إقليم كردستان والكماشات المتعددة -1-

روني علي

   بما أن الحديث الذي يلف طبيعة التدخل العسكري التركي في إقليم كردستان، يتمحور حول رغبة المؤسسة العسكرية التركية في استئصال وجود حزب العمال الكردستاني، ذي الطابع (الإرهابي)، وذلك بحسب توصيف الجانب التركي وبعض المراقبين السياسيين، أو من هم على تماس بالضفة التركية، كنتيجة لتقاطعات المصالح السياسية والاقتصادية، كان لا بد من أن نعرج على هذه المسألة قبل الدخول في حقيقة وجوهر الأزمة، التي تحاول المؤسسة التركية من افتعالها، وهي تجتاح حدوداً دولياً، مخترقةً بذلك مفاهيم الدولة ومقومات السيادة، وفق مبادئ القانون الدولي، وكذلك الاتفاقات والمعاهدات الدولية ذات الصلة ..
   فلا شك أن كل من يتابع الحدث، ويدلي بدلوه في تقييم حيثيات الوضع القائم، وما ستتمخض عنه من آثار وانعكاسات، يدرك تمام الإدراك، أن في تركيا مكون أثني يشكل القومية الثانية، من حيث التركيبة البشرية والجغرافية، على الخارطة التركية، وهذا المكون، ما زال وحتى اللحظة، أسير جملة من القيود والممانعات، وتأتي في المقدمة منها، عدم الاعتراف به رسمياً كقومية ثانية في البلاد، له من الحقوق ما لكل شعوب الأرض قاطبة، وله من الخصوصية القومية، ما للشعب التركي نفسه، وأنه قد تعرض، مذ أن عبرت النزعة الطورانية عن ذاتها، إلى ويلات ومآسي، ومورس بحقه القمع والتنكيل، حيث خضع إلى صنوف من سياسات الإبادة، ومحاولات على طريق إذابته وصهره ضمن بوتقة القومية التركية، سواء من خلال إطلاق النظام الطوراني حملاته بتدمير الجغرافيا الكردية وحرق القرى، أو ملاحقته لقواه الحية، التي تعبر عن إرادة الحرية لكل المواطنين في تركيا، والمساواة بين أبنائها من جهة الحقوق والواجبات، ومن ضمنها تمتع الشعب الكردي بحقوقه القومية والديمقراطية، وفق صيغ ونماذج، تؤسس لمقومات الدولة التعددية، وما وجود حزب العمال، سوى نتاج طبيعي من حالة رد الفعل الكردي تجاه سياسات النظام وممارساته، وتجسيد للمضمون التحرري الذي يتطلع إليه الشعب الكردي، بغض النظر عن درجة الاختلاف أو الاتفاق مع هذا الحزب، وما يمارسه من أساليب وسياسات، كونه يستمد حضوره وقوته من مشروعية قضيته القومية وعدالتها، تلك التي أضحت مثار جدل حتى في الأوساط الدولية، والتي تشكل عدم الدخول في معالجتها من جانب النظام، إحدى أهم الممانعات أمام دخول تركيا إلى السوق الأوربية المشتركة، كون الأسرة الدولية أصبحت على تماس مباشر مع مفردات هذه القضية، وقد جرت أكثر من مرة عقد جلسات في البرلمان الأوربي بهدف الضغط على الحكومة التركية بغية الكف عن سياساتها حيال الشعب الكردي، والدخول في معالجة قضيته على اعتبار أنها إحدى أهم القضايا العالقة في الشرق الأوسط، وأن الإبقاء عليها ضمن سياسات القهر والقمع، لا تواكب ومفردات المرحلة من إشاعة الديمقراطية وإطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان ..

  وإذا كان الحزب المذكور قد خاض تجارب سياسية خاطئة في مجال ممارسته لدوره، فإن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى الأجندات التي كانت تحكمه من قبل الأنظمة المقتسمة لكردستان نفسها، وأن من دفع ضريبة تلك السياسات هو الشعب الكردي، وبالأخص إقليم كردستان، قبل غيره، بمن فيهم النظام التركي نفسه، حيث كان للحزب دوره في ضرب القوى الكردستانية بعضها بالبعض، ومساهمات في توتير العلاقات الكردية الكردية، وكل ذلك كان من نتاج طبيعة المرحلة، وكذلك الخيارات الإقليمية التي كانت تفرض نفسها ضمن أجواء الحرب الباردة، إضافةً إلى عدم امتلاكه القدرة على قراءة المعطيات السياسية وأخذه العبر من التجارب التي مر بها الشعب الكردي، ومع ذلك، فقد عبر الحزب وفي أكثر من مرة ومناسبة عن رغبته الجلوس إلى طاولة الحوار مع السلطة، والبحث سوياً عن إيجاد حلول سياسية للقضية الكردية تخدم الديمقراطية والتعايش السلمي بين المكونات القومية في الدولة، إلا أنه وأمام تعنت السلطة واحتكامها إلى لغة القوة، كان الحزب يجد نفسه أمام مواجهات لا يد له فيها ولا مفر، كما هو عليه الحال، حيث أن المواجهات الدامية بين الطرفين، هي في المحصلة لا تخدم مصلحة شعوب المنطقة ككل، ولا تخدم خيار التعايش بين أبناء الدولة التركية، وأن الجهة التي تتحمل المسؤولية في توتير الأجواء هي السلطة التركية وحدها، لأنها لو حاولت أن تتجه إلى طاولة الحوار والانكباب على دراسة الحلول للقضية الكردية، بدل من توجهها بآلتها الحربية صوب مواقع الحزب، لاستطاعت أن تحقق المكاسب للشارع التركي ولقضية التعايش السلمي بين المكونات القومية في المنطقة أكثر مما تدفعها من خسائر، وما تعمقها من مشاعر الحقد والكراهية بين أبناء البلد الواحد …
   إن السمة الأساسية للمرحلة التي نجتازها، هي الحوار والقبول بالآخر، وعليه؛ فإن اختيار جانب القوة وتغليبه على جانب العقل والمنطق، يستدعي منا الوقوف عنده، كون قضايا الشعوب لا تمحو عبر القهر، وإرادة البقاء لا تزول من خلال القمع وقرقعة السلاح، وإن كنا ندرك دور المصالح الدولية في بلورة أية حالة أو الإبقاء عليها ضمن خيارات النسيان، إلا أن كل ذلك سيكون مرهونا بمحددات وتوازنات هي بحكم الوقتية، وعليه، وإذا ما كانت هناك إرادة جادة في وأد العنف ولفظ موروثات ثقافة الدم، فإن المهمة الملحة تكمن في تمهيد الطرق وبناء جسور التواصل بين طرفي المعادلة في القضايا التي هي مثار الجدل والاحتقان، فهي وحدها الكفيلة بإخراج المسائل من بؤر الاحتقان، أما وأن تكون القضايا المصيرية وقضايا الوجود مجرد صفقات ضمن أجندات سياسية، فإن المستقبل سوف يحمل لنا خيارات قد لا نتمكن من التعامل معها..
   إن ما يمارسه النظام الطوراني من سياسات يهدف من خلالها إعادة الاعتبار لدوره وفرض أجنداته عبر إدعائه بملاحقة حزب إرهابي، مستفيداً في ذلك من الوضع الداخلي العراقي، والأجندات التي تهدف إلى لجم تطوره وتشكيله كتجربة ديمقراطية، ودولة تعددية فيدرالية، على أنقاض الديكتاتورية، هي لعبة في غاية الخطورة، لأنه وإن كانت التوازنات السياسية ضمن الخارطة الإقليمية، وحتى في الجانب الدولي، قد تساعده في أن يأخذ بعضاً من التأييد، إلا أن ذلك سيضع المنطقة برمتها على كف عفريت، وذلك نظراً للامتداد البشري والجغرافي للشعب الكردي بين أكثر من دولة من جهة، ومشاعره التي تتخطى حدود القطرية من جهة أخرى، وإذا ما أخذنا تركيبة حزب العمال من حيث أنه يضم في صفوفه مجموعات من باقي أجزاء كردستان، لأدركنا مدى الخطورة التي يقدم عليها النظام التركي، من تهديد للأمن والاستقرار في المنطقة، ومن هنا، كان حرياً بالجهات التي تحاول أن تتماهى مع توجهات المؤسسة العسكرية التركية أن تعيد النظر في سياساتها، وأن تركن إلى العقلنة وأخذ مصالح شعوبهم، قبل توازناتهم ومخططاتهم، بعين الاعتبار، فالتوصيفات التي يتم من خلالها نعت الحزب المذكور ووصمه بالإرهاب، يستدعي من جميعاً إعادة النظر لمفهوم حركات التحرر، كونها جميعها أباحت خيار الدفاع عن الذات، خاصةً وأن السلطة التركية لم تحاول أن تجنح إلى خيار المعالجة السياسية للقضية الكردية، مع أن روح العصر يتنافى وظاهرة العنف والعنف المضاد، تلك التي فيها هدر للطاقات واستباحة للدماء، وفيها هتك لكرامة الإنسان الذي ينبغي أن يحترم إنسانيته بغض النظر عن العرق واللون والمذهب، كونه خلق ليبني ولم يخلق كي يكون وقوداً لحروب أو أداة للهدم ..

   وأخيراً وليس آخراً، وانطلاقاً من فهمنا بأن ما تقوم به المؤسسة العسكرية التركية يستهدف بالدرجة الأولى التجربة الكردية في إقليم كردستان، وأن موضوع حزب العمال ليست سوى كماشة، من الكماشات المتعددة التي سنأتي على ذكرها لاحقاً، يحاول النظام التركي الدخول من خلاله للجم التجربة الكردية، فإن على الحزب يقع مهمة قراءة مفردات المرحلة وفق خياراتها واستحقاقاتها، وإعادة النظر في سياسياته، انطلاقاً من المصلحة القومية للشعب الكردي، الذي لا بد وأن يجسد ذاته عبر الخيارات السلمية الديمقراطية، ويحقق أهدافه من خلال التعايش بين مجمل المكونات القومية في المنطقة، وبالتالي أخذ زمام المبادرة عبر تبنيه لمشروع سياسي ديمقراطي، يمكنه من الدخول في مواجهات سياسية، بالاعتماد على طاقات الشارع الكردي ومناصري حقوقه القومية والديمقراطية، يفضح من خلاله ممارسات النظام الطوراني أمام الرأي العام، إلى جانب استيعابه لتجربة الإقليم، وتفهمه لوضع هذه التجربة الفتية وعدم دفعها نحو الحرج أمام المجتمع الدولي، لأن إقليم كردستان، شئنا أم أبينا، لا يشكل الامتداد الطبيعي لنشاطات الحزب، وإنما هو جزء من سيادة دولة غير معنية بما يجري في الداخل التركي، وكذلك ما يهدف إليه الحزب من برامج ومشاريع..

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…