هل تحتاج تركيا إلى حربٍ دائمة ضد الأكراد؟!

د.آزاد أحمد علي *


انشغل العالم وإعلامه على وجه الخصوص باستعدادات تركيا الكبيرة للحرب على حزب العمال الكردستانيpkk) )، ومن خلاله على إقليم كردستان العراق.

فكان من الواضح أن إجراءات التعبئة العسكرية والحشد الإعلامي المرافق للتحرك السياسي والدبلوماسي هي أكبر من متطلبات المعركة مع حزب منزوي في المناطق الحدودية يلجأ أحياناً لحرب العصابات.

وإنما كانت ومازالت استعدادات تُناسب حرباً كبيرة وطويلة وتخدم أجندة سياسية وإستراتيجية لدولة تتصرف بوصفها عظمى ورئيسة في المنطقة.
كما تبيّن للمهتمين في السياق نفسه أن استعدادات الجيش التركي خلال الأشهر الماضية جديّة ومصيرية، فهذا الجيش الذي يشكل قوام الدولة وعمادها لم يخض طوال تاريخه المعاصر حرباً حقيقية.

إنجازه التاريخيّ الوحيد كان غزو جزيرة قبرص الصغيرة والمسالمة، فمؤسسة الجيش كانت ومازالت بحاجة لعدوٍ طالَ انتظاره ولم يظهر في الأفق.

وهو كأي جيش يرغب في خوض معركة، وأن يخرج منتصراً، فلم يكن هنالك ،وربما لن يكون أفضل، من العدو الداخليّ الأعزل نسبياً، والجار الناشئ الفتيّ والضعيف.

وقد تناغمت الحكومة الإسلامية المنتخبة مع رغبة الجيش هذه، بحثاً عن دور سياسيّ وإقليميّ يواكب نجاحاتها الاقتصادية والإدارية المحدودة.وبدت تركيا في لحظةٍ ما موحّدة و مستعدّة للحرب وقرعت طبول إعلامها، وكأن تركيا (العظمى) مقبلة على معركتها الأخيرة، والتي عبرها سيتّم اختراق الحدود واستعادة مجدها الغابر، وتشكل بحدّ ذاتها حرباً فكرية وسياسية على الواقع الجديد، وعلى التحولات الجيوسياسية في المنطقة،و في الوقت نفسه حرباً على نتائج انتهاء الحرب الباردة، وتريدُ تركيا عبر معركتها تسخين المنطقة، التي ظلّت باردة في محيطها الشمالي منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وتمدّد الحلف الأطلسيّ إلى جوارها القريب، ما أدّى إلى تجميدٍ جديد لدورها الذي اقتصر في السنوات الأخيرة على قمع أبناء تركيا من الأكراد والمعارضين، والتلويح بالقوة للجوار حين اللزوم.

غير أن المعركة العسكريّة ـ السياسيّة التركية بدت خاسرة قبل خوضها بشكل واسع، لأنها تفتقر إلى الحدّ الأدنى من المبررات الموضوعيّة، فهي مطعونة في مشروعيتها بالأساس، وقد تبيّن للمراقبين أنها مناورة عسكرية سياسية تهدف، مع ما تهدف إليه، إلى إجراء سبرٍ جديد لأهمية موقعها الاستراتيجيّ على خارطة الناتو الحالية، خاصة بعد أن تواجدت قوات الحلف في المنطقة، والتي بات تعمل بالأصالة عن نفسها.وهي تأتي بمثابة اختبار للإدارات الأمريكية والأوربية لقياس مدى جديتها في الدفاع عن التجربة الكردية و تحديد مدى التزام المجتمع الدولي والدول الإقليمية بقبول وصيانة التجربة الكردية في كردستان العراق، و التي ساهمت ومازالت تساهم في التأسيس لواقع جيوسياسي لأكراد العراق ومن خلالهم لكل أكراد المنطقة، وفي مقدمتهم أكراد تركيا.

لقد تفاجأت السلطات في تركيا بتضامن واسع مع القضية الكردية بكل تشابكاتها، وتطوّع  حشد سياسي وإعلامي واسع لفضح نواياها العسكرية مسبقاً.

إذ كان التعاطف العربي أكبر مما توقعته تركيا، كما دافعت النخب السياسية والثقافية في العراق عن تجربة كردستان العراق.

و أعلنت بعض القبائل العربية علناً عن استعدادها للدفاع عن أكراد العراق.

وتأكدّت للأوساط التركية ذات الصلة أن تجربة كردستان العراق راسخة أكثر مما تتوقع، ويتوفر لها الدعم العربي والإقليمي قبل الدولي، إضافة إلى الإجماع الكرديّ في الدفاع عنها بشكل أو آخر.

في المحصلة ظهرت التجربة على أنها مدعمة بوعي ورغبة عربية، على اعتبار أن العراق وبالتالي العالم العربي هو المعني أساساً بشرعنة وحماية هذه التجربة الإدارية والسياسية، وإضفاء المشروعية القانونية عليها، أو انتقادها.

وجاء تسارع فتح القنصليات الأوربية في أربيل،عاصمة الإقليم الفيدرالي، في الأشهر الأخيرة، والتي توّجت بفتح مكتب للأمم المتحدة كرسالة سياسيّة صريحة لمن يريد زعزعة أمن كردستان العراق.

ومع ذلك مازالت الهجمات العسكرية ،وخاصة الجويّة منها، مستمرّة والحشد العسكري في تزايد على الرغم من صعوبة الحملة الشاملة في فصل الشتاء، وتراجع احتمال استئنافها لوجستياً يوماً بعد آخر.

ولذلك يبدو لنا أن تركيا ستخسر معركتها السياسية والدبلوماسية قبل العسكرية.

فإذا كان المستهدف الأبعد “الفيدرالية الكردية”، فقد تأكد لها، قبل غيرها، أنها تتمتع بحصانة عالمية، بدءاً من الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي وصولاً إلى سلطة الفاتيكان الروحيّة مروراً بأوساط ثقافية وسياسية عراقية وعربية.

والأسوأ من ذلك بالنسبة لتركيا أن وصف حزب العمال الكردستاني بالإرهاب جاء في سياق مجاملة تركيا وامتصاص نقمتها واختزال المسألة في العنف المتبادل بين تركيا وأحد أحزابها المقاتلة.

وأن بقاء ملفات حقوق الأكراد منسية في أدراج بعض دول المنطقة ليس مؤشراً بالضرورة إلى أن الصمت الدولي سيستمر إزاء الاضطهاد تجاه هذا الشعب، فكلّ المؤشرات تبين بأن الحملة الجديدة على المقاتلين الأكراد في تركيا وخارجها لم تعد مستساغة، وظاهرة حزب العمال الكردستانيّ الشعبية تكذّب ادعاءات تركيا ولا تصدّقها عملياً.

فمنذ عقود وسنوات تدفع المناطق الكردية ضريبة العنف، والضحايا أساساً هم من الأكراد: (المدنيون، عناصر  pkk، و حتى حماة القرى الأكراد الموالين للدولة) وبالتالي ضحايا عنف الدولة هم أكثر بكثير من ضحايا المعارك العسكرية التي تقوم بها ب ك ك.
تركيا أيضاً توفر موضوعياً شروط خسارتها للمعركة لإعلانها الصريح بأنها لن تكتفي بهضم حقوق ملايين الأكراد من مواطنيها وحسب، وإنمّا  تطوعها ـ جهاراً وفي أكثر من مناسبة ـ لمحاربة الأكراد في حقوقهم السياسية والثقافية خارج حدود تركيا، هذا ما شكل سابقة خطيرة وشاذة وعبئاً إضافياً على فاتورة حربها المستمرة على الشعب الكردي.

قد تشكّل خسارة تركيا المتوقعة للمعركة،درساً وعبرة لجنرالاتها ومؤسستها العسكرية وكذلك لبعض نخبها السياسية، وربما يكون حافزاً لهم جميعاً ليعيدوا  قراءة الواقع وتفهّم المعطيات الجديدة، الإقليمية منها والدولية، وأن يدركوا أخيراً أن المنطقة مشبعة ومستاءة من العنف، وأن العالم بأسره يميل للحلول السياسية.

فقد آن الأوان لتركيا العسكريّة أن تتكيف مع معطيات الواقع الراهنة، وتقرأ المستقبل وتصحّح علاقتها مع الجوار.ومن المستحسن في هذا السياق أن تنسى أنها كانت مركزاً لإمبراطورية دينية،في زمنٍ مضى، فالإمبراطورية تلك كانت نتاجاً لتوافق وتعاون مجموع شعوب المشرق، وفي ظروف تاريخية محددة، وليس العكس.

وإن كانت عقدة تركيا ومشكلتها تكمن في البحث عن دورٍ مميّز وجديد في المنطقة، فليس بالضرورة أن يكون من خلال استعادة الماضي المجيد أو استعراض القوة العسكرية.ولن يكون ،بالتأكيد،على حساب حقوق ووجود شعبٍ مجاور،خبرت تركيا أكثر من غيرها،المراهنة الفاشلة على تذويبه بشتّى الوسائل.

وعوضاً عن ذلك تحتاج النُّخب السياسيّة والثقافيّة التركيّة إلى إعادة إنتاج وصياغة وعيها السياسي ضمن شرطها التاريخي الملموس والحسّاس، هذا الوعي الذي يكون عنوانه تفهم وتقبل حقوق الشعوب المجاورة، وخاصة تلك المكونة للإمبراطورية سابقاً والداخلة في تكوين الجمهورية حالياً، وأن تبحث في هذا المسار عن إيجاد حلّ موضوعي لقضية الشعب الكردي داخل حدود تركيا، هذا الحل الذي طال انتظاره منذ ما يقارب قرناً من الزمان، ليشكّل منعطفاً وحافزاً لحقن دماء أبناء تركيا جميعاً، وقد يكون درساً وتجربة عملية لمن يريد لتركيا أن تبرز خلال عمليات الغزو واستخدام القوة العسكرية، أو تعويم الإيديولوجيات البائتة.

فعلى النقيض من كل ذلك،  يمكن لتركيا أن تجدد دورها وتبرز تميزها في المنطقة من خلال تقديم حلول سياسية ناجحة لمشاكلها الداخلية، وترفع من سوية ديمقراطيتها، وتحقق المصالحة الوطنية، وتعمل على تحسين العلاقة مع شعوب الجوار وليس حكوماتها فقط.وأن تنسى نشوة وإيقاعات قرع طبول الحرب.

فقد سئمت المنطقة وشعوبها الحروب والعنف والصراعات المدمرة.وتثبت الأحداث أن أنصار العنف عموماً ،وعنف الدول خصوصاً،هم الخاسرون.

—–

 

* كاتب كردي من سوريا- قامشلي

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…