الحركة الوطنية الكردية والمهام المنسية أو الغائبة

الدكتور عبد الحكيم بشار

يعاني المجتمع الكردي في سوريا من تخلف اقتصادي واجتماعي ، يتجلى جانبه الاقتصادي في انتشار الفقر بشكل واسع وتدني مستوى المعيشة دون خط الفقر بنسبة أكثر من 50% ، وكذلك اعتماد الاقتصاد فيه بالدرجة الأولى والأساس على الاقتصاد الزراعي وخاصة البعلي منه ، رغم وجود بعض الوسائل الحديثة في الزراعة والري التي لا تشكل أكثر من 10-15% من مجموع الزراعة في المناطق الكردية
والاقتصاد الزراعي معروف بأنه اقتصاد متخلف خاصة تلك الزراعات التي تفتقر إلى الوسائل الحديثة للزراعة والري وندرة النشاطات الأخرى الصناعية والتجارية أو وجودها بوتائر ضعيفة ، وكذلك التخلف الاجتماعي الذي هو وليد للإنتاج الاقتصادي وطريقته ووسائله واستمرار معظم القيم العشائرية ومفاهيمها والتي انتعشت في الآونة الأخيرة بشكل ملفت هذه القيم والمفاهيم التي كانت في منتهى الإيجابية في مرحلة زمنية سابقة ، ولكن ومع تطور الحياة والحضارة وتفتح عقل الإنسان وتواصله المباشر مع الحضارة عبر وسائل الاتصال المختلفة ومع تغير اتجاه التفكير والحياة برزت الحاجة ماسة إلى إيجاد قيم وعادات تتناسب مع المرحلة مع الاحتفاظ بالمفاهيم الإيجابية للمراحل السابقة والتخلي عن السلبية منها مثل (الثأر ، الانتقام ، غياب الديمقراطية في مفهوم العشيرة ، والولاء المطلق للعشيرة ورئيسها ، غياب دور المرأة واعتبارها ملكية خاصة يمكن التصرف بها كما يشاء ، انعدام قيمة الوقت والزمن ، تحديد مكانة الإنسان في المجتمع حسب انتمائه العشائري وترتيبه في العشيرة ، وليس حسب الكفاءات والمؤهلات والثقافة ودرجة الوعي الذي يتمتع به شخص معين ، وبمعنى آخر هامشية دورالكفاءات والعلم والمعرفة ، الفوضى الاقتصادية والهدر غير المبرر) وغيرها من المفاهيم ، لسنا بصدد ذكرها وتحليلها جميعاً ، ولكنها لاتزال تشكل منظومة قيمية ومفاهيمية تؤثر تأثيراً فاعلاً في المجتمع الكردي تتناقض أو على الأقل لا تتماشى مع تطلعاتنا لبناء مجتمع مدني متحضر في منظومته القيمية عنوانه الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
وفي هذا الصدد يجب أن نوضح نقطتين أساسيتين تشكلان عاملين مهمين للتخلف الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الكردي:
الأولى : إن سوريا كدولة تنتمي إلى العالم الثالث وبالتالي تعيش في منظومته القيمية وأشكالها الإنتاجية والاقتصادية بشكل عام.
الثانية : إن الشعب الكردي محروم من حقوقه القومية المشروعة ، وبالتالي لا يملك إدارة نفسه بنفسه ، وبالتالي لا يملك الخيار الأساسي والقوة المؤثرة لتحديد خيارات المجتمع الكردي ، هذه الخيارات التي تفرضها السلطة بمزيد من التخلف الاقتصادي والاجتماعي وإشاعة القيم والمفاهيم العشائرية بأشكالها وألوانها بغية عرقلة تطوره وبالتالي سهولة التحكم فيه وإدارته بالشكل الذي يخدم توجهات السلطة.
ومن هنا يبرز دور الحركة الوطنية وواجبها في التصدي لجملة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الكردي ، فالحركة – أي حركة سياسية – السياسة لديها ليست هدفاً بحد ذاته ، وإنما وسيلة وأداة غايتها تحقيق برامج معينة ، اقتصادية ، اجتماعية ، ثقافية ، إنسانية ، قومية … إلخ ولا يمكن لأي حركة ممارسة السياسة بمعزل عن أشكال النشاطات الأخرى ، بل تعتبر في صلب برامجها والعناوين التي تؤثر من خلالها في هذه الشريحة أو تلك ، من خلال تعبيرها عن طموحاتها القريبة والبعيدة.
والحركة الكردية في سوريا هي حركة قومية ووطنية ولكنها لا تستطيع ممارسة السياسة بمعزل عن الأجندة الأخرى الاجتماعية ، الثقافية ، الاقتصادية ، لأنها تعيش في مجتمع لابد أن تتفاعل معه في مختلف جوانب حياته ، لذلك لابد أن تكون لها برامج وسياسات واضحة للتفاعل مع الجوانب الأخرى من المجتمع الكردي (الجوانب غير السياسية).
ولعل في تجارب أبناء جلدتنا خير قدوة وخير مثال ، فثورة أيلول المجيدة بقيادة البارزاني الخالد كانت لديها قوات مسلحة ضد طغاة بغداد ، ولكنها لم تكن تقتصر على تجنيد البيشمركة ومقاتلة الطغاة ، بل كانت لديها برامج اقتصادية واجتماعية وثقافية ، فالتعليم كان يتم في الكهوف والمغاور والقصبات الحرة ، ويتم فتح المدارس بمختلف مراحلها ، وكان هناك اهتمام متزايد بالاقتصاد والقضايا المعاشية للمواطنين ، وكذلك كانت هناك محاكم لحل كل القضايا الاجتماعية والخلافية ، وكان للمرأة نصيبها من الاهتمام عبر تحديد المهر ومنع حالات الزواج بالإكراه وغيرها من الأمور التي تهم المرأة ، وأيضاً حتى قضية البيئة وحمايتها كان للثورة قرارات وتوجهات نحوها ، أي أن الثورة الكردية اهتمت بجميع قضايا المجتمع الكردي وعملت على تطويره وتحسينه ، إلا أن مما يؤسف له أن الحركة الكردية في سوريا رغم أن جداول اجتماعاتها تتضمن إضافة إلى الوضع السياسي ، الأوضاع التالية : الوضع الاجتماعي ، الوضع المالي … إلخ لا يوجد في برامجها وفي ممارساتها أي اهتمام بالجوانب الأخرى للمجتمع الكردي ، وهناك سؤال قد يطرح نفسه وهو أن الحركة الكردية لا تدير المناطق الكردية ، لذلك لا يمكن وضع برامج حول ذلك والإشراف على تنفيذها وهو سؤال مشروع ولكن هل يجب على الحركة أن تقف مكتوفة الأيدي وتترك المجتمع يحدد خياراته بدون دليل أو مرشد أو وفق ما تفرضه السلطة عليها من أجندة.
إنني أعتقد أن الحركة يمكن أن تقوم بالكثير الكثير رغم عدم وجود هيئة تشريعية وقوة تنفيذية لديها ، وأستعرض على سبيل المثال لا الحصر المواضيع التالية:
أولاً – على الصعيد الاجتماعي: تحدثت عن واقع المجتمع الكردي ودرجة تطوره التي أملتها مجموعة عوامل ذاتية تتعلق بدرجة تطور المجتمع الكردي والبنى العشائرية والقيم والمفاهيم المنبثقة عنها وعن العوامل الموضوعية التي تفرضها السلطة بغية بقاء المجتمع الكردي متخلفاً وبالتالي سهل السيطرة والانقياد ومن هنا يأتي واجب الحركة وقادتها وكوادرها وذلك بالاهتمام المتزايد بالوضع الاجتماعي وجعله أحد الركائز الأساسية لأجندته وتحرك عناصره ، وذلك عن طريق نشر الوعي والثقافة المدنية القائمة على احترام الإنسان لإنسانيته أولاً ولدرجة وعيه ومعرفته وثقافته ثانياً ولمدى استعداده لخدمة قضيته القومية الوطنية ثالثاً ومدى استعداده وقدرته على خدمة تطوير وتحديث مجتمعه ومحاربة كل القيم والمفاهيم التي تلحق الضرر بالمجتمع وتفتته وتزرع فيه الأحقاد والضغائن (كالثأر ، الانتقام ، السلم الاجتماعي المبني على العشائرية وقيمها) ولكن مما يؤسف له أن الحركة تجاهلت نهائياً البعد التنويري المدني لنشاطها الاجتماعي إن لم تكن قد تخلت عنه وتمارس نشاطات اجتماعية ثانوية بفعالية متزايدة ومنافسة شرسة بين أطرافها وهي (قضية التعازي) والمشاركة فيها ، حيث أن جل نشاطها الاجتماعي مختزل في قضيتين أو نقطتين أساسيتين:
1-  قضية التعازي حيث تشارك فيها جميع الفصائل بفعالية على مستوى السكرتير أو المكتب السياسي حيث يبلغ حجم المشاركة أكثر من أربعين تعزية في شهر واحد على الأقل.
2-      قضية العزائم وتبادلها بين الوجهاء وقادة الحركة
ورغم أن من واجب الحركة هو المشاركة والتواصل مع المجتمع الكردي في أفراحه وأتراحه ، ولكن أن يقتصر التواصل على هذا الجانب فقط والذي يستهلك الكثير من الوقت والمال وترك القضايا التنويرية التي تساهم في تطوير المجتمع الكردي وتؤسس لنمو وبناء منظومة قيمية سليمة تتماشى مع تطوير الوعي الإنساني هو الذي يثير التساؤل الذي يجب الوقوف عليه ، فهل أن الحركة لا تريد للمجتمع الكردي أن يتطور لكي لا يتجاوزها ؟ أم أن لديها العجز الكامل للخوض في هذه القضايا وبالتالي يقتصر نشاطها الاجتماعي (أين هي البرامج الاجتماعية التنويرية للحركة) بل يختزل في قضية التعازي وفيها يقوم قادة الحركة بدور وجهاء العشائر قبل عقود من الزمن بل يبدو الاهتمام بهم في الكثير من الأحيان اقل بكثير من الوجهاء السابقين وحتى الحاليين.
ثانياً – على الصعيد الاقتصادي : تشهد المناطق الكردية بشكل عام إنتاجاً وفيراً من المواد الزراعية (القمح والشعير والعدس والقطن والزيتون والحمضيات والكمون) والتي تشكل مبيعاتها أرقاماً مهمة تعادل عشرات المليارات من الليرات السورية والتي لو استثمرت بأشكال اقتصادية إنتاجية متنوعة لساهمت في تطوير الاقتصاد في المناطق الكردية ، ولكن مما يؤسف له أن المناطق الكردية رغم أنها من أغنى المناطق من حيث الإنتاج فإنها من أفقرها من حيث الدخل وتدني مستوى المعيشة وعدم الاستقرار الاقتصادي ، وإذا كانت الدولة تمارس سياسة اقتصادية سلبية تجاه المناطق الكردية تتجلى في حرمانها من العديد من المنشآت والمصانع والتي تعتبر المناطق الكردية من أفضل المناطق لها سواء لجهة توفر المواد الأولية ، أو لجهة توفر الأيدي العاملة الرخيصة ، ومزايا أخرى ضرورية للصناعات لا داعي لذكرها في هذا المجال ، ولكن هل يجب ترك الأمر على ما هو عليه الآن ؟ أم أنه يمكن التدخل عن طريق الحركة والمساهمة في تحقيق مقبول للاستقرار الاقتصادي عن طريق التوعية والإرشاد حيث يمكن إبداء الملاحظات التالية :
1-      ازدياد نسبة الهدر اللامبرر للاقتصاد من قبل أغنياء الكرد على المسائل الشكلية والوجاهة.
2-      دفع كميات متزايدة من الأموال لمختلف الجهات الرسمية على شكل هدايا وهبات.
3-  ندرة المنشآت الخاصة (أي أشكال لإنتاج السلع الأخرى) وبالتالي يضطر سكان المناطق الكردية إلى شراء كل مستلزماتها من المحافظات الأخرى (ألبسة، أغذية … إلخ) وبالتالي ضخ كل رؤوس الأموال باتجاه المحافظات الأخرى مما يخلق عجزاً في التبادل التجاري مع المحافظات الأخرى.
إن الحركة الكردية يمكن أن تقوم بدور مهم في هذا الإطار وذلك عن طريق التوعية والإرشاد ووضع برامج اقتصادية جزئية والسعي إلى إقناع الأغنياء الكرد للقيام بها ولتنفيذها ويمكن إيضاح ذلك بما يلي:
1-  إقناع الأغنياء الكرد بالتخلي عن الهدر اللامبرر للاقتصاد من قبيل الوجاهة والشكليات والتركيز على أن احترام المجتمع للشخص يزداد بما يقدمه هذا الشخص من خدمات لمجتمعه وفقرائه بمختلف الطرق وليس بالتبذير الذي يمارسه والذي يدل على الجهل والتخلف.
2-  إقناع الأغنياء الكرد بالتخلي عن تقديم الهبات والهدايا للجهات الرسمية وتوجيه هذه الأموال باتجاه الفقراء من أبناء شعبنا ومساعدتهم .
3-     تشجيع إقامة المعامل والمنشآت الخاصة لإنتاج مختلف السلع وذلك لتحقيق عدة أغراض وأهداف:
أ‌-     استقطاب المزيد من الأيدي العاملة التي تساهم في الاستقرار الاقتصادي
ب- التحول من مناطق مستهلكة لكل السلع إلى مناطق منتجة لها .
ج- تحقيق تراكم الرأسمال لدى الأغنياء الكرد .
4- تشجيع إقامة المشاريع المشتركة بين الأغنياء الكرد لإقامة معامل ومنشآت ذات جدوى أفضل وأقوى تمكنها من المنافسة في السوق السورية
5- تشجيع ظاهرة المشاريع المعيشية الأسروية ذات رؤوس الأموال الصغيرة بشكل واسع حيث يساهم الغني برأس ماله والفقير بعمله ، هذه المشاريع التي قد تشمل مئات الدكاكين الصغيرة سنوياً وآلاف رؤوس الأغنام ومئات الأبقار وغيرها من المشاريع التي هدفها إعالة أسرة واحدة ولو بشكل متواضع ، هذه المشاريع سوف تحقق عدة أهداف:
آ- إيقاف هجرة أبناء شعبنا من مناطقه إلى المحافظات الأخرى.
ب- المساهمة في الاستقرار الاقتصادي.
ج- تحقيق أعلى درجات التعاون الاجتماعي الاقتصادي والتآلف بين شرائح أبنا شعبنا.
إن تركيز الحركة على هذه الجوانب عبر برامج توعية مدروسة ومنظمة وتسخير جهد كبير ومتزايد لها بدلاً من ضياع الوقت في جوانب أخرى لا تعود بأي نفع للمجتمع أو للحركة سوف يساهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وبالتالي السكاني للمناطق الكردية وتراكم رؤوس الأموال وزيادة أوجه التعاون وزيادة الثقة بين الحركة وأبناء شعبنا.
ولكن مما يؤسف له أن الحركة بدلاً من قيادة المجتمع وتوعيته فإنها هي الأخرى تركض وراء الشكليات والوجاهات ولا يوجد في برامجها من الناحية الاقتصادية والمالية والاجتماعية سوى تلك الأرقام المتعلقة بالاشتراكات والتبرعات ومصاريف الهيئات ، ورغم العجز الذي تعانيه معظم الفصائل فإنها لا تستطيع أن تغطي العجز لديها بسبب غياب أية برامج اقتصادية ومالية لديها الأمر الذي يضعف دورها وأداءها إلى جانب الأسباب الأخرى لهذا الضعف.
لقد آن الأوان للحركة أن تعيد النظر في مجمل برامجها ونشاطاتها وأساليب تعاملها مع مجتمعها عبر العديد من الإصلاحات داخل الحركة والعمل على تهيئة الكوادر والقيادات القادرة على استيعاب المرحلة وخدمة القضايا المختلفة للمجتمع الكردي الاقتصادية والاجتماعية والتنويرية……

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين نحن في حراك ” بزاف ” أصحاب مشروع سياسي قومي ووطني في غاية الوضوح طرحناه للمناقشة منذ اكثر من تسعة أعوام ، وبناء على مخرجات اكثر من تسعين اجتماع للجان تنسيق الحراك، وأربعة لقاءات تشاورية افتراضية واسعة ، ومئات الاتصالات الفردية مع أصحاب الشأن ، تم تعديل المشروع لمرات أربعة ، وتقويم الوسائل ، والمبادرات نحو الأفضل ،…

أحمد خليف أطلق المركز السوري الاستشاري موقعه الإلكتروني الجديد عبر الرابط sy-cc.net، ليكون منصة تفاعلية تهدف إلى جمع الخبرات والكفاءات السورية داخل الوطن وخارجه. هذه الخطوة تمثل تطوراً مهماً في مسار الجهود المبذولة لإعادة بناء سوريا، من خلال تسهيل التعاون بين الخبراء وأصحاب المشاريع، وتعزيز دورهم في دفع عجلة التنمية. ما هو المركز السوري الاستشاري؟ في ظل التحديات…

خالد ابراهيم إذا كنت صادقًا في حديثك عن محاربة الإرهاب وإنهاء حزب العمال الكردستاني، فلماذا لا تتجه مباشرة إلى قنديل؟ إلى هناك، في قلب الجبال، حيث يتمركز التنظيم وتُنسج خططه؟ لماذا لا تواجههم في معاقلهم بدلًا من أن تصبّ نيرانك على قرى ومدن مليئة بالأبرياء؟ لماذا تهاجم شعبًا أعزل، وتحاول تدمير هويته، في حين أن جذور المشكلة واضحة وتعرفها جيدًا؟…

عبدالحميد جمو منذ طفولتي وأنا أخاف النوم، أخاف الظلمة والظلال، كل شيء أسود يرعبني. صوت المياه يثير قلقي، الحفر والبنايات العالية، الرجال طوال القامة حالقي الرؤوس بنظارات سوداء يدفعونني للاختباء. ببساطة، كل تراكمات الطفولة بقيت تلاحقني كظل ثقيل. ما يزيد معاناتي أن الكوابيس لا تفارقني، خصوصًا ذاك الجاثوم الذي يجلس على صدري، يحبس أنفاسي ويفقدني القدرة على الحركة تمامًا. أجد…