الحركة الكردية، بعد عام ونصف قرن: انجازات متواضعة – وآليات بحاجة للتغيير

افتتاحية جريدة الوحدة (YEKÎTÎ)

   تقترب الحركة الكردية في سوريا من الذكرى الحادية والخمسين لولادة أول تنظيم سياسي كردي, وتميّزت خلال مسيرتها النضالية الشاقة والطويلة بتاريخ حافل بالتضحيات, رافقتها انتكاسات مريرة عبّرت عنها بسلسلة من الانشقاقات التي لم تنته بعد, والتي شغلت الإنسان الكردي على مر العقود وأضعفت دفاعاته عن التعددية التي وصلت إلى درجات مفرطة لم يعد يبرّرها منطق سياسي أو تنوع اجتماعي, وبات الحديث عن المرجعية الكردية, ووحدة الصف والموقف الكرديين, يحتل الصدارة بالنسبة لكل المهتمين بهذا الشأن …

 

وفي هذا السياق, وفي إطار المعالجة, جاءت تجارب تحالفية عديدة، تحت مسمّيات مختلفة، اعتباراً من ثمانينات القرن الماضي، وحتى الآن، ورغم أهمية تلك التجارب فإن ما كان يؤخذ عليها بشكل عام، ولا يزال، هو اتخاذها لأشكال محورية وطابعها التحزّبي واصطفافاتها المبنية على أزمات تنظيمية، وتجاهلها للفعاليات الجماهيرية، وفي هذا الموضوع، فقد تدارس رفاقنا في محافلهم الحزبية السبل الكفيلة بإشراك تلك الفعاليات في الشأن السياسي العام، وتحرير القضية الكردية من الاحتكار الحزبي، ومن هنا جاء شعار (كل الجهود من أجل عقد مؤتمر وطني كردي في سوريا) يشارك فيه المستقلون الكرد ممن تمنعهم ظروفهم الخاصة من الانخراط في النشاط الحزبي، لكنهم يمتلكون مواهب وقدرات وخصوصيات اجتماعية أو ثقافية أو غيرها، تجعل منهم، ومن مشاركتهم في صياغة القرار الكردي، حاجة وطنية مطلوبة، وفي حين ظل تطبيق هذا الشعار قيد الانتظار لحين استكمال شروطه والقبول به من قبل الجميع، فإن حزبنا، ومن نفس المنطلق اقترح تشكيل مجلس عام للتحالف الديمقراطي الكردي، يتشارك فيه ممثلو الأحزاب المتحالفة مع ممثلي تلك الفعاليات التي تقر وتقبل ببرنامج التحالف وصياغة سياساته وتنفيذ قراراته، لكننا في الحالتين – حالة المؤتمر والمجلس- ، وفي الوقت الذي نؤكّد فيه على ضرورة الأول وعلى أهمية الثاني.

فإننا نعتقد بأن الآليات اللازمة لانجازهما قد تكون بحاجة إلى المراجعة والتدقيق, فالمؤتمر الوطني الكردي المنشود, يجب أن يظل برأينا مفتوحاً أمام الجميع بدون استثناء, إلا في حال من يرتضي لنفسه عدم المشاركة لأسباب خاصة به, أو لعدم اقتناعه بالعمل الجماعي, لكن ترتيب الأولويات التحضيرية قد يحتاج لتعديلات تتعلق بالتقديم أو التأخير، حسب الضرورة والإمكانية, فالآلية المعهودة سابقاً كان يفترض بها أن تبدأ بالأحزاب أولاً, واشترطت عملياً الموافقة المسبقة من قبل الجميع لتبدأ بعد ذلك التحضيرات الأخرى، مما قد يعني إقحام الإشكاليات الحزبية، التي لن تجد حلولاً بين ليلة وضحاها، في مسيرة التحضير، لتتسبب في عرقلة التقدم بهذا الاتجاه، ولذلك، ومع الإقرار بحق كل حزب، صغيراً كان أو كبيراً، في حضور هذا المؤتمر والمشاركة في أعماله بتمثيل عادل ومنصف، ألا يمكن أن نستفيد من تجارب مماثلة لحركات شعوب أخرى بدأت بالبعض وشملت فيما بعد الكل، دون أن يعني ذلك انتقاصاً من دور أحد، علماً أن ذلك حصل في بناء الإطارات القائمة، فالتحالف الديمقراطي الكردي ساهمت في بنائه بعض الأحزاب، ومن ثم أنضم إليه آخرون وانسحب غيرهم فيما بعد, ودون أن يعني أيضاً بأننا ننكر أو نرفض الإجماع الكردي في عملية الإقلاع، وهو المفضل في هذه الحالة، لكن عدالة هذا الطرح تعترضها أحياناً إمكانات التطبيق، فالواقع يثبت أننا كأحزاب ستظل تقديراتنا لأهمية مثل هذا المؤتمر المنشود ولطبيعته، ومدى استعدادنا للتضحية بالجزء من أجل الكل، وبالمصلحة الحزبية الخاصة من أجل المصلحة الوطنية العامة، ستظل متفاوتة مما تؤثر على دورنا وموقعنا وموقفنا العملي من المرجعية الكردية، التي قد لا تسمح ضروراتها ودقة المرحلة وسرعة التطورات التي تداهمنا، بالانتظار الطويل لحين حل جميع الخلافات العالقة بين الأحزاب، بما في ذلك تصفية الأجواء العكرة التي خلقتها الانشقاقات وحملات المهاترات سيئة الصيت التي تنشب بين حين وآخر، وتخلّف وراءها جروحاً ليس من السهل شفاؤها، وهو ما يحدث الآن في ساحتنا الوطنية، وما تجري معها من محاولات لإعادة ترتيب الخارطة الحزبية الكردية، ومن تطورات تستدعي العمل على إحداث اختراق سياسي وسط دخان كثيف من التشويش الإعلامي نحو الهدف المنشود، الذي يجب أن لا نحيد عنه، لأن وحدة الحركة وجماهيرها هو قدر لا بد منه، ولأن إخلاصنا لقضية شعبنا لا يقاس فقط بما نبذلها من تضحيات، بل كذلك بما نقوم بها من جهود لتوحيد نضالات أصحابها, وتوسيع دائرة الأصدقاء والمؤيدين حولها والمعترفين بعدالتها، ومن أجل ذلك يجب أن نقّر بأن الوضع الحالي غير مقبول، ونعترف بأننا قد نكون أخطأنا في اختيار السبل الكفيلة في مساعينا لتوحيد الصف الوطني الكردي, لكن ذلك لا يمنعنا من البحث عن طرق أفضل لتحقيق هذا الهدف.
فنحن، كحزب، كنا ولا نزال عضواً في التحالف الديمقراطي منذ عام 1996، انتسبنا إلى صفوفه، بغض النظر عن طبيعة وأسماء الحلفاء, ونعتقد أننا أخلصنا للتحالف, وساهمنا في تطويره وتفعيله وتدعيم موقعه وإغناء نشاطاته, ولم نتردد يوماً في الالتزام بقراراته, رغم تذمّر رفاقنا أحياناً واعتقادهم بأن وجودنا في هذا التحالف يكبل طاقات حزبنا في بعض الأحيان ويلغي خصوصيته الحزبية, بحكم الالتزام بالموقف والقرار التحالفي الذي يعتبر عادة القاسم المشترك الأدنى لتوجّهات الجميع… وكان طبيعياً، في عملنا التحالفي، أن نختلف على أمر، نعتقده صحيحاً ويراه الآخرون خطاً، أو بالعكس، وكان طبيعياً أيضاً أن يختلف هذا الحزب الحليف مع ذاك الحزب, لكن من غير المقبول أن يطالبنا الآخرون بالمشاركة في مهاترات تورطوا فيها، أو أن نترك التحالف لمجرد أن حزباً آخر انسحب منه، فنحن لم نتهجّم يوماً على أحد، حتى على الذين أساؤوا لحزبنا، فكيف نسيء إلى حزب حليف.؟ وهذا لا يعود فقط لحرصنا على أخلاقيات العمل التحالفي، بل كذلك لحرصنا على سلوكيات رفاقنا وعلى حمايتهم من الانحراف في مواجهة التناقض الأساسي مع السياسة الشوفينية, كما يعود إلى أننا، كأحزاب وإطارات، نعتبرها أدوات يجب أن تتطور وتتغيّر بما يمنحها القدرة على خدمة قضية شعبنا.

ولذلك ومن خلال تقييمنا لتوزع القوى الكردية الحالي ضمن الإطارات القائمة،التي يعتبر منها التحالف، بكل ما له وما عليه، تجربة وحدوية تستحق الاهتمام، فإننا رأينا منذ فترة من الزمن، بأن تلك الأطر لم تعد قابلة للتوسع والتطور، أو قادرة على التوحّد فيما بينها لأسباب لا مجال لذكرها الآن، لكن مع ذلك ليس من الحكمة التفريط بها، لأن ذلك من شأنه أن يعيد الوضع الحركي الكردي إلى حالة التشتت، ويتسبب في تزايد حالة الإحباط, ولذلك فقد كان توجّهنا ولا يزال هو صيانة التحالف الممكن، دون التفكير ببناء أي تحالف حزبي آخر، لحين توفير الشروط اللازمة من أجل إيجاد البديل الأفضل الذي نطلق عليه اسم المرجعية الكردية, والعمل من خلال التحالف على استنهاض طاقات الجماهير الكردية وتشجيع انخراط المستقلين في مجالسه المحلية في مختلف المناطق وتطوير عمل المجلس العام، واستحداث لجان تخصصية في مختلف المجالات, والتعامل مع بقية الأطراف ضمن التحالف وخارجه لإزالة العراقيل وإعادة الثقة المتبادلة, تعزيزاً للعمل الكردي المشترك وصولاً لبناء ممثلية كردية قادرة على التعبير عن إرادة شعبنا وتنظيم طاقاته وتصعيد نضاله من أجل انتزاع الاعتراف الدستوري بوجوده وما يترتب على ذلك من حقوق، وإنقاذه من حالة اليأس السائدة، التي لا تأتي فقط من انعكاسات حالة التشرذم داخل الحركة، ومن بروز ظاهرة الشك والتشكيك والتوتر والمهاترات بين أطرافها, بل تأتي كذلك من عدم تمكن هذه الحركة حتى الآن من تحقيق إنجاز ملموس لأحد أهدافها, تعيد به الثقة للعمل السياسي وتسهّل مهمة انخراط الجماهير الكردية في العمل النضالي, وهو ما تدركه السياسة الشوفينية وتعمل به على منع الحركة الكردية من إحداث أي اختراق لسياستها القائمة على حرمان الشعب الكردي حتى من حق الاعتراف بالوجود بناء على قناعتها بأن أي تراجع عن تلك السياسة, سوف يفتح الأبواب على مصراعيها أمام تراجعات أخرى تفضي بالنهاية إلى تمتّع الشعب الكردي بكامل حقوقه في إطار وحدة البلاد.
——-
* الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)– العدد (178) أيار 8 200م

لقراءة مواد العدد انقر هنا  yekiti_178

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…