لكم المجد يا شهداء نيروز وسوريا

صالح بوزان

لم يدفع أحد من الأكراد القضية الكردية إلى الأمام بقدر شهداء هذه الحركة.

وللأسف كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لإفشال أهداف الظلم المنظم ضد الأكراد، ومحاولات زرع اليأس في نفوسهم لكي يتعودوا على الاستعباد ويقبلوا الانحلال في القوميات الأخرى.

كانت دماء الشهداء هي التي تجعل نار القضية الكردية تبقى متوهجة رغم كل الفظائع التي مارستها القوى الشوفينية ضد الشعب الكردي منذ أكثر من قرن.

واليوم تنير دماء هذه الكوكبة الجديدة من شباب قامشلو في نيروز 2008 وعورة طريق الحرية والمساواة والسلم والتآخي، بل طريق سوريا الجديدة.
إن السؤال الذي يستوجب الإجابة عليه, لماذا تصرفت السلطات السورية الأمنية بهذا الشكل الدموي في قامشلو؟ وهي تعرف من تجربتها أنه عندما لا تتدخل في شأن نيروز تجري الاحتفالات بشكل سلمي دون أية حوادث، كما كان الحال في احتفالات كوباني (عين العرب) وعفرين والرقة وحي الأكراد (ركن الدين بدمشق).

ألا يعني هذا أن المسبب الأساسي للمشاكل, ولاسيما الدموية تتحملها الأجهزة الأمنية وليس الأكراد؟.


روى لي صديق أشوري (لا أريد ذكر الأسماء هنا) أنه دعا في أحد السنوات مسؤولاً في حزب الاتحاد الاشتراكي الناصري المعارض للذهاب معه إلى عيد نيروز، وعند العودة سأله الآشوري عن رأيه بعيد النيروز؟.

فأبدى هذا الناصري القومي العربي تقديره العالي للشعب الكردي، وقال له حرفياً, ما أدهشني أن هذا التجمع الذي لا مثيل له من الضخامة، لم تحدث فيه أية اشتباكات أو مهاترات أو تلاسن بين الناس، بل كان الجميع يتعاملون مع بعضهم بعضاً بمحبة وتسامح.
نعم هذه هي حقيقة نيروز التي اكتشفها هذا الناصري العربي بتجربته الخاصة.

فقدسية نيروز عند الأكراد تصل إلى حد المقدسات الدينية.

حيث يحتفل بهذا العيد كل الأكراد، الكردي المسلم السني والشيعي والعلوي, والكردي اليزيدي والمسيحي والموسوي والملحد, العامل والفلاح والفقير والغني والمثقف, الكردي المعارض للسلطات الحاكمة والتابع لها.

لأن كل كردي, وبدون استثناء, يعتبر نيروز عيده.
يبقى السؤال المحير, لماذا هذا الحقد الشديد من قبل الشوفينيين العرب والترك والفرس على عيد نيروز الكردي؟ ولماذا هذا الإصرار على تحويله من الفرح والمحبة إلى مآتم وصراعات؟ ألانهم يطالبون فيه أن يرفع الظلم عن كاهلهم؟ ومتى كانت المطالبة برفع الظلم جريمة تستحق القتل؟
الأكراد يعرفون السبب الحقيقي لهذه الممارسات، ولكن لا بد للشعوب التي ينتمي إليها القتلة أن يعرفوا أيضاً ما يخفيه القتلة عنها، وأن ارتكابهم لهذه الجرائم لا علاقة لها بالأمن القومي ولا بمصلحة هذه الشعوب الشقيقة للأكراد.


لقد بات معلوماً أن أحد الأسباب المهمة لمجزرة 12 آذار عام 2004 هو انهيار النظام الآبارتائيدي الصدامي, هذا الانهيار الذي أدى إلى حصول الشعب الكردي في العراق على حقوقه بإقرار الفدرالية الكردية في الدستور.

وكان ردة فعل الشوفينية العربية والتركية جنونياً تجاه التغيير الحاصل.

بل أخذ الشوفيني العربي يصرخ: واعروباه..! والشوفيني التركي: واتركماناه..!
لكن الأكراد بدورهم اكتشفوا حقيقة جوهرية من هذا الخطاب الشوفييني العربي والتركي والفارسي.

وهي أن أي انتصار كردي في أي جزء من كردستان يتحول إلى هواجس رعب عند الشوفينيين في بقية أجزاء كردستان.

وقد بينت العقود الماضية أن الاختلافات العقائدية وتناقض المصالح الوطنية للأنظمة التي تقتسم كردستان لم تمنعها من الاتفاق الكامل ضد الأكراد، والعمل المشترك لقمعهم وتجريدهم حتى من الحقوق التي يتمتع بها المواطن العادي في هذه الدول.

لقد كانت هذه الأنظمة تقوم نيابة عن بعضها بعضاً ضد الأكراد في هذا الجزء من كردستان أو ذلك.
وفي الفترة الأخيرة تحول الانتصار الكردي في زاب على الجيش التركي العرمرم إلى مصدر خوف وقلق شديدين لدى الشوفينيين العرب والترك والفرس.

كان هؤلاء الشوفينيون يأملون بانتصار ساحق للجيش التركي على مقاتلي PKK ، ومن ثم لخنق الفدرالية الكردية في كردستان العراق بمهدها, وطي مسألة استفتاء كركوك إلى الأبد.
لكن الأمور جرت بعكس تلك التمنيات.

فعلاوة على ذلك الانتصار الكردي في زاب، حدث انتصار من نوع آخر أكثر أهمية, تجلى في تضامن كردي منقطع النظير طيلة التاريخ الكردي المعاصر.

لقد تجاوز هذا التضامن بين ليلة وضحاها كل الخلافات الكردية الداخلية، بل أزال كل ما زرعته القوى الشوفينية العربية والتركية والفارسية من خلافات بين الأكراد, وحتى القوى الكردية التابعة لهذه الأنظمة، سراً أو علناً، لم تستطع الطيران بعيداً عن الرف بشكل علني.
هذا هو السبب الخفي لمجزرة قامشلو الجديدة، ولو لم تكن هذه المجزرة عشية مؤتمر القمة العربية لكان الشهداء لا يقلون عن شهداء آذار 2004.


أريد القول أن الشوفينية العربية وأخواتها التركية والفارسية لا تستطيع تحمل هذا الانتصار الكردي في زاب، والموقف الشجاع لرئيس إقليم كردستان العراق ضد الغزو التركي.

لقد أدى فشل الجيش التركي وخروجه من إقليم كردستان العراق مهزوماً إلى تعزيز موقع حكومة الإقليم تجاه تركيا وتجاه بغداد.

أما بالنسبة لأكراد سوريا, فقد عزز الانتصار الثقة لديهم بإمكانية الحصول على حقوقهم القومية المشروعة، لأن الدولة التركية الكمالية التي هي أشرس عدو للأكراد منذ تأسيسها رجعت من المعركة خائبةً.

 
إن المراقب السياسي يلاحظ في السنوات الأخيرة, أن أكثر مسالة تستفز القوى الشوفينية التي تتربص بالأكراد, وتجعلها تفقد السيطرة على مشاعرها العنصرية، سواء داخل الأنظمة أو خارجها، هي أن أكراد اليوم أكثر واقعية, ويطرحون مطالبهم بطرق سلمية بعيدة عن التطرف.

فحتى مقاتلي PKK يعلنون بشكل متواصل أنهم على استعداد لترك السلاح والنزول من الجبال والمشاركة في الحل السلمي الديمقراطي للقضية الكردية في كردستان تركيا إذا قبلت الدولة التركية الحوار الديمقراطي.


كان الأكراد في الماضي يقومون بانتفاضاتهم وثوراتهم ضد الظلم والاضطهاد دون وعي سياسي مدروس، بمعنى آخر كان أعداهم أكثر وعياً وحنكة منهم.

ولذلك تمكنوا من إفشال تلك الثورات والانتفاضات بالحيل والخداع وتمزيق الصف الكردي والقتل العام.

كان يجري كل ذلك بعيداً عن الرأي العام العالمي, وأحياناً بتواطؤ هذا الرأي العالمي مع الطغاة الترك والفرس والعرب.


أما اليوم، فالشعب الكردي لديه ساسة ومثقفون لا يقلون وعياً ومعرفة من أعدائهم, وأحياناً يتجاوزونهم.

لديهم إعلام متطور, يوحد الضمير الكري، ويجعل الأكراد في كل بقاع العالم يسمعون بالجرائم التي ترتكب بحقهم، ويصل صوتهم إلى بعضهم بعضاً ضد هذه الجرائم, بل يوصلون هذه الجرائم البشعة إلى كل المحافل الدولية.


ما أقلق الجهات المعادية للأكراد في النظام السوري هو أن الرد الكردي تجاه المجزرة لم يجر كما كانت تخطط له.

فالأكراد لم يلتجئوا إلى العنف, وجسدوا المزيد من العمل الديمقراطي السلمي, وفرقوا بوضوح بين الشعب العربي السوري والجهات الشوفينية، وتوجهوا أكثر من السابق للتقارب مع القوى الوطنية العربية الديمقراطية من أجل وضع خارطة طريق ترسم  لحالة تآخ جديدة بين القوميات في سوريا، ولا سيما ببن الشعبين العربي والكردي، هذا التآخي الذي لا بد أن يرتكز على قاعدة رصينة من المساواة والديمقراطية والسلم لأهلي.
 يقول الأكراد صراحة، أن الذي يصر على اغتصاب الحق الكردي هو كمن يضع قنبلة في البيت السوري.

فلا يمكن أن تكون هناك وحدة وطنية في الوقت الذي يجري فيه اغتصاب حقوق ثلاثة ملايين كردي سوري، ومازال نصف مليون منه مجرد من الهوية السورية.


أعتقد أن من أهم الأسباب التي تجعل الشوفينية العربية السورية  تزداد شراسة ضد الأكراد، هو اختيار الأكراد للنهج الديمقراطي السلمي إطاراً لنضالهم, والابتعاد عن أي عمل من شأنه أن يستفز الشعب العربي السوري وبقية القوميات في سوريا، بل التقارب المتواصل مع المعارضة السورية الوطنية.

وقد أحدث هذا النهج انعطافاً في تفكير العرب السوريين، وبرز ذلك بوضوح في موقف العديد من المثقفين والساسة العرب في السنوات الأخيرة.

بل ما يلفت الانتباه أن رد الفعل العربي الشعبي تجاه هذه المجرة الأخيرة كان الصمت.

بعكس مجرة 12 آذار 2004، عندما استطاع النظام تعبئة قسم هام من الشارع العربي ضد الأكراد، وحتى أفراداً من القوميات الأخرى.

لقد أصبح هذا الصمت الحالي بحد ذاته بداية إدراك من قبل الشعب العربي السوري أن ما تمارسه بعض الجهات في السلطة ضد الأكراد ليس دفاعاً عن العروبة، ولا مصلحة له وللوطن السوري في هذه الممارسات الاستبدادية.


من الملاحظ أيضا,ً أن جميع التجمعات العربية السورية الجديدة التي بدأت تتشكل منذ ما بعد أحداث آذار 2004 تورد في بيانات التأسيس وفي البلاغات العامة جانباً من القضية الكردية السورية بهذا الشكل أو ذالك، بل هناك شبه إجماع لدى القوى العربية السورية الوطنية، بما في ذلك لدى قسم من داخل النظام, أن القفز على هذه القضية هو الخروج عن مصلحة الوطن والشعب.

وللحقيقة، كادت قضية الأكراد المجردين من الجنسية أن تحل, لولا الدور السلبي لهذه الجهات المعادية للأكراد داخل النظام.
لقد وصل الوعي الكردي السياسي والثقافي إلى مستوى يستطيع معه أن يدرك تماماً أن كل هذه الجرائم التي ترتكب بحقه تهدف إلى دفع الأكراد نحو مواقف مشابهة لمواقف هذه الجهات الشوفينية العربية.

فهذه الجهات تجد في الأجواء الشوفينية المتشابهة تربتها الخصبة لمتابعة الاضطهاد ضد الأكراد وغير الأكراد.


نعم..

يدرك الأكراد هذه الخديعة الماكرة.

فبالرغم من أن دماء شهدائهم لم تجف بعد، تابعوا في اليوم التالي من المجزرة الاحتفال بعيدهم القومي دون الخروج عن إرادتهم الصلبة, بأن أفضل وسيلة ناجعة للرد على هؤلاء القتلة، هو ممارسة الديمقراطية والتظاهر السلمي، وكشف المؤامرة للشعب العربي السوري والشعوب العربية.

لقد أظهرت احتفالات الشعب الكردي في سوريا بعيد نيروز بأنه أكثر حضارية من القتلة، وأنه لا ينزلق إلى مستواهم.


الأكراد في سورية يدركون تمام الإدراك أن الطريق إلى الحرية يمر من خلال كسب موقف الشعب العربي السوري، والتحالف معه ضد كل القوى الشوفينية عربية كانت أو كردية.

ففي هذه الحالة فقط يستطيع أن يضمن حقوقه, بل وينقذ البلد والعباد مع أخيه العربي والآشوري والتركماني والشركسي…، من طواغيت الفساد الذين يدفعون البلد إلى الصراعات الداخلية في سبيل قطع الطريق أمام التحول السلمي إلى الدولة العصرية التي هي في خدمة المواطن, لا أن يكون المواطن عبداً لها.

*  *  *

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…