حملات تشير الى تورطهم … دور الأكراد في المذابح الأرمينيّة دوافعه ليست قومية بل التحاق عشائري بالمشروع العثماني

  هوشنك اوسي 

تحتفظ الذاكرة الجمعيَّة الأرمينيَّة بالكثير عن الفظائع التي تعرضَّ لها الأرمن مطلع القرن العشرين.

ولا زال عالقاً في تلك الذاكرة، أن للأكراد دوراً كبيراً فيها.

وبعض الغلاة الأرمن، وأحياناً السريان والآشوريين في شمال سورية، أو في المهجر، ممن يظهرون بين الحين والآخر، حنقهم وغيظهم من الأكراد، محمِّلين إياهم جزءاً كبيراً من مسؤوليتَّها.

وحين تسألهم: كيف نجوتم منها؟! يردُّون بالقول: أنقذنا شخص أو عائلة أو عشيرة كرديَّة!.

وعليه، تبقى ذاكرتهم متقدَّة بوهم التورُّط الكردي، في هذه المذابح، في حين، ينسون حقيقة إنقاذ الأكراد عشرات الآلاف من الأرمن، إبان تلك المذابح الرهيبة!
لكن، ما لا يمكن التغافل عنه، أن نسبة كبيرة من الألوية الحميديَّة، (نسبة الى السلطان العثماني عبدالحميد)، التي كان لها دور في تلك المجازر، كانت من الأكراد.

والخشية، أن تسعى بعض القوى الدوليَّة، ونزولاً عند رجحان كفَّة مصالحها مع تركيا، أن تبرئ ذمَّة الأتراك العثمانيين من تلك المذابح، وتنسبها الى الأكراد، باعتبار أن الألويَّة الحميديَّة، كان الأكراد فيها فاعلين.

ناهيك عن أن بعض الجهات القوميَّة التركيَّة، بدأت تهيِّئ الأرضيَّة لاتهام الأكراد، وتبرئة قادة جمعية «الاتحاد والترقِّي» الحاكمة تركيا آنذاك، منها! خصوصاً بعد أن بدأ ملف تلك المذابح، يشهد تدويلاً.

والأسئلة المطروحة هنا: هل فعلاً اشترك الأكراد في تلك المذابح، كأكراد، مدفوعين بنوازع قوميَّة، وسعياً وراء مصالح قوميَّة؟! وقتئذ، من كان يمثِّل الشعب الكردي؟ وماذا كانوا يقولون عن تلك المذابح؟ في حقبة الحرب العالمية الأولى، وتحديداً، سنوات المذابح الأرمنيَّة، كم من الأكراد تمَّ قتلهم؟ ومن قتلهم؟ في تلك السنوات، لماذا صار مئات الألوف من الأكراد في مناطق «سرحد» في كردستان تركيا، مشرَّدين ومهاجرين ولاجئين؟ وماذا حلَّ بالذين لم يتركوا ديارهم وقراهم؟، وهل قدَّم أحدهم يومها أيَّ مساعدة لأولئك المهاجرين الأكراد؟
ولأنه لم يكن يوجد يومذاك من الأكراد، من يؤرِّخ تلك الحقبة، ولأن الأكراد لم ينتبهوا الى تدوين ذاكرة المسنين الأكراد ممن عايشوا وعاصروا تلك المذابح، يغدو صعباً التنقيب في الأرشيف الكردي القليل جداً، للكشف عن رأي ومواقف النخب الكرديَّة وقتها حيال تلك المذابح.

فكردستان تركيا، خصوصاً مناطق «سرحد» الكرديَّة، السالفة الذكر، كانت دوماً مسرحاً للحروب العثمانيَّة – الروسيَّة، التي حصدت أرواح مئات الألوف.

ومنذ مطلع القرن السابع عشر، ولغاية عام 1917، نشبت 11 حرباً بين الروس والعثمانيين، على مدى نحو 58 سنة من الاقتتال والمعارك التي أخذت طابعاً دينيَّاً، هدرت دماء المسيحيين والمسلمين، من كلا الطرفين.

وكان الجيش العثماني يضمُّ حينها الأتراك والأكراد والعرب والشركس واللاظ والأذريين والجورجيين المسلمين.

في حين، كان الأرمن والجورجيون المسيحيون، على تواصل دائم مع الروس.
وكي نطَّلع على مواقف النخبة الكرديَّة، ليس أمامنا سوى جريدة «كردستان» التي أسسها مقداد مدحت بدرخان في القاهرة في 22/4/1898، باعتبارها الجريدة الرسميَّة الناطقة باسم الشعب الكردي، وباسم الرعيل الأول من القوميين الأكراد، لأنها حملت اسم «كردستان»، وسعت الى نشر الوعي القومي بين الأكراد.

هذه الجريدة، صدرت في القاهرة، من العدد 1 وحتَّى 5، ثم في جنيف من العدد 6 حتَّى 9، بعد ضغوط من الأستانة على أسرة محمد علي الحاكمة في مصر، لإغلاقها.

ثم أعيد إصدارها في القاهرة من العدد 20 إلى 23.

وصدر العدد 24 في لندن.

ومن 25 الى 29، صدرت في فلكستون، جنوب لندن.

والعددان 30 و31، صدرا في جنيف.

والأعداد محفوظة في مكتبة «مارورك» في ألمانيا، باستثناء الأعداد (10؛ 12؛ 17؛ 18؛ 19).

ما يعني، ان هذه الجريدة (نصف الشهريَّة) صدرت من 22/4/1898 ولغاية 14/4/1902.

وكان قياس صفحتها «25,5 x 32،5».

وترأس تحريرها مقداد مدحت بدرخان، من ثمَّ شقيقه عبدالرحمن بدرخان.
في افتتاحيَّات جريدة «كردستان»، سعى رئيس التحرير عبدالرحمن بدرخان، الى التنبيه من مخاطر التورُّط في هذه المذابح، واستنكرها بشَّدة، حتَّى قبل وصولها مرحلة الذروة (1915 – 1917).

وأشار بدرخان، في افتتاحيَّة العدد 27 من الجريدة، الى أن «قائد إحدى الانتفاضات الكرديَّة عام 1880، الشيخ عبيدالله النهري، رفض الاشتراك أو إصدار فتاوى تجيز قتل الأرمن: «في محافظة «وان»، وقبل أعوام، وأثناء اجتماع عقد بأمر من الباشا، والي المنطقة، لاتخاذ قرار في شأن الأرمن، وقتها، قال الشيخ عبيدالله، الذي كان حاضراً الاجتماع: قتل الأرمن مناهض لشرع الله تعالى.

إن أمر الباشا، ظلمٌ، وعصيان على ما نهانا عنه سبحانه وتعالى.

وينبغي عزل هذا الباشا من مسؤوليَّاته، وطرده.

أمرٌ كهذا، صادر من الباشا، ليس فال خير».

والكلام لبدرخان.

وفي الافتتاحيَّة ذاتها، كتب أيضاً: «يقول لكم عبد الحميد (يذكره من دون ألقاب): إن الأرمن أعداؤكم.

وهو بذلك، يضللكم.

ألا تعلمون أن الأرمن لا يستطيعون معاداتكم؟!.

أعداؤكم، هم الدمويون الظلمة، الذين دمَّروا وطنكم في الصراع مع موسكو».

وكتب في افتتاحيَّة العدد 8 قائلاً: «أعلم أن بعض الأكراد، شاركوا في قتل الأرمن.

وإن الله غير راضٍ عن ذلك.

لقد ارتكب بعض الأكراد ذلك الذنب العظيم، نتيجة جهالتهم.

هم لم يكونوا يعلمون أن قتل الأرمن كقتل المسلمين.

وجزء من ذلك الذنب، يتحمَّله علماء الدين من الأكراد.

كان عليهم توعية جهلاء الأكراد، حقناً لدماء الأبرياء من الأرمن».
وفي افتتاحيَّة العدد 11 من جريدة «كردستان»، يدعو رئيس التحرير في مقالته إلى التعاون والتعاضد الكردي – الأرميني، قائلاً: «انظروا، كم أن الأرمن أصحاب همَّة وغيرة.

هو أيضاً مظلومون كالأكراد.

لكنهم، وفي سبيل حريتهم، يضحُّون بأنفسهم.

الجهلاء الأكراد، لا يعون ذلك، فيقتلون الأرمن.

ينبغي على الأكراد أن يبعدوا أنفسهم عن ارتكاب ذنوب كهذه، وأن يخرجوا من رؤوسهم أوامر الموظفِّين القتلة، التي تقضي بقتل الأرمن.

وبدلاً من أن تلبُّوا نجدة الأرمن المظلومين وتغيثوهم، تقومون بقتلهم!! هذا عار كبير، وذنب عظيم.

لن يرضى الله ونبيُّه الكريم عنه».

ويشير بدرخان في افتتاحية العدد 7، الى مطامع بعض القوميين الأرمن، ممن يعيشون خارج السلطنة العثمانيَّة، وكيف كانوا يودُّون إقامة وطن قومي للأرمن، على كامل رقعة شمال وجنوب شرق الأناضول، حتَّى أضنا، وأواسط الأناضول.

وكيف أن الأرمن، سقطوا في فخِّ الصراعات الدوليَّة: «الدول الكبرى، تودُّ إعطاء كردستان للأرمن.

ودمويُّنا، (قاصداً السلطان عبدالحميد)، لا يفكِّر أبداً بالأكراد.

فقط، يبحث عن راحته الشخصيَّة».

والجدير بالذكر، أنه حينها، كان ينشط حزب سياسي، «حزب الطاشناق»، يدعو الى إقامة أرمينيا الكبرى، ويقيم علاقة وثيقة بالروس، ويمارس العمل المسلح لتحقيق ذلك.

في حين، كان العثمانيون، يحرّضون العشائر الكرديَّة على الأرمن، في حجَّة حماية الدين، وأن الأرمن يودُّون أخذ أراضي الأكراد… والحقُّ، إن العثمانيين، نجحوا في استمالة بعض هذه العشائر إلى جانبهم، نتيجة المصالح والمنافع القبليَّة.

لكن، بقي الأكراد العلويون والإزيديون، وبعض السنَّة، كالأسرة البدرخانيَّة، وكل المثقفين والمتنورين الأكراد وقتها، خارج دائرة السيطرة العثمانيَّة.

هؤلاء، كانوا أصحاب نزعة قوميَّة كرديَّة، ورفضوا المثول للأوامر العثمانيَّة، القاضية بقتل الأرمن.
وكان استخدام العثمانيين للأكراد في محاربة الأرمن، يثير رفض المتنورين الأكراد، ويدفعهم للوقوف في وجه هذه السياسة.

وكتب عبدالرحمن بدرخان حول هذا الأمر في العدد 7 من الجريدة، قائلاً: «مرَّت سنوات عدة، والأرمن يتلقُّون الظلم والهوان على أيدي موظَّفي الدولة.

والأرمن يكافحون، ويبذلون قصارى جهدهم، كي يتخلَّصوا من هذا الظلم.

ومعهم كلُّ الحقّ.

الموظَّفون الآتون من اسطنبول إلى تلك المناطق، يمارسون أعمالاً مشينة بحق الأرمن.

ينبغي على الأكراد ألاَّ يقتلوا الأرمن».
العشائر الكردية التي كان لها دور في المجازر، لم تكن تعي شيئاً عن انتمائها القومي، وكتب بدرخان حول هؤلاء في العدد 8 من جريدة «كردستان» قائلاً: «الأرمن الذين ضاقوا ذرعاً بظلم الدولة، رفعوا صوتهم، مطالبين بحقوقهم، ولم يستسلموا.

ولأن الأكراد كانوا جهلة، لم يفهموا ذلك، فشارك البعض منهم، في قتل الأرمن.

وهذا ذنب كبير، يحسب على الأكراد.

أنتم أكثر مظلوميَّة من الأرمن، ولكونكم جهلة، لا تعون ذلك.

ولم ترفعوا أصواتكم، كما فعل الأرمن».
لا شكَّ في أن المذابح التي ارتكبت بحقِّ الأرمن، شارك فيها بعض العشائر الكرديَّة، نتيجة الجهل والنزعة الثأريَّة القبليَّة.

إلا أن الأرمن أيضاً، وأثناء الصراع، انزلقوا الى قتل الأكراد، بداعي الانتقام من العثمانيين.

وتورَّطوا في تقتيل مئات الألوف من الأكراد وتشريدهم.

ولم يكن يعي المثقفون والساسة الأرمن وقتها، أن الأكراد، هم أيضاً ضحيَّة مكر وخداع العنصريين الأتراك، والصراع الروسي – العثماني.

وربما كانت اللعبة الدوليَّة أكبر من الشعبين الجارين الكردي والأرميني.

فقد وظَّف الروس الأرمن عموماً، والأتراك العثمانيون، وظَّفوا بعض الأكراد.

ولاقت مذابح الأرمن، دعماً من الألمان المتحالفين مع العثمانيين، وصمتاً دوليَّاً عليها.

لأن الإمبراطوريتين الاستعماريتين، البريطانيَّة والفرنسيَّة، كانتا قد وصلتا لتفاهمات حول تقسيم التركة الجنوبيَّة، الاستراتيجيَّة اقتصاديَّاً (نفط) وحضاريَّاً (أماكن مقدَّسة)، ولم تكترثا بحال الأرمن والأكراد.

بدليل، أن الأوروبيين، تخلَّوا عن تفعيل اتفاقيَّة «سيفر» التي تجيز إقامة وطن قومي للأرمن، وللأكراد، وتبنُّوا اتفاقيَّة «لوزان» 1923، التي لم تتطرَّق الى مظالم الأرمن والأكراد، ودعمت موقف الأتراك، والجمهوريَّة التركيَّة الناشئة، وقتئذ.
في ضوء ما سلف، وعطفاً على ما كتبه رئيس تحرير جريدة «كردستان»، من أن الطبقة المثقفة والمسيَّسة، القوميَّة الكرديَّة، كانت رافضة ومنددة بتلك المذابح، وبدور بعض الأكراد فيها، وتنبَّهت لمخاطر التورُّط الدولي في تلك المذابح، ودعت الشعبين الكردي والأرميني إلى التعاون والتكاتف، لرفع الظلم والغبن عن أنفسهم، وعدم الانجرار لألاعيب العثمانيين، التي تهدف الى ضرب الشعبين ببعضهما، فإن اشتراك بعض الأكراد في تلك المذابح، جاء على خلفية النزعة القبليَّة – الدينيَّة، وبعض المنافع العشائريَّة، وفي النتيجة، سقط الشعبان، الكردي والأرميني، ضحيَّة لعبة دوليَّة، لم تدَّخر القمع بحقِّ العرب والفرس وشعوب البلقان يومها.
الصورة تعود للعام 1915 لقتلى أرمن قضوا خلال المجازر

الحياة     – 10/06/08//

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…