حقوق الشعب الكردي بالأمس و اليوم وغدا

الدكتور سعد الدين ملا *

تعددت العوامل على مر التاريخ وتكالبت للقضاء على الهوية القومية للشعب الكردي.

فكانت بلاده مسرحا للصراع على النفوذ بين الفراعنة المصريين  والإغريق والفرس والروم والعرب والترك.

و تنافست الأديان من زرادشتية ويهودية ومسيحية والإسلام وغيرها على احتواء المجتمع الكردي المعرض دوما لغزو الثقافات الجديدة، الى أن قسمت بلاده وألحقت أجزاءها بأربعة دول قومية لتفرض عليها الحصار الاقتصادي  وتطبق فيها سياسة التجهيل والتخلف وتصادر الحقوق وتغير الديموغرافيا عبر التهجير والقهر والاستيطان بهدف القضاء عليه كشعب وهوية.
لقد كان الشعب الكردي من أوائل الشعوب الثائرة على السلطنة العثمانية والإمبراطورية الفارسية المقتسمتين لبلاده، و للحصول على دولته المستقلة قام بالعديد من الانتفاضات والثورات في بداية القرن العشرين وحتى الآن.

كل ذلك بدون أي اعتماد على القوى الخارجية، بل إنه قاوم الاحتلال الخارجي  في تركيا والعراق وإيران وسوريا بعد الحرب العالمية الأولى حيث تنصلت كل من  بريطانيا وفرنسا من اتفاقية سيفر 1920، فخسر بذلك صداقة الخارج في الوقت الذي خنث فيه القوميون الترك والعرب والفرس بوعودهم للكرد، رفاق الدرب، فأداروا لهم ظهر المجن بعد الاستقلال وتنكروا لحقوقهم كليا، ليخرج الكردي فعلا  وكما هو معروف، مغبونا من  كل فرصة سانحة.


 أما الأنظمة القومية ، كما الجماعات في الدول المحتلة لكردستان، تحمل في داخلها التناقض والصراع، و يأتي أمنها في مقدمة أولوياتها.

وللحفاظ على ديمومة مصالحها نراها تستقوي بالخارج باستمرار وتفرض نفسها قسرا.

فسيادتها كغيرها من الدكتاتوريات، تبقى وهمية ومخترقة في الكثير من الجوانب.

 ثم أن القوى الخارجية لا تزال كما يبدو، غير جادة في إيجاد الحلول اللازمة لمشاكل المنطقة، بل أنها وبهدف الاستنزاف  والمزيد من السيطرة  تفضل  إبقاءها غير مستقرة.

وبهذا يبقى الوئام مع الخارج شرطا لازما لضمان أمن ومصالح الجماعة وحاضنا للاستبداد والقهر في الشرق.

فعلى الرغم من الاتفاق التام بين تركيا وإيران والعراق وسوريا حول القضية الكردية إلا أنها لم تفلح حتى الآن في حل أي من المسائل العالقة بينها والتي تشكل بؤر صراع دائم بينها.


يتشابه الوضع الكردي في كل من تركيا وإيران وسوريا والعراق سابقا، في الكثير من جوانبه أو يكاد.

إذ تعتبر المناطق الكردية جسما غريبا في جسد الدولة وتشكل مصدرا دائما للقلق والخوف في لاوعي السلطات، ولذلك تستثنى من خطط التنمية ويبقى الكرد مبعدين من دائرة الدولة.

فالسياسة المتبعة حتى الآن تقوم على محاربة اللغة الكردية والحط من شأنها وإهمال بل تخريب البنية التحتية للمناطق الكردية وإخلائها من فرص العمل إداريا وإنتاجيا إلى جانب توتير الأجواء السياسية والاجتماعية لتصبح المنطقة فقيرة ومتوترة ويضطر الكردي إلى الهجرة بحثا عن الأمان والعمل ولقمة العيش في أماكن أخرى.

وبذلك تتم خلخلة المنطقة وتتغير ديموغرافيتها وتسهل للسلطات مراقبة النشطاء الكرد أو احتوائهم.

وهذا ما جعل وضع الأمة الكردية أدنى بكثير من وضع المستعمرات.

بل وصل الأمر بالشوفينية  إلى حد إنكار وجود قوميات أخرى غير التركية أو العربية في تركيا وسوريا وفي مقدمتها القومية الكردية، الأمر الذي يتعارض مع الواقع القومي والطائفي المتعدد لهذه الدول.
لقد تنوعت الأنظمة المضطهدة للشعب الكردي إلا أن أساليبها تشابهت في الكثير من جوانبها.

فقد انطلقت من أن الكرد جزء من نظرية المؤامرة ويتعاونون مع الأجنبي ـ الشرقي والغربي ، الأمريكي و السوفيتي وأخيرا الإسرائيلي، ويتطلعون إلى سلخ جزء من الوطن وضمه لدولة أخرى.

كما فرضت ثقافة نمطية صلبة حيال الكرد باعتبارهم  مصدر التخلف والفشل لتتحول المقولات الجاهزة هذه إلى ثقافة سائدة لدى الكثير من العامة والمعارضة في هذه الدول.
 إن الأمم السائدة هذه تعتبر نفسها كبيرة وتعطي لنفسها الحق في قهر واضطهاد الأمم الصغيرة والتنكر لحقوقها بل لوجودها.

ولذلك فإن توعية أبناء القوميات المتسلطة في تركيا وسوريا وإيران والعراق بضرورة احترام حقوق القوميات الأخرى والتأسيس للتعايش المتكافئ بين مختلف مكونات المجتمع من خلال نشر روح التسامح والتعاون أسوة بالشعوب الأوربية هي إحدى أفضل الطرق لحل المسألة القومية في هذه الدول وتحقيق دولة المواطنة فيها.

ذلك لأن الأمن والاستقرار والتنمية فيها متوقفة على ترسيخ الديمقراطية التي تتوقف بدورها على مدى تقبل المجتمع للمفاهيم الليبرالية وإعطاء كل ذي حق حقه.

وهذا لن يتأتى بدون الانتقال من الجمهورية القومية إلى الدولة الديمقراطية وإزالة كافة أشكال الاضطهاد عن كاهل الشعب الكردي وحل قضيته القومية وفق المواثيق الدولية.


في 12ـ03ـ2004 اندلعت انتفاضة الشعب الكردي في كردستان سوريا كرد فعل مباشر للقتل المتعمد للعشرات من أبناء الشعب الكردي ظلما من قبل الأجهزة الأمنية وعملائها ، وكنتيجة حتمية للاحتقان المتراكم بسبب الاضطهاد المستمر والتمييز العنصري والسياسات الاستثنائية المستمرة لعقود طويلة ضد الشعب الكردي.

وبذلك جاءت الانتفاضة لتكشف عن الحقيقة الكردية في سوريا ولتقضي على حاجز الخوف ولتؤكد على وحدة الشعب الكردي وتصميم جماهيره على رفض الواقع المزري  المعاش واستعدادها للتضحية في سبيل حقوقها المهضومة والمسلوبة.

كما حطمت الانتفاضة الجدار العازل الذي بنته الحكومات الشوفينية  والنظام البعثي لعزل الشعب الكردي وتطويق قضيته القومية.

وظهر واضحا مدى استعداد غلاة القوميين العرب لإلحاق الأذى بالشعب الكردي والتضحية به قربانا لعزلة النظام والأزمة الاقتصادية، وتبريرا للوجود الغربي والتغييرات الجارية في العراق وعربونا للتنسيق التركي السوري الإيراني.

فلم تتم محاسبة المسؤولين عن قتل 40 كرديا ولم يلبى أي مطلب كردي حتى الآن مثل إعادة الجنسية لأكثر من 400 ألف كردي وإلغاء الحزام العربي، بل تزداد وتيرة الاضطهاد القومي يوما بعد يوم.


إن النضال في سبيل الحقوق القومية هو نضال في سبيل الديمقراطية وإن تحريم هذا النضال بأية ذريعة كانت هو خيانة للديمقراطية.

 فالحركة الكردية في سوريا عموما تنبذ العنف وتلتزم بالقواعد الديمقراطية.

 وبفضل النشاطات العملية السلمية لبعض فصائلها، ومنها حزب يكيتي الكردي في سوريا، مثل المسيرات و الإعتصامات  الاحتجاجية، شكلت سابقة جديدة في الحياة السياسية في ظل النظام البعثي الشمولي ـ الاستبدادي وتمكنت من كسر العزلة المفروضة على القضية الكردية وفتح أبواب الحوار مع رموز المعارضة العربية.

وعلى الرغم من بقاء مواقف بعض أطراف المعارضة السورية  مثل ( إعلان دمشق) و(جبهة الخلاص) دون المستوى المطلوب من القضية الكردية واستحقاقاتها وافتقارها لبرنامج التغيير اللازم.

إلا أن (التجمع القومي الموحد) قد بادر أخيرا إلى إعلان اعتماده مبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي ليشكل خطوة جريئة و متقدمة من شأنها لو تحققت في سوريا  أن تصبح نموذجا يحتذى  به في دول الجوار  ويضع الشرق الأوسط على أعتاب ثورة حضارية حقيقية.


إن جوهر الصراع التاريخي للشعب الكردي يكمن في انتزاع الاعتراف بهويته وأن يبقى كرديا في أرضه.

وهو وإن فشل في نيل حريته حتى الآن إلا أنه تمكن ولو نسبيا من التشبث بأرضه والحفاظ على لغته وفولكلوره.

ولن يرضى الشعب الكردي في سوريا  أو الدول الأخرى بديلا عن التعايش السلمي والمساواة التامة في الحقوق والواجبات مع العرب والترك والفرس  والمكونات الأخرى في دول تسودها الديمقراطية فعلا وتحترم فيها حقوق الإنسان بدون نفاق.

إذ لم يعد خافيا أن الكردي قد ألحق، أرضا وشعبا، بهذه الدول بدون إرادته، وقد أحيكت المؤامرات والمشاريع العنصرية المختلفة للقضاء على هويته وتصفيته كشعب، وإنه لا يرضى اليوم بأن يستمر هذا الاضطهاد والحرمان ويظل مستثنيا دون جميع شعوب العالم من حق تقرير المصير.


ومن البديهي أن تحقيق كل هذا مرهون أولا بتلاحم الشعب الكردي الذي يسكن جغرافيته الموحدة ويناهز تعداده أربعين مليونا ويشكل أكبر قومية في العالم محرومة من دولتها المستقلة، إلا إنه وللوصول الى هذا الهدف لابد من تكاتف الجهود للعمل في سبيل:  
ـ أن تلتزم منظمة الأمم المتحدة فعلا بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وتلزم أعضاءها بتنفيذه، وتشرع مبدأ التدخل لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة والثقافية والمعنوية، وأن تلجأ الى فرض العقوبات المختلفة على الدول الرافضة والتي تخرق مبادئ حقوق الإنسان.


ـ تحمل الدول الكبرى لمسؤوليتها التاريخية والأخلاقية عما يعانيه الشعب الكردي وتخليها عن سياسة الكيل بمكيالين في ما يخص هذا الشعب ووقف التعامل مع قضيته بمعايير مزدوجة في علاقاتها الدولية  واستخدامها ورقة مساومة لخدمة النفوذ السياسي والمصالح الاقتصادية والنفطية.
ـ على الحكومات الديمقراطية والمنظمات الإنسانية الوقوف بشكل واضح وصريح إلى جانب الشعب الكردي في نضاله العادل لإيجاد حلول ديمقراطية لقضيته القومية في البلدان المقتسمة لكردستان.
ـ العمل على عقد مؤتمر دولي حول القضية الكردية تمهيدا لمناقشتها في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى.
ـ تثبيت الحقوق القومية الكردية في دساتير الدول المقتسمة لكردستان.
ـ وضع  مراقبين  دوليين في المناطق الكردية لمراقبة وضع حقوق الإنسان فيها.


——-

  * مداخلة الدكتور سعد الدين ملا (عضو اللجنة السياسية لحزب يكيتي الكردي في سوريا / مسؤول تنظيم الخارج) في الاجتماع الذي نظمته حركة السلام الألمانية بالتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورغ في ألمانيا / برلين،  بتاريخ 12.01.2008

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…