آغري : مكافأة الجاني ومحاكمة الضحية

م .

بافي ژيـن

في مقالة له نُشِرَت في الحياة اللندنية, تناول الكاتب موضوعاً بعنوان (الأكراد وحمل السلاح : أسطورة حان وقت تركها) * ، إنني أسجل اختلافي مع الكاتب عندما حاول, أن يسدل الستار على جانب مهم من التاريخ النضالي المسلح للحركة التحررية ومرحلة الكفاح المسلح, بل ذهب إلى أبعد من ذلك, حين حملت الحركة التحررية الكردستانية وِزرَ المآسي والآلام التي مورست بحق الكرد من قبل الطغاة , وفيما يلي أورد بعض المقتطفات من مقالته وأحتفظ لنفسي حق الرد والتعليق عليها :     
(… الجبل هو الصديق الوحيد للكرد.

الآن يتبين للجميع أن تلك الصداقة لم تجلب سوى الويلات، وقد حان وقت التخلي عنها)
لا ياعزيزي نزار, ماهكذا يُنصَف الأصدقاء الذين قدَّموا ملاذاً آمناً لبني جلدتك ,درءاً من خطر الذين حاولوا مراراً أن يقلعوهم من جذورهم , ويمحوهم من وجه البسيطة , فلولا الصداقة الحميمية والأزلية بين الكرد و جبالهم الأشم, لما بقيت ” حيرانوك ”  (نوع من أنواع الأغاني الكردية القديمة) ولما كانت ” لالش ” (قبلة الكرد الأولى وأس عقيدتها ) وما كان علم كردستان يرفرف في سماء الوطن, ولما ترأس أحد أبرز أصدقاء الجبل (مام جلال) قيادة العراق الاتحادي الفيدرالي, وكاك مسعود القائد الذي لازم الجبل وأبى أن يغادر جبال كردستان وكهوفه حتى النصر والتحرير؛ فصادق الرئيس البارزاني الوعد وأوفى العهد .

 
(… وجد الأكراد أنفسهم مدفوعين إلى اللوذ بالجبال وحمل السلاح حتى غدا هذا السلوك جزءاً من شخصيتهم.

هم رفعوا السلاح في وجه الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية ولاذوا بالجبال)
يناقض الكاتب نفسه تماماً عندما يؤكد في البداية على أن هناك من يدفع الكردي على حمل السلاح, وهذا صحيح ولا غبار عليه, ويبرز وجه التناقض جلياً عندما يضع اللوم على الكردي لأنه حمل السلاح,  ناسياً إن الغريزة تدفع الكائن الحيّ للدفاع عن نفسه, ويلجأ إلى أية وسيلة للحفاظ على كيانه؛ فما لبث الكردي أن وجد ضالته في حمل السلاح والتضاريس الوعرة, للاحتماء بهما خوفاً من خطر الإبادة والفناء , ثم من قال إن الكرد حملوا السلاح في وجه العثمانيين والصفويين وتمردوا عليهما ؟ ألم يحارب كل من (الصفويين والعثمانيين) باسم الدين أو العرق أو المذهب الشعب الكردي ؟ ومن منا لم يقرأ عن المجزرة في عهد السلطان سليمان القانوني؟ حين أوعز لوالي موصل ,القيام بحملة عسكرية ضد الكرد الأزيديين في مناطق سكناهم ؛ فقتلت أطفالهم واستباحت أرضهم وعرضهم, وجاءت بالأحياء منهم ليخيروا بين حدّ السيف ,أو شهادة (لا إله إلا الله) فبلغ عدد الضحايا مائة ألف كردي أزيدي , بنوا من جماجمهم منارة عالية صعد عليها المؤذن يصيح بأعلى صوته (لا إله إلا الله) فهل هؤلاء العزل شهروا السلاح في وجه السلاطين ليقدموا على فعلتهم النكراء هذه ؟!…(حول الواقعة انظر:  أحمد أمين ظهر الإسلام , ج 4 ص131)   
يذكر الأستاذ نزار بعض الثورات والانتفاضات الكردية المسلحة في إيران وفي تركيا والعراق, كانتفاضة الشيخ سعيد وآرارات وديرسم وكوجكيري وزيلان وحركة الشيخ محمود الحفيد وأحمد البارزاني وثورة الخالد مصطفى البارزاني , ثم يتعرج على ذكر بعض المنظمات العالمية المسلحة: كحركة الجيش الأيرلندي , ومنظمة إيتا في منطقة الباسك الأسبانية وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي برئاسة نيلسون مانديلا, وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة, ليخلص إلى نتيجة مفادها أن جميع هذه الثورات والانتفاضات والحركات المسلحة لم تفشل فحسب, بل جلبت لشعوبها الويل والبثور , وأن النظم المستبدة مارست القتل والتشريد والسجن والإبادة لشعوبها رداً ,على ما تقوم بها الفصائل المسلحة للشعوب المضطَّهدة , وإن اعتبرنا القول صحيحاً ؛فهل الحركة الكردية في سوريا تقود كفاحاً مسلحاً, ليقوم النظام بسياسة التعريب والتهجير والقتل والسجن والاعتقال والتجريد من الجنسية و….الخ ؟     
  أن الكاتب يلوي عنق التاريخ وفقاً ما يقتضي أهوائه ورغباته, ويحاكم جزءاً من مجريات الحدث الماضوي (الثورات والانتفاضات المسلحة) حسب المنطوق السياسي الراهن, دون وضع عامل الزمن والظروف الذاتية والموضوعية والسياسات الكونية المتغيرة والمتجددة في الحسبان, هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية هل يستطيع الكاتب أن ينكر نجاح العشرات من الثورات المسلحة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية التي انتصرت بفعل البندقية, وأوصلت شعوبها إلى حيث الحرية والاستقلال ؟ إذاً فلكل قاعدة شواذ وقد تكون الحالات المذكورة من قبل الكاتب (عدم النجاح الكفاح المسلح في هذه الرقعة أو تلك) من شواذ القاعدة ,أو لأسباب يتعلق بمصالح ومنافع القوى العظمى وجغرافية المنطقة وبما تحمل من مزايا وثروات اقتصادية, كالنفط أو المياه وغيرها حالت دون النجاح  .

 
 (ينبغي على المقاتلين أن يخرجوا من مستنقع الكراهية الذي يغرقون البلاد والعباد فيه إلى فضاء التفاهم والانتقال من جبهة النيران والرصاص إلى ورشة العمل المنتج.)
يطالب الأستاذ آغري المقاتلين الكرد (الثوار) التنازل عن السلاح, لأنه يسبِّب الحقد والكراهية , والسؤال المُحَيِّر هل الكردي يهوى حمل السلاح وسفك الدماء وقتل النفس البريئة ؟ أم أنه ميال بطبعه للتسامح وحب الحياة وعشق الطبيعة وجمالها ؟  
أعتقد أن النظم والحكومات الظالمة ,هي التي ضيَّقت الخناق على أبناء جلدتك يا أستاذي الكريم, لا لشيء فقط لأنهم ولدوا أكراداً ليس إلا , وأرغمت عشرات الآلاف منهم على الهروب من أوطانهم, وقد تكونُ (أنتَ) أحدهم ممن الذين حورب في لقمة عيشه ,وأوصدت جلّ الأبواب في وجهه, وحال دون أن ينعم براحة البال ورغد العيش في وطنه وبين أقرانه وأترابه .

ورغم معارضة الكاتب للعمل المسلح فإنه ينزلق من حيث يدري أو لا يدري, إلى صف المعتدي , ويشن هجوماً لاذعاً يفوق قوة البندقية على حزب العمال الكردستاني, وعلى الثورات والانتفاضات الكردية- حديثاً وقديماً – ويصفها بالتمرد والعصيان على خصومهم ,قد لا تخلو الثورات والملاحم النضالية للحركة التحررية الكردستانية  من الأخطاء والنواقص ولكنها لا تستحق هذه المحاكمة القاسية وغير العادلة , من كاتب كردي له حضوره المميز وثقله في الوسط الإعلامي المحترم ,حيث يكافئ الجاني (النظم المستبدة) ويحاكم الضحية (الإرث النضالي القومي والتاريخي للشعب الكردي) رمياً بالرصاص, ولا شك أن قادة الحركة التحررية الكردية ,أصروا دوماً على استخدام لغة العقل والحوار ,سبيلاً لحل قضيتهم ، ولكن جوبهت هذه اللغة في كل مرة بالرفض الاستنكار من قبل الحكومات المتعاقبة على دست الحكم في الأجزاء الأربعة من كردستان, فالكرد ليسوا طلاب قتل وتدمير – كما صورهم الكاتب – وسجل الزعيم الخالد مصطفى البارزاني, حافل بالنبل والتسامح والعفو عند المقدرة, وجاء جريمة اغتيال الدكتور عبدالرحمن قاسملو (أحد أبرز دعاة الحلّ السلمي للقضية الكردية واستشهد من أجل طرحه) ومن بعده الدكتور صادق شرف كندي ورفاقهما على يد أزلام النظام الإيراني, وهم حول طاولة المفاوضات والحوار السلمي مع المسؤولين الإيرانيين .

لا يخفى أن الشعب الكردي من أشد الشعوب إيماناً والتصاقاً بقضيته القومية العادلة وتمسكاً بها, إلا إن الحكومات الغاصبة تصرّ دائماً على لغة القوة والتسلط وتعتمد على آلتها العسكرية المدمرة سبيلاً لمعالجة أزماتها وصولاً إلى منطق الحق لا حق القوة .

   
  (… تركيا دولة علمانية وديموقراطية، وحكومتها الحالية من أكثر الحكومات التركية تسامحاً مع الأكراد وهي تعمل على ترسيخ المزيد من الآليات الديموقراطية وتحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان) .
إن الدولة التركية ليست علمانية وديمقراطية كما يدعي الأخ آغري, وهويتها السياسية لم تتبلور بعد؛ فهي خليط غير متجانس من المؤسسة العسكرية وبواجهة سياسية منذ الثمانينات ، والآن مع حزب العدالة الإسلاموي ؛ وديمقراطيتها المشهودة تنبع من خلال سجلها الأسود في مجال حقوق الإنسان (الشعب الكردي) وبشهادة دول الاتحاد الأوربي والمنظمات الحقوقية والتي تحول دون قبولها في الاتحاد ,وأما تسامحها مع الكرد يبدو واضحاً من خلال رمي آلاف الأطنان من الذخائر والصواريخ على القرى الكردية الآمنة داخل وخارج الحدود التركية ,وخلق الذرائع والحجج الواهية للتدخل العسكري في الشأن الداخلي للإقليم الكردي, للحيلولة دون نجاح التجربة الديمقراطية في كردستان, ومعارضتهم العلنية لتطبيق المادة / 140 / من الدستور العراقي الذي صوت لإقراره غالبية الشعب العراقي ,وبجميع أطيافه العرقية والدينية والمذهبية ؛ فهل الحكومة التركية الحالية بهذه المواصفات تندرج تحت يافطة الحكومات الديمقراطية في العالم ؟!!
قد يكون السيد آغري محقاً في دعوته إلى نبذ العنف والكفاح المسلح في الوقت الحالي؛ فالعمل السياسي قد يكون له تأثيره الأكبر في ظل انتفاء الحرب الباردة, وبروز مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان, ومناهضة المجتمع الدولي لحالة الإرهاب, التي تمارسها الجماعات الدينية المتطرفة في أصقاع الدنيا، ولكنه جانبَ الصواب عندما أسقط جدلية الزمان والمكان من حساباته, وعمل على محاكمة الماضي وفق مفهوم الحاضر .

  
أخيراً أسجل تقديري للأخ نزار آغري وقلمه النشط ,رغم إنني لا أعرفه ولم يحصل لي شرف اللقاء به, بل توطدت معرفتي له من خلال كتاباته عبر صفحات الجرائد وغيرها من وسائل الإعلام , ثم أقر بأن للحق أوجه عدة ,لا يحق لأحد أن يحتكره دون الآخر؛ فالجميع يجهد للوصول إلى الحقيقة من خلال منظوره الخاص , وحسبي إني بينت بما أعتقد ملامسة جانب الصواب.
——-
* للإطلاع على المقالة أحيل القارىء إلى جريدة الحياة في عددها الصادر في 4/ 1/2008 / بعنوان : الأكراد وحمل السلاح : أسطورة حان وقت تركها – نزارآغري 30/12/ 2007 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…