كان قدر سوريا، بحدودها الرسمية، أن تكون إحدى تكوينات خارطة سايكس- بيكو عام 1916، التي قسّم بموجبها شرق المتوسط بين فرنسا وبريطانيا، وأن يصبح مواطنوها الحاليين، من عرب وكرد وأقليات قومية، شركاء في وطن يحملون شرف الانتماء له، ويتحملون مسؤولية الدفاع عنه ضد كل طامع ومحتل، وعلى هذا الأساس، وانطلاقاً من مبدأ الشراكة الوطنية، تعاهد الجميع على خوض معارك الاستقلال التي عمّت مختلف المناطق السورية، وتضافرت فيها جهودهم، واختلطت دماء شهدائهم ليتحقق الجلاء، وينعم الوطن المشترك بالحرية، وتوزّع فيه المسؤوليات الجديدة حسب الكفاءة والإمكانيات، ويتقدّم الولاء للوطن على أي ولاء آخر
واستمر هذا الوضع خلال السنوات الأولى لعهد الاستقلال، حيث لم يكن أحد يميّز بين رئيس جمهورية من أصل كردي ورئيس حكومة مسيحي وبين نظيريهما من العرب وغيرهم، ولم يكن أحد يفكّر أيضاً في شطب الآخر المختلف قومياً ودينياً وسياسياً أو إلحاقه بالقوة، لكن مع الزمن برزت نزعة الإقصاء والاستعلاء عند بعض أحزاب القومية السائدة التي تصرفت بمنطق الأكثرية في الشطب على كل ما هو غير عربي، بهدف صهر القوميات الأخرى، وفي المقدمة منها الكرد الذين سعوا بالمقابل للمحافظة على مقوماتهم القومية وحقائقهم التاريخية التي كان يجب استيعابها وتفهّمها من قبل الطرف الآخر، وتنامت تلك النزعة الشوفينية بين الأوساط الحاكمة، ليتم ترجمتها إلى سياسات ومشاريع عنصرية وقوانين استثنائية، والى قمع ممنهج على يد الأنظمة المتعاقبة، والى تجاهل متعمّد للحق والوجود الكردي، حتى من قبل بعض أطراف المعارضة الديمقراطية، والتي رغم بقائها محاصرة من قبل السلطة ومنهكة بالأحكام العرفية في ظل قانون الطوارئ المعمول به منذ عام 1963، فإنها لم تستطع أن تتفهّم، حتى عهدقريب، الجوهر الوطني الديمقراطي لطبيعة القضية الكردية، وظلّت العديد من أطرافها تتعامل بمزيد من التشكيك في عدالتها ومشروعيتها.
وبين هذا وذاك، بين سياسة الاضطهاد التي تمارسها السلطة، وسياسة التجاهل التي مارستها المعارضة سنوات عديدة، خلقت ظروف غير صحية نمت فيها نزعات انعزالية في الوسط الكردي لم تميّز أحياناً بين العرب، كشعب وثقافة، وبين الأنظمة الحاكمة، وتجسدت في شعارات يفترض بها أن تستمد شرعيتها ليس فقط من عدالتها، بل كذلك من إمكانات تطبيقها، من جهة، ومن الحقائق التاريخية والجغرافية من جهة ثانية، ولاقت هذه النزعة الرعاية من قبل السلطة بهدف استثمارها في تشويه القضية الكردية واستعداء الرأي العام الوطني السوري، وخلق حالة من التشنج والانفعال غير المبرر تدفع معها المثقفين والنخبة العربية الأكثر تفتحاً حيال الحقوق القومية الكردية إلى الاصطفاف مع أنظمتها، وتضعف قدرتها على مواجهة السياسة الشوفينية المنتجة من قبل السلطة، مما يعني بالتالي حرمان القضية الكردية من عمقها الوطني باعتبارها قضية وطنية بامتياز،
وهذا يتطلب بالمقابل من الحركة الكردية أن تتصرف كجزء من الحركة الوطنية السورية، والانخراط في النضال الديمقراطي العام لإنجاز مهمة إدراج القضية الكردية بين القضايا الوطنية التي تتطلب حلولاً عادلة وعاجلة، والعمل على إبراز حقيقتها وكسب المزيد من الأصدقاء والمناصرين حولها، والتوجه نحو الرأي العام السوري بخطاب وطني يعتبر أن إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية لا ينصف فقط الشعب الكردي، ويلبي مقومات وشروط الشراكة الوطنية، بل، أنه كذلك، يدعم الوحدة الوطنية ويزيل العراقيل أمام تقدم وطننا المشترك، وبذلك يتحرر المواطن الكردي من الغبن ليشعر بأنه سوري بقدر ما هو كردي، وبأن التمسك بانتمائه القومي والوطني السوري لا يعيبه كمواطن، وبأنه أيضاً لن يصبح معرباً، مثلما يريد له دعاة التمييز، وان هذا الانتماء لا يسيء لمصلحة الوطن ولا الى كرامة العرب وحريتهم، بل العكس تماماً، فإنه يضيف لوناً جديداً إلى ألوان اللوحة الوطنية الجميلة، ويغني ثقافة هذا البلد العريق، ويحصّن جبهته الداخلية، ويعزز مهام التصدي لكل المخاطر والضغوطات الخارجية، التي تواجهها سوريا، التي لا يمكن الحديث عنها كوطن دون الحديث عن مكوناتها المتشاركة، وعن مواطنين يملؤهم شعور الانتماء له، ويشعرون بواجب الدفاع عنه والتضحية في سبيله عندما تكون حقوقهم مصانة، فالتوازن بين الحقوق والواجبات يعتبر المعيار الأساسي للمواطنة الصحيحة، وتجارب شعوب وبلدان المنطقة غنيّة، بما يكفي، للاستدلال على عجز وفشل سياسات اللون الواحد والحزب الواحد والشطب على طموحات الآخر في التقدم، بل بالعكس، فإن مثل تلك السياسات جلبت لها الدمار، ففي العراق كان غلاة القوميين العرب يتهمون الحركة الكردية في إقليم كردستان بالانفصالية، لكن التطورات أثبتت أن إرادة الولاء للوطن الواحد انتصرت في النهاية، ويمكن أن نتساءل الآن: ماذا خسر العراق بإقرار الفيدرالية هناك سوى تحرير القيود لينطلق الأكراد إلى بغداد للمساهمة في بناء العراق الجديد واستعادة وتعزيز وحدته ؟؟؟ وماذا خسر الجزائر أيضاً، بعد الاعتراف بالأمازيغ، كشعب يصل تعداده إلى 10 ملايين نسمة، له خصوصيته القومية يسمح له الآن بسماع أغانيه وبرامجه في الإذاعة الرسمية بعد أن استقرت الأوضاع، وهدأت الاضطرابات في منطقة القبائل، وكذلك في جنوب السودان بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها وتفرّغ الجميع للعمل والبناء بعد الاعتراف المتبادل بالتنوع القومي والديني.
وبالمقياس نفسه، ماذا ستخسر سوريا من إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية،؟ وماذا سوف تخسر من غياب سياسة الحزب الواحد، وإقرار مبدأ تداول السلطة وحرية التعبير ومن استعادة وتنشيط الحياة السياسية وتنظيم قانون عصري للأحزاب ؟.
أمام هذه التساؤلات لا يوجد شك بأن سوريا لا تقع خارج الكرة الأرضية التي لفّتها رياح التغيير، وأنها، كغيرها من دول العالم، سوف تجد ما يجب تغييرها من ممارسات وسياسات عفا عليها الزمن، ومنها بالتأكيد قضية حقوق الإنسان الذي لم تعد مسألة حرمانه، بأي شكل كان، شاناً مقبولاً، بما في ذلك الإنسان الكردي، الذي باتت مختلف القوى الديمقراطية الغيورة على مصلحة هذا البلد تدرك جيداً بأن ما يدور حولها وفي العالم من التطورات لم تعد معها سياسة الإنكار المتعمّد لوجوده، كشعب تمتد جذوره في المنطقة، تصمد في مواجهة الحقائق التاريخية وأمام سمات عصر التغيير، ولذلك وفي ذكرى استحضار روح الجلاء، فإن إعلان دمشق، الذي انطلق في وثيقته الأساسية من التصدي لمهمّة التغيير الديمقراطي السلمي المتدرج، ويسعى إلى بناء دولة الحق والقانون، يسجّل له بأنه يستعيد بذلك ما تعاهدت عليها القوى التي صنعت الاستقلال من شراكة وطنية تقر بأن سوريا يجب أن تكون للجميع، وبأن الشعوب تدافع عن أوطانها عندما تشعر بأنها مسؤولة عنها، وشريكة في صياغة قراراتها، وصاحبة مصلحة في الدفاع عنها من خلال احترام وصيانة حقوق هذا الجميع المتحد.
——
* الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)– العدد (177) نيسان 8 200م