة.
ذهب البعض، ممن تابعوا سلسلة مقالات كاتب هذه السطور، حيال المراجعة النقديَّة والقراءة المتأنِّية في التجربة السياسيَّة الكرديَّة في سورية، والخوض في نشأة هذه التجربة، وخلفياتها ودلائلها، وكشف النقاب عن بعض خفاياها، أو طرح الأسئلة عمَّا هو مستور في مسلك رموزها، سلباً أو إيجاباً، وإجراء جردة حساب لنتائج هذه التجربة، وما استحصل على الشعب الكردي السوري من منجز سياسي أو قومي أو ثقافي…، خلال نصف قرن من هذه الجربة، وصف البعض، جزافاً، تلك المقالات، أو ذلك الكلام، بالمهاترة والمزايدة…، ووضع كاتب هذه المقالات في خانة “التخوين، والتآمر، والارتزاق والدسّ والتزوير والتحوير…”، دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء الإجابة والردّ المنطقي بكلامٍ مغايرٍ لكلامي، يجاور الحقيقة بقضِّه وقضيضه، معززاً لما بين لديه من القرينة الواضحة والحجَّة والبيّنة الدامغة، والبرهان القاطع.

والأغلب، أنهم عجزوا عن مجابهة الكلام القويّ، بكلام أقوى، أو بما يوزايه في قوّة القرينة والحجَّة، فلاذوا بما ينضحون به ضخِّ القول السمج السفيه البذيء، كمن ارتعبَ من القول الحقِّ، فهاج في وجه كلَّ من يحاول تخوِّي الحقيقة!.

 فالكلامُ الشائك، لا يُردُ جزافاً بتهم “المزايدة والمهاترة”، إلا من قبل فاقدي الحيلة، أولي الوعي الضحل، والفكر المحل، والقول القحل.
خمسون عاماً، من الكلام الطيّب، أو “الكلمة الطيّبة”، لم تجدِ نفعاً في تجنيب حراكنا السياسي الكردي في سورية المزيد من الخراب والعطب والخلل والزلل والعطالة!.

خمسون عاماً، والكلام الطيّب، لم يثمر إلا شقاقاً وصروحاً سامقةً شامخةً من الخراب، بمعيَّة رموز الحركة الحزبيَّة الكرديَّة السوريَّة!.

خمسون عاماً من الكلام الطيّب، لم يحرِّك في تل تلك الرموز ومضة من الإحساس بالمسوؤليَّة القوميَّة والوطنيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة حيال ما يقومون به من الاحتراب الكلامي، وترسيخ المزيد من الشقاق والنفاق، بدلاً من الوفاق، والمزيد من التناحر، بدلاً من التحاور، والمزيد من الخصام، بدلاً من الوئام!.

خمسون عاماً، والكلام الطيّب لا يردع سدنة الخراب السياسي الكردي السوري، ولا يوزِع ضمائر غالبيَّة رموزه!.

وعطفاً على ما سلف، ليس من المجازفة القول: إن الكلام الطيّب، لا ينفع إلا مع أهله.
لا جدال حول أهميَّة الكلام الطيّب، في في فتح الاختناقات، وتفريغ الاحتقانات، وفكِّ الاحتباسات السياسيَّة والاجتماعيَّة والشخصيَّة والنفسيَّة.

ولا جدال أيضاً، إن هكذا كلام، خطرٌ جداً في قضايا النقد السياسي أو الثقافي، لأنَّ مآله التمييع والتسطيح والتسفيه.

فخير الكلام الطيّب في النقد، هو أكثره لذعاً وحزماً ومعززاً بالقرائن والأدلِّة.

فالاستبداد والفساد السياسي، في أيّ مكان، وكائناً من كان مرتكبه، لا يردعُ بالكلام الطيّب، بل يزيده تمادياً واستفحالاً واستشراءاً وشراسة!.

فالكلام الطيّب هنا، سلاح يرتدُّ على المجتمع والمتضررين من الفساد والاستبداد، ويعزز مواقع المستبدِّين والفاسدين المفسدين!.

الكلام الطيّب هنا، مفسدةٌ للوعي والعقل والعزم والإرادة!.

الكلامُ الطيّب هنا، لا يتوخَّى التنوير، ويعرقل التغيير، ويدعو للقنوع والطاعة والقبول بالأمر الواقع.
يخيَّل للبعض أن مساءلة زعامات الكرد، قديمهم وحديثهم، حول مواقفهم وأفكارهم وسلوكهم وسياساتهم، ونتائج تلك السياسات والمواقف على الحال الكرديَّة، هو ضربٌ من الكلامِ غير الطيّب، الذي يشتت الصفّ، ويبدد الطاقة، ولا يدعو للتراصص والتآلف والتحالف والتراصف والتكاتف…الخ، وينبغي الكفُّ عنه، إذعاناً لمصلحة الأمَّة!.


ولا ترى دعاة الكلام الطيّب، ممتطين متون كلامهم الدمث، الليّن، الداعي للتهدئة، إلاَّ حين تطالبهم بعدم الانتقائيَّة في نقد القيادات الكرديَّة.

فحين كانوا يجتهدون حثيثاً في نقد علاقة أوجلان بالنظام السوري، في الوقت عينه، يتغاضون عن علاقات طالباني وبازراني مع نفس النظام، ومع النظام الإيراني والتركي، وحتَّى العراقي، وكلفة تلك العلاقات على القضيَّة الكرديَّة في تلك البلدان.

وحين كانوا يتحدثون عن الاستبداد والستالينيَّة في حزب العمال الكردستاني، لم يكن يعني لهم شيئاً عقود من الاقتتال الداخلي في كردستان العراق، ودخول أكراد العراق حرباً مقيتة مع أكراد إيران وأكراد تركيا، وحملات تصفية المعارضين في صفوف الحزبين الرئيسين في كردستان العراق، كـ”فاخر مركه صوري، علي عسكري…”، وتصفية قيادات الأحزاب الكردستانيَّة الأخرى كـ(سعيد آلجي، دكتور شفان،، سليمان معيني”.

حين تواجه انتقائيَّتهم، بما لديك من الوقائع والشروح، يرددُّون عليك: بكلام كهنوتي وعظي، داعٍ لطيّ صفحة الماضي، تجنُّباً لإحيائه، (وكأن الحديث عن الماضي ونقده، لديهم هو دعوة لإحيائه)، والالتفات لمصلحة الأمَّة الكرديَّة، وذكر: أن لا منفعة للكرد من التنقيب في الماضي ونقده، بغية فهم وتشخيص الحاضر، وصولاً لمعالجته.

وهنا، تراهم يتدثَّرون بالكلام الطيّب، والقول الحسن، وكأنَّ وظيفة المثقَّف هي تطييب وترطيب الخواطر!.
يناشدني البعض بالكفِّ عن “المهاترة”، ويقارنني، وأنا الصريح الواضح بكامل اسمي وهيئتي الثقافيَّة والمعرفيَّة، وأفكاري المتواضعة، مع شخص، يتوارى خلف اسم مستعار، وهو أجبن بأن يصارحنا بنفسه وإرفاق مدوَّناته بنسخةٍ بمحيّاه الكريم!.

وبذا، يسقط صاحب المناشدة، وعن حسن نيَّة طبعاً، في هفوة الجمع بين من يعلن عن نفسه وفكره وموقفه علانية وجهاراً، وآخر، لا تعرفُ منه، سوى اسمه الوهميّ المستعار وأحقاده المزمنة، التي يشحن بها مدوَّنته الركيكة!.

وهذه “زلَّة” مسلكيَّة ثقافيَّة، لا أراها لائقة بحقِّ صاحب المناشدة، الذي جمعتني وإيَّاه فيما مضى، صداقة، ثم سوء فهم، ثم سوء كلام!.

لكن، لم ولن أوصد نوافذ قلبي وعقلي أبداً أمام أيَّة بوادر التصافي والتلاقي في منتصف الطريق.

قصارى القول، هو ما قلته سابقاً: “ما ينفع الناس يمكث في الأرض”، و”مرضاة الناس غاية لا تدرك”، ومرضاة الأحزاب الكرديَّة هي من أسهل الغايات التي باتت تدرك.

وسيضيع الحقُّ الكرديُّ السوريُّ، إنْ كان وراءه مُطالبٌ جاهل، بتاريخ حركته ورمزها.

سيضيق الحقُّ الكرديُّ السوريُّ، إنْ كان وراءه مثقفٌ مرائي!.

سيضيقُ الحقُّ الكرديُّ السوريُّ، إنْ بقي متروكاً في عهدة أحزابٍ، لا تلتزم حتى ببرامجها!.

سيضيقُ الحقُّ الكرديُّ السوريُّ، إنْ بقيت هذه الأحزاب العاطلة عن العمل، والعاجزة عن الائتلاف تحت سقفٍ مشترك منذ خمسين سنة!.

لو كان الكلامُ الطيّب ناجعاً وكافياً وشافياً، لاستطاع أوجلان استمالة عقول الطغمة الفاشيَّة التركيَّة بكلامه الطيّب عن الديمقراطيَّة والجمهوريَّة الوطنيَّة، والتآلف والانسجام بين الشعوب، واعتبار قتلى الأكراد والأتراك شهداءاً على حدٍّ سواء، ومناقشة الأتاتوركيين، بمنطقهم، عملاً بمبدأ: “من فمك أدينك”!.

الكلام الطيّب، لم ينجح حتّى في إقناع أكثر العرب السوريين ديمقراطيَّة، بأحقيَّة الحقوق الكرديَّة، وفق الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، والقوانين والأنظمة الدوليَّة، وتبديد نظر الريب والشكَّ المزمنة لديهم حيال كُرد سورية، فما بالكم في إقناع النظام!.


لا نسيء إلى الكلام، إن نعتناه بالسلاح.

إن الكلام سلاحٌ ذو حدِّين، قد يصيب صاحبه، إنْ كان قائله أو محرره، لا يجيد صوغه أو طرحه في مكانه وأوانه.

الكلامُ سلاحٌ، ولا يعني أن السلاح بالضرورة من مستلزمات الحرب!، فمن الكلامِ السلاح، ما هو مناهضٌ للحرب.

ولئن كان الكلام سلاحاً، فمنه ما كان خشبيَّاً معطوباً بائداً، ينتمي للماضي، وهو بضاعة الجهلة والغافلين.

ومنه، ما كان رصيناً محبوكاً ببراعة، ومسبوكاً بمهارة، ينتمي للعصر، ويستشرف المستقبل، وهو هوِّية العقلاء النبهاء.

وأطيب الكلام، هو قولة حقٍٍّ أمام سلطانٍ جائر.

أطيب الكلام، هو قولة حقٍّ، بقصد الحقِّ، وليس بقصد الباطل.

أطيّب الكلام، ما حفَّز العقل ونشطَّه، وأمتع الروح وأثلجها، وأدهش الخيال وأربكه.

وبئس الشعوبُ، القوَّالة، ونعمه الشعوب الفعَّالة، التي تعملُ أضعافَ ما تحكي.

دمشق 18/6/2008

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…