الوعي والإرادة شرطان لازمان لأي عمــل كـردي مشــترك

   افتتاحية جريدة الوحدة (YEKÎTÎ)  *

 

 

 كثر الحديث حول موضوع المرجعية الكردية، التي لاقت عند طرحها قبل ثلاث سنوات قبولاً واسعاً من مختلف شرائح مجتمعنا الكردي الذي تمثل له وحدة الصف الوطني الكردي هاجساً دائماً، وتمنحه أملاً كبيراً وتسهل مهامه النضالية وتقربه أكثر من التمتع بحقوقه القومية الديمقراطية في إطار وحدة البلاد، وتمنحه القدرة اللازمة لمواجهة السياسة الشوفينية ومشاريعها العنصرية المطبقة وقوانينها الاستثنائية، لأن المرجعية لا تعني له فقط مجرد تجميع أرقام، بل أنها تتجاوز حسابات الجمع إلى تفجير طاقات إضافية لا تتوفر إلا عن طريق الوحدة.

    ورغم أن موضوع البحث عن مركز موحّد للقرار الوطني الكردي يعود بتاريخه إلى أول انشقاق في الساحة الكردية، الذي لا يزال يحفر خدوشاً عميقة في اللحمة الوطنية الكردية، فإن تنشيط المطالبة بتحقيقه جاء إثر أحداث آذار 2004 التي هزّت المجتمع الكردي ككل، وأحسّته بخطر يتهدّد مستقبله، وأبرزت أهمية الاستعداد لمواجهة تطورات غير محسوبة قد تداهمه في أي زمان أو مكان.

ومن هنا جاءت أهمية الدعوة لبناء مرجعية كردية، قد يتم الخلاف على تسميتها أو شروطها أو متطلباتها ومهامها، لكنها في نظر الكل تعني، بلغة بسيطة، ضرورة وحدة الموقف الوطني الكردي، تلك الوحدة التي اتخذت فترة من الزمن اسم مجموع الأحزاب الكردية، الذي كان له في حينه دور لا ينكر في التصدي لمهام التمثيل الكردي، رغم أنه كان مجرد تجمّع لم يجمع أطرافه برنامج سياسي، ولم ينظّم عملهم نظام داخلي، لكنه أعطى في النهاية انطباعاً بأن هناك إمكانية لبناء مرجعية كردية منظّمة، وبأن الكرد لا يجيدون فقط الانشقاقات، بل بإمكانهم أيضاً أن يتّحدوا، ومن هنا بدأ الانطلاق العملي نحو المرجعية التي لا تزال مطلوبة وممكنة رغم الفتور الذي يحيط بالجهود الرامية لبنائها ورغم إطلاق نعيها من قبل البعض وتحميل المسؤولية في ذلك للبعض الآخر، لكن يمكن أن نقول عنها بأنها لا تزال مشروعاً لم يكتمل بعد عناصره وشروطه الضرورية،أو أنه خطة عمل تحتاج للمزيد من الإنضاج.

وفي كل الأحوال، ومهما طال الزمن، فإنها – أي المرجعية- ستظل بمثابة قدر ينتظر الحركة والحراك الكردي، لأنها ضرورة نضالية، وهي، وإن لم تتحقق اليوم لأسباب لا مجال لذكرها، فإنها ستتحول غداً إلى حقيقة لا مفر منها إذا أردنا لحركتنا اكتساب الاحترام المطلوب، من نفسها ومن الغير، ونراهن في ذلك على تزايد الوعي لدى هذه الحركة وجماهيرها، لأن إرادة الوحدة تتناسب قوتها طرداً مع التطوّر الحضاري للشعوب، ومع قدرتها على رفع مستوى تناقضاتها وطموحاتها بنفس الوقت، فالشعوب المتخلفة تعجز عن الاتحاد،ولعلّ في الاتحاد الأوربي خير مثال لشكل متطور من أشكال الاتحاد بين شعوب سبقت غيرها في بناء دولها الوطنية، وهي تثبت الآن أنها قادرة على أن تلتقي وتتواصل فوق حواجز الحدود القومية لتلك الدول من أجل بناء كيان سياسي واقتصادي أوسع، يلبي مصالح تلك الشعوب ويساعد على زيادة تطورها الحضاري وتحسين مستوى معيشة مواطنيها، في حين لا تزال فيه حركتنا تعاني من ضعف الإرادة والوعي معاً في تعاطيها مع هذه المهمة النضالية، ويبرز هذا الضعف، بين حين وآخر، على شكل مهاترات، تعبّر في الأساس عن رفض الآخر وعن محاولة إخفاء نزعة التحزب والانغلاق، بشكل أو بآخر، رغم أن الجميع يرفع على رؤوس الأشهاد، شعار المرجعية ويعلن اقتناعه بشموليتها، لكن مع ذلك تبرز بين الحين والآخر عراقيل لا مبرر لها، مثل موضوع الرؤية السياسية المشتركة التي تم إقرارها بعد جهد كبير، علماً أن أهمية التوصّل إلى مجرد تلك الصيغة، لا تقارن بأي شكل من الأشكال، مع موضوع نشرها أو عدم النشر الذي يمكن أن يصنف في الحالتين تحت عنوان الخلافات الإجرائية الشكلية، في حين أن الهدف كان التوصل إلى تلك الرؤية التي أعدت أصلاً لتكون وثيقة مبادئ تعرض بالنهاية على مؤتمر وطني لا تزال الحوارات بشأن تركيبته غير منتهية بعد، سواءً ما يتعلق منها بنسب تمثيل الأحزاب، أو نسبة المستقلين وطبيعتهم وطريقة اختيارهم، وحتى موضوع مشاركة المستقلين لم يحسم بشكل نهائي حتى الآن.

بكل الأحوال، ولأننا نقف أمام مشروع وطني قومي كبير وهام، فمن الطبيعي أن تكون العراقيل أيضاً بمستوى تلك الأهمية، أي أنها عراقيل كبيرة، كبرت مع الزمن نتيجة سلسلة من المهاترات والانشقاقات غير المبررة التي لا تزال تتفاعل لتترك عقبات إضافية، لن يكون بالإمكان تذليلها إلا بحوار ديمقراطي أخوي هادئ وهادف، وبشعور عال من المسؤولية، لا بتحميلها على الآخرين، وبهدف حل الخلافات القائمة لا بإدارتها.

فالجميع عنده ما يعطيه، ولديه أيضاً ما يمكن أن يتراجع عنه، كما أن الجميع عليه أن يساهم في خلق الأرضية المناسبة التي يمكن أن تبنى عليها المرجعية، وأن يوفّر الأجواء الملائمة لإعادة إطلاق حوار جاد ومسئول بشأنها، وزرع الثقة المتبادلة التي تعتبر شرطاً لا غنى عنه بين الأطراف المعنية، ومقياساً أساسياً للدلالة على جديتها ومصداقيتها.

تبقى هناك قضية بحاجة للإشارة، وهي شمولية المرجعية التي يجب أن تكون بالنهاية، لكن هل يجب أن يشمل التأسيس كل الأطراف.؟ وهل هناك إمكانية حصول توافق سياسي أو تنظيمي يمكن أن يجمع عليه الكل الحزبي الكردي.؟ هذا التساؤل نريد له أن يشير لوجود أطروحات تستند بعضها لصعوبة التوصّل إلى توافق في الرؤى مع البعض، وهو ما يمكن اعتباره مقبولاً، في حين تعبّر أخرى عن نزوع نحو شطب الآخر المختلف، وهو ما يتعارض مع طبيعة العمل المشترك الذي يستدعي البحث عن المشتركات الممكنة والكافية لبناء هذا العمل،  وترك مواضيع الخلاف للاختلاف عليها بأسلوب ديمقراطي عصري.

إننا، وانطلاقاً مما تقدم، لا نستهين بالعوائق التي لا تزال تقف في الطريق، لكننا، في الوقت نفسه يجب أن لا ننجر إلى محاولات تضخيمها لنخفي وراءها العجز والتساهل في إنجاز هذه المهمة التي باتت ضرورة ملحّة وممكنة، لكنها تستدعي التضحية وشيئاً من نكران الذات، وأن يكون دافعنا جميعاً في ذلك هو أن نفيد ونغني فكرة وجهد بناء المرجعية، لا أن نبحث عن الفائدة الحزبية منها، بمعنى أن نتعامل معها من منطلق كردي عام، بحيث لا تقتصر فقط على الأحزاب والأطر القائمة، رغم دورها وأهمية مشاركتها، بل أنها يجب أن تضم كذلك ممثّلي كل الفعاليات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي يعنيها الشأن الكردي، وتشترك في الحرمان والاضطهاد الذي لا يميّز بين حزب وآخر، وبين مستقل وملتزم، وأن نراعي في برامجها ووثائقها البعد الوطني للقضية الكردية وسبل التعاون بين المكوّنات السورية الأخرى، القومية والدينية والسياسية، والعمل على إدراجها على جدول القضايا الوطنية التي تتطلب حلاً عادلاً وعاجلاً، دون أن ننسى بأننا شركاء في الوطن وفي الهم الوطني العام، وأن مبدأ الشراكة الوطنية هو  منطلقنا في بناء الأطر الوطنية الساعية للتغيير الديمقراطي السلمي لبناء سوريا الغد، وطناً للعرب والكرد والقوميات الأخرى المتآخية..

ويضيف هذا البعد ضرورة جديدة إلى مجمل ضرورات توحيد القرار الكردي، فالمكوّن الكردي أصبح مطلوباً كعضو أساسي في أي إطار معارض لاستكمال لوحته الوطنية، والجانب الكردي أيضاً بدأ يتحسس أهمية العمل الوطني المشترك،لتعريف الرأي العام الوطني بعدالة القضية الكردية، وإسقاط الادعاءات الشوفينية بأن هذه القضية تتبع أجندات غير وطنية، وأن الحركة الكردية تحركها دوافع خارجية.

ولذلك، فإن التحرك الكردي المشترك من خلال المرجعية المنشودة سيكون كفيلاً بكسب المزيد من الأصدقاء والمؤيدين لهذه القضية التي لن تشهد حلاً عادلاً بدون حدوث تغيير ديمقراطي يقر مبدأ تداول السلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة، ودستور عصري لا يجيز لحزب واحد فقط قيادة الدولة والمجتمع،ويضمن للشعب الكردي التمتع بحقوقه القومية الديمقراطية في إطار وحدة البلاد.

……………….

*- الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)– العدد (175) شباط 8 200م- 2619 ك

لقراءة مواد العدد انقر هنا  yekiti_175

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…