بدعوة رسميَّة من الحزب الديمقراطي الكردي السوري لحضور الحفل التأبيني الذي أقيم بمناسبة مرور أربعين يوم على وفاة المناضل الكردي محمد باقي ملا محمود “شيخ باقي”، وجهها الحزب لي، ونظراً لخصوصيَّة هذا اليوم، وخصوصيَّة المناضل المُؤبَّن، قررت حضور الحفل، بصحبة صديقين عزيزين، ولم أعتبر الحضور، خروجاً عن مقاطعتي للحركة الحزبيَّة الكرديَّة في سورية، والتي أعلنتها سابقاً.
وكان من المُفترض أن ألقي كلمة في الحفل، حسبما تمَّ الاتفاق عليه مع موفد الحزب الديمقراطي الكردي السوري الذي زارني.
على كل حال، ليس هنا بيت القصيد، بخاصة، بعد أن أبدى الأستاذ جمال ملا محمود، نجل الفقيد، ورئيس الحزب، أسفه على الخلل الذي حصل، وحال دون إلقائي لكلمتي، وعانقني مرَّتين بودٍّ وترحاب، أثناء دخولي لبيته الكريم، وأثناء خروجي منه، عقب انتهاء الحفل.
ورغم أن قامة المناضل الراحل، كانت أشمخ وأكبر من ذلك الحفل المتواضع، إلا أنَّ الحفل كان منظَّماً إلى حدٍّ لا بأس به.
ولم تؤثِّر نقاط الخلل، وعدم ضبط توقيت مُدد الخطابات، على مجريات الحفل كثيراً.
ولئن لم تتح لي الفرصة لإلقاء كلمة في ذلك الحفل، يطيب لي إيراد فحواها هنا، في متن هذا المقال.
الحقُّ، إنَّ مناسبة جليلة كهذه، تستوجب علينا المزيد من التأمُّل والتمعُّن والغوص في تجربة هذا المناضل الكبير، بعيداً من المحاباة والتزلُّف والخطب الطنانة والرنانة، وألاَّ يتَّخذها البعض فرصة لتسجيل الحضور، من قبل أفرقاء الطيف السياسي الكردي السوري لعرض برامجهم الحزبيَّة في حفل التأبين!، إلى جانب تسجيل والمثقفين والمهتمِّين الكرد وجودهم في الحفل.
التواجد في رحاب أربعينيَّة الراحل الكبير، تفرض على الحركة الحزبيَّة الكرديَّة في سورية تقديم جردة حساب للشعب الكردي السوري، حيال مسيرتها التي تجاوزت نصف قرن.
بخاصَّة، أن الأربعينيَّة، تصادفت مع يوم إطلاق أول تعبير سياسي كردي سوري في 14/6/1957.
نعم، لقد استطاعت روح المناضل “شيخ باقي” الطاهرة، لمَّ شمل كل تفاصيل الحراك السياسي الكردي السوري، بعتيقه وعتيده، بقضِّه وقضيضه، بعجره وبجره…، في داره الكريمة.
في حين، عجز هذا الجمع العرمرم، الالتئام تحت سقف واحد، بهذا الشكل، منذ 50 سنة.
كلُّ المنشقِّين على بعضهم، جمعتهم ذكرى أربعينيَّة شيخ باقي.
أمرُّ يستحقُّ التأمُّلَ والتمعُّن حقَّاً، ويحيلنا لنتيجة غريبة، مؤدَّها: أن الكرد السوريين، يفرِّقهم مناضلوهم الأحياء، ويجمعهم ذكرى مناضلوهم الأموات!.
هذه المناسبة، ينبغي أن تدفعنا لإجراء مراجعات نقديَّة لتاريخ الحركة الحزبيَّة الكرديَّة، والكشف مكامن العطب والخلل والتحوير والتزييف، والدسّ والعبث…، وفضح المعرقلين والمعطِّلين والانتهازيين والمتطفِّلين…، في هذه الحركة، المسؤولين عن تدنِّي مستواها، ورداءة أداءها، وانزلاقها نحو التدهور والشلل والفشل.
إن المناضل شيخ باقي، وأنتم الآن تكيلون له المدائح، وهو ليس بحاجتها، قبل وفاته، كان منسيّاً، وأثناء نشاطه، كان مثار شتم واستهتار واستهجان وطعن في خطِّه الوطني السوري، والقومي الكردي!.
هذا المناضل، كان له شرف أن تجتمع الحركة الحزبيَّة الكرديَّة السوريَّة، على ذمِّه، بنفس القدر الذي هو الآن، وفي أربعينيَّته، هو في مرمى مدائح الحركة الحزبيَّة ذاتها!.
خبر وفاة هذا المناضل الكبير، لم يصلح لأن يكون حتَّى خبراً هامشيَّاً في نشرات أخبار الفضائيات الكردستانيَّة، ما عدى فضائيَّة “روج” التابعة لحزب العمال الكردستاني!.
لماذا يا تُرى!؟.
ألا يستحقُّ منَّا هذا المناضل، طرح هذا السؤال، والبحث عن إجابة شافية له!؟.
الحقُّ أنَّ الريادة في دفع الحراك الكردي إلى حلبة التفاعل الوطني السوري، تسَّجل للراحل الكبير “شيخ باقي”، حين حذف حرف الجرّ من اسم حزبه ليصبح من “الحزب الديمقراطي الكردي في سورية، إلى الحزب الديمقراطي الكردي السوري”.
وهذه الـ”في”، ليس مجرَّد حرف جرٍّ وحسب، بل أن وجوده في سياق اسم الحزب الكردي، له مدلولاته السياسيَّة والنظريَّة العميقة.
ولأنه حذف “في” من اسم حزبه، كان الرجل مثار استهتار وطعن من الأحزاب الكرديَّة، التي أبت إلا أن تحتفظ بـ”في”ها، في أسماء أحزابها، دون التمعُّن في عمق ودلالة وجود أو عدم وجود هذا الحرف.
ولكن، في الوقت، الذي كان للراحل، قصب السبق في التأسيس وترسيخ التوُّجه الوطنيّ السوريّ للحركة الكرديَّة، وجعله دمشق جهة الحلّ الوطني للقضيَّة الكرديَّة في سورية، في الوقت عينه، كان الراحل كردستانيَّاً حتى النخاع.
وقد دفع ثمن كردستانيَّته، بقدر ما دفع ثمن سوريَّته، وربما أكثر.
وعليه، قدَّم الراحل “شيخ باقي” أنموذجاً فريداً وجديداً ومتميّزاً في التقاليد السياسيَّة الكرديَّة السورية، وحتى الكردستانيَّة.
إذ جمع بين ما هو وطنيّ سوريّ، وقوميّ كرديّ، وكردستانيّ، في حراكه النضالي.
فضلاً عن أنَّ المناضل الراحل، كان ذو منبتٍ ديني، وينحدر من عائلة وطنيَّة دينيَّة عريقة، ولم يكن يخجل بأن يكنَّى بـ”الشيخ باقي”، إلا أن توجُّهه السياسي كان علمانيَّاًَ، ولم يكن دينيَّاً.
وهذه الخصال، تشرَّبها من أبيه الشيخ محمود، ومن شقيقه الأكبر، العلاَّمة المناضل الكبير الشيخ محمد عيسى قره كوئي، أحد مؤسِّسي أول حزب كردي في سورية.
كان الشيخ باقي، من أوائل الذين مدُّوا يد العون والمساعدة والمساندة، لحركة التحرر الوطني الكردستاني المعاصرة في كردستان الشماليَّة، بقيادة حزب العمال الكردستاني.
وكانت تربطه بهذا الحزب وزعيمه، علاقة ودّ وتعاضد حميمة حتَّى سنة 1987.
وفي سنة 1981، أصدر حزب العمال مشروع إقامة جبهة التحرير الوطني الكردستاني ERNK، لتكون السقف الوطني الجامع لكل الفصائل الكرديَّة والكردستانيَّة وقتها.
وبقي هذا المشروع قيد الدرس، وعُرض على كافة الفصائل، ومنها، الحزب الديمقراطي الكردي السوري.
ولم يستجيب أحد لبرنامج هذه الجبهة.
لكن، ما أنفرد به الشيخ باقي، أنه أرسل وفداً رسميَّاً، برئاسة نجله جمال ملا محمود، وكان وقتئذ عضواً في اللجنة المركزيَّة للحزب، أرسله ليكون ممثل الحزب في حفل الإعلان عن جبهة التحرير الوطني الكردستاني ERNK سنة 1985.
وفي نفس العام، وقَّع حشد مع الأحزاب الكرديَّة في سورية وتركيا والعراق وإيران، وأحزاب شيوعيَّة سوريَّة عراقيَّة…، على بيان إدانة بدء حزب العمال الكردستاني الكفاح المسلح ضدّ تركيا، باستثناء الحزب الديمقراطي الكردي السوري، الذي رفض التوقيع على ذلك البيان.
علاقة الشيخ باقي وحزبه مع حزب العمال، جعله يدفع الضريبة مرتين.
الأولى؛ من الأحزاب الكرديَّة السوريَّة، التي زادت من حقدها وغبنها وبغضها على الشيح باقي وحزبه، بسبب دعمه لحزب العمال وعلاقته مع هذا الحزب.
هذه الأحزاب، كانت لا تملُّ إثارة الشبهة والطعن في أداء المناضل شيخ باقي، بسبب علاقته مع حزب العمال، وعلاقة حزب العمال مع النظام السوري.
الثانيَّة؛ فقدان الحزب الديمقراطي الكردي السوري، قسماًَ كبيراً من شعبيته وجماهيريه وأعضائه، الذي صاروا من مناصري ومؤيدي وأعضاء حزب العمال الكردستاني.
ولقد خسرت كل الأحزاب الكرديَّة السوريَّة قطاعات واسعة من جماهيريها، لصالح حزب العمال الكردستاني، إلا أن خسارة الحزب الديمقراطي الكردي السوري، كانت أكبر.
ورغم ذاك، لم ينزلق هذا الحزب لمعادة حزب العمال، لهذه اللحظة، خلافاً لكل الأحزاب الكرديَّة السوريَّة الأخرى.
تعكِّرت علاقات العمال الكردستاني بالديمقراطي الكردي السوري، لجملة من الأسباب، أهمَّها تعاظم دور وشعبية حزب العمال، وسوء إدارة بعض قيادييه، إذ كانوا يحشرون هذا الحزب، مع بقية الأحزاب التي كانت تعلن عداءها للعمال الكردستاني جهاراً نهاراً!.
وحتَّى بعد انقطاع العلاقات بين الديمقراطي الكردي السوري والعمال الكردستاني، لم ينزلق الأخير لإصدار بيانات مناوئة أو معادية لحزب العمال، كما كان ولا زال بعض الأحزاب، وبعض قادتها، وبعض مثقفيها، وليس الكل، يمتهن هذه اللعبة القذرة!.
الحقُّ أن تجربة المناضل الراحل شيخ باقي، تستحقُّ التقدير والاحترام والتمعُّن والتأمُّل والبحث والتنقيب النقدي، لما لها من ميزات لافتة وهامَّة، ينفرد بها دوناًَ عن غيره من قادة الحركة الحزبيَّة الكرديَّة في سورية.
فمن يدَّعي الوطنيَّة السوريَّة اليوم، كان يعادي الشيخ باقي، على سوريَّته السياسيَّة.
ومن ينظِّر في الكردستانيَّة والعمق الكردستاني، كان يعادي الشيخ باقي على كردستانيَّته!.
ومن كان يعيب على المناضل الشيخ باقي، وقبله الشيخ محمد عيسى منبته الديني، ووسمه بـ”الرجعيَّة والتخلُّف…”، هذا النفر من السياسيين الكرد، أغرقوا الحراك السياسي الكردي السوري، وأحزابهم، بمنطق العشيرة والقبيلة والعائلة…!.
قصارى القول: آمل من ذوي المناضلين الراحلين: الشيخ محمد عيسى، الشيخ باقي، حمزة نويران، شوكت نعسان، نورالدين ظاظا، عثمان صبري، نوري ديرسمي، قدري جان…، إقامة ملتقيات أو ندوات إحيائيَّة لهم، كي تصبح هذه الملتقيات سقفاً تجتمع تحته كل الأحزاب الكرديَّة السوريَّة، المتحالفة والمتخاصمة والمتشاجرة والمتعاركة…، بالإضافة لأن هؤلاء المناضلين، يسحقُّون منَّا الإحياء، عبر مراجعة تجاربهم، والبحث والتنقيب النقدي في تراثهم النضالي السياسي والثقافي، دونما انتقائيَّة أو تزلُّف أو ما شابه.