وإذا كان الحزب المذكور قد خاض تجارب سياسية خاطئة في مجال ممارسته لدوره، فإن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى الأجندات التي كانت تحكمه من قبل الأنظمة المقتسمة لكردستان نفسها، وأن من دفع ضريبة تلك السياسات هو الشعب الكردي، وبالأخص إقليم كردستان، قبل غيره، بمن فيهم النظام التركي نفسه، حيث كان للحزب دوره في ضرب القوى الكردستانية بعضها بالبعض، ومساهمات في توتير العلاقات الكردية الكردية، وكل ذلك كان من نتاج طبيعة المرحلة، وكذلك الخيارات الإقليمية التي كانت تفرض نفسها ضمن أجواء الحرب الباردة، إضافةً إلى عدم امتلاكه القدرة على قراءة المعطيات السياسية وأخذه العبر من التجارب التي مر بها الشعب الكردي، ومع ذلك، فقد عبر الحزب وفي أكثر من مرة ومناسبة عن رغبته الجلوس إلى طاولة الحوار مع السلطة، والبحث سوياً عن إيجاد حلول سياسية للقضية الكردية تخدم الديمقراطية والتعايش السلمي بين المكونات القومية في الدولة، إلا أنه وأمام تعنت السلطة واحتكامها إلى لغة القوة، كان الحزب يجد نفسه أمام مواجهات لا يد له فيها ولا مفر، كما هو عليه الحال، حيث أن المواجهات الدامية بين الطرفين، هي في المحصلة لا تخدم مصلحة شعوب المنطقة ككل، ولا تخدم خيار التعايش بين أبناء الدولة التركية، وأن الجهة التي تتحمل المسؤولية في توتير الأجواء هي السلطة التركية وحدها، لأنها لو حاولت أن تتجه إلى طاولة الحوار والانكباب على دراسة الحلول للقضية الكردية، بدل من توجهها بآلتها الحربية صوب مواقع الحزب، لاستطاعت أن تحقق المكاسب للشارع التركي ولقضية التعايش السلمي بين المكونات القومية في المنطقة أكثر مما تدفعها من خسائر، وما تعمقها من مشاعر الحقد والكراهية بين أبناء البلد الواحد …
إن السمة الأساسية للمرحلة التي نجتازها، هي الحوار والقبول بالآخر، وعليه؛ فإن اختيار جانب القوة وتغليبه على جانب العقل والمنطق، يستدعي منا الوقوف عنده، كون قضايا الشعوب لا تمحو عبر القهر، وإرادة البقاء لا تزول من خلال القمع وقرقعة السلاح، وإن كنا ندرك دور المصالح الدولية في بلورة أية حالة أو الإبقاء عليها ضمن خيارات النسيان، إلا أن كل ذلك سيكون مرهونا بمحددات وتوازنات هي بحكم الوقتية، وعليه، وإذا ما كانت هناك إرادة جادة في وأد العنف ولفظ موروثات ثقافة الدم، فإن المهمة الملحة تكمن في تمهيد الطرق وبناء جسور التواصل بين طرفي المعادلة في القضايا التي هي مثار الجدل والاحتقان، فهي وحدها الكفيلة بإخراج المسائل من بؤر الاحتقان، أما وأن تكون القضايا المصيرية وقضايا الوجود مجرد صفقات ضمن أجندات سياسية، فإن المستقبل سوف يحمل لنا خيارات قد لا نتمكن من التعامل معها..
إن ما يمارسه النظام الطوراني من سياسات يهدف من خلالها إعادة الاعتبار لدوره وفرض أجنداته عبر إدعائه بملاحقة حزب إرهابي، مستفيداً في ذلك من الوضع الداخلي العراقي، والأجندات التي تهدف إلى لجم تطوره وتشكيله كتجربة ديمقراطية، ودولة تعددية فيدرالية، على أنقاض الديكتاتورية، هي لعبة في غاية الخطورة، لأنه وإن كانت التوازنات السياسية ضمن الخارطة الإقليمية، وحتى في الجانب الدولي، قد تساعده في أن يأخذ بعضاً من التأييد، إلا أن ذلك سيضع المنطقة برمتها على كف عفريت، وذلك نظراً للامتداد البشري والجغرافي للشعب الكردي بين أكثر من دولة من جهة، ومشاعره التي تتخطى حدود القطرية من جهة أخرى، وإذا ما أخذنا تركيبة حزب العمال من حيث أنه يضم في صفوفه مجموعات من باقي أجزاء كردستان، لأدركنا مدى الخطورة التي يقدم عليها النظام التركي، من تهديد للأمن والاستقرار في المنطقة، ومن هنا، كان حرياً بالجهات التي تحاول أن تتماهى مع توجهات المؤسسة العسكرية التركية أن تعيد النظر في سياساتها، وأن تركن إلى العقلنة وأخذ مصالح شعوبهم، قبل توازناتهم ومخططاتهم، بعين الاعتبار، فالتوصيفات التي يتم من خلالها نعت الحزب المذكور ووصمه بالإرهاب، يستدعي من جميعاً إعادة النظر لمفهوم حركات التحرر، كونها جميعها أباحت خيار الدفاع عن الذات، خاصةً وأن السلطة التركية لم تحاول أن تجنح إلى خيار المعالجة السياسية للقضية الكردية، مع أن روح العصر يتنافى وظاهرة العنف والعنف المضاد، تلك التي فيها هدر للطاقات واستباحة للدماء، وفيها هتك لكرامة الإنسان الذي ينبغي أن يحترم إنسانيته بغض النظر عن العرق واللون والمذهب، كونه خلق ليبني ولم يخلق كي يكون وقوداً لحروب أو أداة للهدم ..