تحالف الأعداء- الأصدقاء و مناوراتهم في الوقت بدل الضائع

هيمن منداني

لم يحدث أن اجتمع متخاصمون تاريخياً بينهم من العداوات العميقة الجذور والجسيمة الأبعاد والتداعيات كما هو الحال لدى الدول المتقاسمة لكردستان أو التي قُسمت عليها كردستان بموجب معاهدات آثمة و ظالمة بحق شعوب المنطقة كلها و منها شعبنا الكردي.

فما بين تلك الدول ومنذ عقود طويلة من أحلاف واتفاقيات أمنية ولقاءات دورية على أعلى المستويات لا تجمعهم سوى مناهضة الطموح الكردي في الحصول على حقوقه القومية المشروعة كشعب على أرضه التاريخية أسوةً ببقية شعوب العالم
و قد أثبتت الأيام عقم تلك الممارسات والأساليب وفشلها أمام بحر إرادة الشعب الكردي التواق إلى الحرية والتعايش بالمثل مع أشقائه شعوب المنطقة, فقد تقهقرت تلك المخططات في فترة العصر الذهبي لأنظمة تلك الدول الاستبدادية حيث الحرب الباردة ولما كانت عشرات الآلاف من الكرد يبادون في مقاصلهم الجهنمية دون أن يكون لأنينهم صدىً ولصرخاتهم مغيث ومع كل هذا وعزيمة الكرد لم تثنَ وإرادتهم لم تُكل و لم تُمل فكيف تكون مصائر أسياد تلك المؤامرات ونحن نعيش العولمة بكل جوانبها وموجة التغيرات تجتاح العالم في توجهٍ عام نحو بناء صرحٍ جديد مبنيٍّ على الحرية والديمقراطية وحكم الشعوب واستئصال الأنظمة الشمولية التي أفرزت حالة سياسية –اقتصادية – اجتماعية – ثقافية بدورها كانت تربةً خصبةً لانتعاش التطرف بأشكاله والتي انتظمت في توجهٍ إرهابي يهدد السلم والأمن العالميين حيث أصبح الحرب عليه واقتلاع جذوره على رأس أولويات التوجه العالمي.
إن منطقتنا تعيش بدايات هذا التوجه حيث سقوط نظام الطالبان في أفغانستان وسقوط النظام العراقي البائد وما ترتب ويترتب على هذا السقوط من تغيرات كان منها:
1-     الحالة الديمقراطية في العراق ومدها إلى دول الجوار وخشية هذه الأخيرة من هذا المد وجهودها البائسة  اليائسة لمنعه بالتخطيط  والمساهمة في زعزعة الاستقرار وعرقلة العملية السياسية في العراق الجديد.
2-     ما تحقق من مكاسب للشعب الكردي في كردستان العراق في ظل عراق ديمقراطي اتحادي تنَشق فيه شعوب العراق كلها هواء  الحرية و المساواة و تساهم معاً في بناءه والنهوض به ليتبوأ مكانته الحقيقية في الأسرة الدولية و خشية بقية الدول المضطهدة للكرد في حدود دولها من انتعاش الحالة الكردية على الصعيدين المحلي والعالمي وإسقاطات ذلك على داخلها المقهور والمشحون والمهيأ للانفجار بأصغر صاعقة إن لم تُعالج قضاياه بذهنية حضارية تنسجم وروح العصر وتغيراته.

في خضم هذه المتغيرات والتحولات والخطا الحثيثة لسير العملية السياسية في العراق بعد مخاضٍ ما كان باليسير نحو  النجاح والوئام الأمر الذي لم يكن تشتهيه دول الجوار فحسب بل رغبت في استثمار الفراغ السياسي في العراق في تلك الفترة الانتقالية  لاستكمال أجندتها السياسية غير المهضومة في داخلها المتأهب لمواكبة التحولات و محيطها الداخل و المساهم في عملية التغيير إقليمياً ودولياً وبالاستناد على عكاز دبلوماسيتها الأمنية العرجاء,  وتداعيات تلك الأجندة على موقعها في الأسرة الدولية حيث أوقعتها في دائرة الاستهداف و الخطر فانقلب السحر على الساحر كما هو حال كل سالك للأنفاق المظلمة و المسالك الوعرة.

فكان حريٌّ بتلك الدول مراجعة حساباتها وسلوك الطريق القويم الذي يقيها و شعوبها ما لا يُحمد عقباه لأن السير في عكس اتجاه التيار هالكٌ لا محال.
لقد جاهدت الدبلوماسية الباطنية  الإيرانية  وما زالت تجاهد في استثمار ما تبقى لها من أوراق الضغط  ابتداءً من جنوب لبنان وحزب الله, مروراً بحماس في فلسطين لتصل عبر الخليج إلى العراق وما بحوزتها من أوراق اللعبة السياسية في هذا البلد الجريح والذي مازال ينزف دماً لكسب ما أمكن من الصفقات قد تقيها ما تراه هي عواقب التحولات الجارية في المنطقة من جهة و تمنحها ثقلاً إقليمياً وتدخلها النادي النووي العالمي فتزكيها مقام السيد الأوحد في الخليج على أقل تقدير.

ولكن المعطيات تظهر أن هذه الدبلوماسية لم ولن تر النور فإن واشنطن التي وضعت كل ثقلها لتحقيق ما جاءت من أجله إلى المنطقة ولإنجاح العملية السياسية في العراق من خلال ((حكومة وحدة وطنية))  يمكنها من جهة أن تؤمن ((إجماعاً وطنياً)) على السياسة المتبعة ومن جهة أخرى  أن تفتح حوارات مع مختلف الأطراف و الأطياف على الساحة العراقية فكان من تداعيات ذلك استبعاد الجعفري الذي قتلته سياسياً ولاءه المطلق لإيران وزيارته الأخيرة لتركيا والتي أراد منها على ما ظهر إعادة العراق إلى التحالف الرباعي المناهض لطموحات الكرد والتغير المنشود للمنطقة وذلك من رئاسة الحكومة, الأمر الذي أحرج إيران وأفشل الكثير من مخططاتها ظاهراً, فلم تفلح في تمرير مشروعها النووي فحسب بل أعيد إدراجها في قائمة الدول الداعمة للإرهاب وما لذلك الإدراج من تداعيات حيث لم ينفعها تضامن مقتدى الصدر معها ولا التصريحات النارية المبطنة لعبد العزيز الحكيم في هذا المنحى ((في حال تلكؤ المحتل وتغيير نواياه في مغادرة العراق فإن كل الخيارات ستكون قائمة لمقاومته)) كما أن جهود إيران نفسها في الداخل العراقي سواءً ما سببته من توترٍ في حلبجة أو ما تقوم به فرق الموت من اغتيالات والذي يجمع الكثير من المراقبين أن المتسللين من الحرس الثوري الإيراني إلى العمق العراقي هم وراء تلك الاغتيالات  لم تلبي مبتغاها ,فها هي تلجأ إلى خيارٍ آخر وبالتنسيق مع العدو التاريخي – الصديق اللحظي لها تركيا في الضغط على الشعب الكردي في كردستان العراق وتوغله في عمق أراضيه و قصفه لما تدعيه مواقع لحزب الحرية والحياة الكردي الإيراني الموالي لحزب العمال الكردستاني في منطقة حاجي عمران وجبل قنديل وحالة الاستنفار  التي أعلنتها بين قواتها على كامل حدودها مع العراق وأن هذا الخيار لن يكون أوفر حظاً مما سبقها من خياراتها بكل تأكيد.
أما على الجانب التركي فبعد أن فشلت في فرض شروطها على دول التحالف مستغلةً موقعها في بداية حرب إسقاط النظام العراقي البائد وبموقفها هذا فقدت الكثير من موقعها ومكانتها لدى حلفاءها  في الحلف الأطلسي, كما فشلت في تحقيق أهدافها من قبل عناصر صنعت تحت عينها و وفق تربيتها في الجبهة التركمانية حيث أظهرت هذه الأخيرة نفسها لتركيا بأنها القوة البديلة لها في العراق لهدم أي تطلع كردي في كردستان العراق حيث أظهرتها نتائج الانتخابات على حقيقتها فلم تحصل إلاّ على مقعدٍ واحدٍ حيث كانت  خيبة  الأمل لأسيادها في أنقرة ومزاعمهم فأصبحت هذه الأخيرة أمام أمرٍ واقعٍ و لونٍ فاقع في الجغرافية السياسية العراقية , فمن جهة  خسرت أوراق اللعبة في العراق وبأوهن السبل, كما أن تنامي المد القومي الكردي وبما يتفق ولغة المرحلة و أجندتها , حيث الاستقبال المميز لرئيس بلدية آمد (ديار بكر)) عثمان بايدمير من قبل المسؤولين الرفيعي المستوى في الحكومة الأمريكية والاحتفال المميز لبلديته بعيد نوروز لهذا العام والمؤتمر الذي عقد في استانبول حول القضية الكردية في كردستان تركيا والحراك السياسي الكردي والمنسجم مع معايير النادي الأوروبي الذي تسعى تركيا جاهدةً لنيل شرف عضويته لكنها تستصعب الالتزام و التطبيق الجاد لمعايير ذلك الالتحاق.

الأمر الذي حدد الخيارات أمام الوريث العثماني – الأتاتوركي إما الإقرار بالحقيقة الكردية وما يترتب على هذا الإقرار من استحقاقات لا تستوعبها ديمقراطيتها العرجاء  وبالتالي عليها الإقبال على جملة من التحولات تنسجم والواقع الدولي الذي أصبح أكثر انفتاحاً على مطالب الشعوب بالحرية و الديمقراطية فتختصر الطريق إلى السلام والوئام لشعوب تركيا عامةً ومنهم شعبنا الكردي الذي يتوق  ومنذ عقودٍ طويلة لأن يتمتع بحقوقه القومية المشروعة أسوةً ببقية أشقائه من شعوب المنطقة و هذا ما ندعوا إليه ونتمناه من جميع الدول المقتسمة لكردستان في أجزائه الأربعة, و إما الاستمرار في سياسة التنكر و ما يترتب على ذلك من عنف وعنجهية تجلب المآسي لشعوب تركيا و المنطقة قاطبةً و هي حرب لم ولن تجد نفعاً إلاّ لجيوب سماسرة الحروب من جنرالات تركيا , وإن الحشود التركية التي يناهز تعدادها الثلاثمائة ألف جندرمة حسب ما تناقلته وكالات الأنباء على الحدود مع إقليم كردستان بذريعة ملاحقة بضعة آلاف من مسلحي حزب العمال الكردستاني وتزامناً وتنسيقاً مع الشريك الإيراني في هدم ما تحقق للكرد من مكاسب في هذا الجزء من كردستان فقط, ما هو إلاّ دليل على أن الحكومة التركية اختارت  النفق المظلم و المسلك الخطأ كعادتها و هي أدرى من غيرها بأن أعواد المشانق و السجون و النفي  و التشريد و المجازر الجماعية التي مارستها هي و شركاءها في ظلم الكرد لم و لن تلغي لا الطموح الكردي و لا الشعور القومي و التوق الكردي إلى الحرية و العيش المشترك مع مختلف شعوب المنطقة بحبٍ و سلام و إخاءٍ و دور الساسة الكرد في العراق في التقارب بين أطرافه و جهودهم المضنية في إنجاح العملية السياسية في هذا البلد الجريح حتى باتوا مفتاح الحل لمعظم معضلاته لهو خير مثال على ما ذكر , و لتعلم كل من  تركيا  و إيران أن تحالفهما و تحشداتهما الحالية ما هو إلاّ هروب إلى الأمام و تنصلٌ من استحقاقات قادمة فتركيا المطالبة بتحقيق معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الأمر الذي بات حلماً تركياً و منفذاً له للخروج من أزماته السياسية و الاقتصادية وتحالفه مع إيران و تناغمه مع حماس لا ينسجم و تلك التطلعات .

كما أن إيران التي باتت في مواجهة العالم كله كنتيجة لسياساتها على الصعيدين الداخلي والخارجي و يدها الطولى التي لا تألو جهداً في أن تساهم في تحريك كل طبخةَ سوءٍ إقليمياً و دولياً عليها أن تعي أن افتعال الأزمات ووضع العصي في دواليب عجلة التغيير لن توقف العجلة عن السير بل على النقيض تخلف عباءتها المهترئة عن الركب وتؤرق كاهل أصحابها.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…