لبنان مفتاح السلم والحرب في المنطقة

الدكتور عبد الحكيم بشار

لبنان هذا البلد الصغير ، والذي كان فيما مضى وخلال عقود من الزمن ، وحينما كانت المنطقة العربية والشرق الأوسط تعج وتتزاحم بالأنظمة الاستبدادية ، والشمولية ، وتفتقر لأبسط مبادئ الديمقراطية ، كان لبنان المتنفس الوحيد لمثقفي شعوب المنطقة وإعلامييها وسياسيها الذين يعارضون الاستبداد ،كان  لبنان واحة للحرية والديمقراطية ، والرئة التي تتنفس منها شعوب المنطقة ، والنافذة التي تطل من خلالها على العالم ، وجسراً للتواصل فيما بينهم
لقد سمي لبنان بسويسرا الشرق الأوسط ، وكان لبنان المنبر الإعلامي الحر والمستقل الوحيد في المنطقة ، كان لبنان الدولة الوحيدة التي يتم تداول السلطة فيها سلمياً من خلال انتخابات تشريعية مع سقف زمني محدد لرئيس الجمهورية ، وصلاحيات يستمدها من الدستور ، بلد تتعايش فيه كل الأفكار والعقائد والأيديولوجيات بوئام وسلام ومحبة ، بلد ينعم بالاستقرار الذي قلما نجد مثيلاً له ، لذلك كان الوضع اللبناني ذا أهمية استراتيجية ليس للشعب اللبناني ، بل لجميع شعوب المنطقة التواقة إلى الحرية والديمقراطية ، وقد أدركت حكومات المنطقة هذه الأهمية الاستراتيجية ، ومدى ما قد يشكله النموذج اللبناني من خطر على عروشها وسلطانها ، لذلك بدأت التدخلات الإقليمية في لبنان من كل حدب وصوب ، وكان الهدف الأساسي منها في البداية الإجهاز على التجربة الديمقراطية الفريدة في المنطقة ، وبتعدد التدخلات (الجهات التي تدخلت في لبنان) وتنوع أجندتها رغم اتفاقها على شيء جوهري (الإجهاز على التجربة الديمقراطية الفتية).
فقد أفرزت هذه التدخلات واقعاً جديداً، واقعاً اتسم بالتوتر والاحتقان والتصعيد بدلاً من التفاعل والتلاقح والتمازج الثقافي والإعلامي والسياسي ، وقد أدى هذا التصعيد إلى تغيير جذري في المفاهيم لدى بعض اللبنانيين (وهذا كان الهدف المطلوب) مما دفع الأمور باتجاه حرب أهلية شرسة استمرت لسنوات ، وبعد إيقاف الحرب الأهلية من قبل الدول العربية وبمساعدة العالم ، لم تتوقف الحرب الإعلامية والمعارك السياسية ، وقد تم تغذيتها باستمرار من قبل دول المنطقة وحكوماتها ، وبات كل طرف لبناني جزءاً من منظومة إقليمية فكرياً وسياسياً وعقائدياً ، وبذلك تحقق التغيير السلبي في لبنان على ايدي حكومات المنطقة ، وباتت كل الدول تنقل صراعاتها إلى لبنان لتصفية حساباتها على حساب الشعب اللبناني ومن خلال الشعب اللبناني حتى بات لبنان يشكل الجبهة الأمامية وخط التماس المباشر لمعظم الصراعات الإقليمية وخاصة الاستراتيجية منها ، وبات لبنان يشكل مفتاح السلم والحرب في المنطقة ليس بسبب قدرات الساسة اللبنانيين وتأثيراتهم على دول المنطقة ، بل بسبب ارتباطهم الكامل مع أجندة دول المنطقة ، لذلك فإن أي انفراج في العلاقات الإقليمية يقابله انفراج في الوضع الداخلي اللبناني ، وبالعكس أي تصعيد للتوتر الإقليمي يقابله تصعيد في الوضع الداخلي اللبناني ، ومن هنا بات لبنان يشكل المرآة الحقيقية للأوضاع الإقليمية ، وتطورات الأوضاع فيه مرهونة بالتطورات الإقليمية ، ولكن هذا لا يعني أن الدول الإقليمية يمكن أن تنأى بنفسها إذا خرجت الأوضاع من تحت السيطرة في لبنان ، بل ستمتد تداعياتها إلى كل الدول الإقليمية وقد تكون كارثية ، لذلك فإن من يسعى إلى تصعيد التوتر وتخفيفه في لبنان عبر إيقاعات معينة يجب أن يدركوا أن هناك دولاً أخرى لها إيقاعاتها الخاصة بلبنان ، وأن أي خطأ في الحسابات ولو كان بسيطاً قد يدفع الأمور باتجاه لا يحمد عقباه ، لذلك فإن الرهان على ضبط الإيقاعات في لبنان عملية غير دقيقة  ومحفوفة بالمخاطر ، وإن أفضل الرهان للدول الإقليمية هو ترك لبنان وشأنه ليقر لبنان وشعبه وبدون أي تدخلات إقليمية أو دولية مصيره بنفسه ، وليعود لبنان كما كان سابقاً بلد الديمقراطية والحريات العامة بمختلف ألوانها.

10/4/2008

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…