صلاح بدرالدين
في قديم الزمان وكما تشير اليه الادب الشعبي الشفهي ، والاغاني المسجلة باجهزة التسجيل القديمة ، وفي زمن لم يظهر فيه لا التلفزيون ، ولا البث المباشر ، ولا الراديو ، كان المطربون الشعبييون في بلاد الكرد يجسدون باغانيهم سير المعارك بين العشائر ، والقبائل او بين بعضها وجيش السلطات التركية الحاكمة ، ويصفون ادق تفاصيلها ، وينقلون التهديدات المتبادلة بين زعماء المتحاربين وعلى السنتهم – افتراضيا – من دون ان يكونوا مشاركين ، او كانوا بعيدين عن ميادين المواجهات مئات ، وآلاف الكيلومترات ، اما اليوم فالامر مختلف حيث تقوم – الفضائيات المملوكة للمتحاربين ومانحيهم – بدور المغنين مع قيام زعماء المتحاربين خاصة في صفوف الميليشيات غير النظامية ، وحتى لدى بعض الأنظمة الشعبوية التي يديرها الفكر الشمولي ، بالقيام بالمهمة عبر البث المباشر ، كما يجري الان بين إسرائيل ، وايران ، وميليشياتها في لبنان ، واليمن ، والعراق ، وسوريا .
صراعات القبائل ، والعشائر قديما كانت حول مساحات الرعي ، والنفوذ المحلي المحدود ، او الزعامة ، والوجاهة ، او لاسباب تتعلق بحرية الكرد واستقلالهم ، وكان المغنون يضعون كل ذلك وبشكل مجازي في اطار الشرف ، والكرامة ، والدفاع عن العرض ، اما الصراع الدائر المزمن في المنطقة فيدور تاريخيا بين مشاريع سياسية تعبر عن مصالح الدول ، والحكومات ، والشعوب التواقة الى الحرية والاستقلال والخلاص من الدكتاتورية وبينها الشعب الفلسطيني ، والذي شوهته النزعات المذهبية التي تقودها ايران مستغلة معاناة الشعب الفلسطيني ، ومحنة شعوب المنطقة في ظل الأنظمة المستبدة ، وجيرته لبسط نفوذها المذهبي ، والسياسي عبر ادواتها من الميليشيات الطائفية وفي المقدمة مسلحو حزب الله الذي يصف زعيمهم – حسن نصرالله – بان الصراع الراهن مع إسرائيل هو مسالة الشرف تماما كماكانت توصف قبل مئات السنين .
الميليشيات المسلحة باطيافها الدينية ، والمذهبية ، والقوموية ، والتي ظهرت تباعا ومنذ عدة عقود في ظل عجز وهزائم الطبقات والفئات الاجتماعية السائدة التي خلفت المستعمر ،واخفاقاتها في بناء الدولة الوطنية ، وإنجاز المهام الاقتصادية ، ووضع الأساس الراسخ للبنى التحتية ، وتوفير شروط حل القضايا العالقة وبينها القضيتان القومية ، والوطنية ، وقد ساهمت الأنظمة التي ظهرت بفعل الانقلابات العسكرية المدعومة من الدوائر الخارجية المعادية لحرية وتقدم الشعوب والتي استظلت بالشعارات الدينية ، والقومية المتطرفة وفي المقدمة أنظمة البعث في سوريا والعراق ، ونظام الجمهورية الإسلامية في ايران .
مانراه اليوم من منظمات ميليشياوية مسلحة في بلدان المنطقة من لبنان الى اليمن مرورا بسوريا والعراق وفلسطين ، وبالرغم من شعاراتها البراقة الزائفة لاتمت بصلة الى الكفاح الوطني التحرري ، والتقدم الاجتماعي ، بل ماهي الا تجسيدا مشوها لردة فكرية ، وثقافية ، واخلاقية مشدودة الى ظلامية القرون الوسطى ، هدفها الأساسي وأد الديموقراطية ، وهدم كل مايتعلق بإرادة بناء دولة المواطنة الحديثة ، وسيادة القانون ، والتطور الطبيعي ، وزرع الفتن الطائفية بدلا من الصراع التاريخي الفكري والثقافي بين ارادتي : الحرية والعبودية ، والتقدم ، والتخلف ، والديموقراطية والاستبداد ، والسيادة الوطنية والاحتلال الأجنبي .
هذه الميليشيات المسلحة برمتها مع داعميها ، ومرجعياتها ، وبتواطئ من دول كبرى ، ومن دون استثناء وفي طول المنطقة وعرضها شكلت احدى الاذرع الموجعة في ضرب – ثورات الربيع – بموجتيها الأولى والثانية عسكريا ، وثقافيا ، واقتصاديا : حاولت جماعات الإسلام السياسي الاخوانية بشكل خاص التسلل ، والسيطرة على مقاليد تلك الثورات من اجل – اخونتها واسلمتها ، وافراغها من المضمون الوطني الديموقراطي الثوري – في تونس ، ومصر ، وليبيا ، وسوريا ، وقامت الميليشيات المسلحة التابعة لنظام طهران بما فيها جماعات – ب ك ك – بمحاربة تلك الثورات والانتفاضات في سوريا ، واليمن ، والعراق ، وايران ، وليبيا ، كما قامت وتقوم وبشكل ممنهج في تزوير تاريخ نضال شعوب المنطقة ، ومحو اثار النضال الديموقراطي في تلك البلدان .
من حق الشعب الفلسطيني وعبر ممثليه الشرعيين ، ومنظمة التحرير الفلسطينية ، انتزاع حق تقرير المصير ، وممارسة النضال باشكاله المختلفة لتحقيق ذلك ، ومن واجب المجتمع الدولي دعم الحقوق المشروعة للفلسطينيين ، وممارسة الضغط على الاوساط الإسرائيلية اليمينية الحاكمة الموغلة بالاجرام في الاشهر الأخيرة خصوصا للتوقف عن عمليات الإبادة وارغامها على قبول الدولة الفلسطينية المستقلة ، والاعتراف بها ، اما الإشكالية الكبرى امام مؤيدي الحق الفلسطيني فهي ان من يحكم غزة ، وتسبب في الجولة الأخيرة من الحرب اكثر يمينية من الحكومة الإسرائيلية ، خصوصا شراذم الإسلام السياسي مثل ( حركتي حماس والجهاد ) والممولة ، والمسلحة ، والمدفوعة من نظام طهران التيوقراطي ، فهي تغامر بشعب غزة منذ السابع من أكتوبر لخدمة المشروع الإيراني بالمنطقة الذي لم يعد سرا او لغزا ، الى درجة التضحية بشعب بأكمله ، وقضية عادلة برمتها ، وكما يفعل حزب الله بلبنان خارج اطار الشرعية وكدويلة داخل دولة واضعا لبنان كله في طريق الدمار ، وهكذا الحال مع الحوثيين باليمن ، وفصائل الحشد الشعبي بالعراق ، والسلطة المهزوزة لنظام الأسد في سوريا .
نظام ايران ومنذ سيطرة – ايات الله – عام ١٩٧٩ ، وإدارة الدولة من جانب الحرس الثوري ، والمتعصبين المذهبيين ، يكابر، ويمارس الدكتاتورية بابشع صورها ضد شعوب ايران ، ويضلل شعوب المنطقة ، ويتامر عليها ، ويبث الفرقة الطائفية ، ويحارب فكرة قيام الدول وحفظ سيادتها ، ويضلل مجموعات الإسلام السياسي الشيعية منها والسنية ، ويمارس الازدواجية المفرطة حيال القضية الفلسطينية ، خدمة لمشروعها الإقليمي ، ومصالح الفئات القومية الحاكمة تحت ستار الدين والمذهب ، فرغم كل الاهانات ، والضربات المتلاحقة التي يتلقاه النظام يوميا من إسرائيل حتى بالداخل ، لم يصدر منه سوى الردود الكلامية ، او اصدار الأوامر لاذرعها الماجورة في لبنان والعراق واليمن وسوريا لتوجيه صاروخ او قذيفة من دون المساس بامن إسرائيل في الصميم .
ايران وميليشياتها المسلحة قادرة على الحاق الأذى بإسرائيل ولكن ليست بوارد القضاء عليها ، وإسرائيل لم تقرر القضاء على نظام الملالي ، ولا على حزب الله ، ولا على الحوثيين ، ولا على نظام الأسد ، والصراع الدائر الان من كر وفر لن يتعدى تكتيكات إدارة الازمة ، في حدود الحفاظ على قواعد الاشتباك المتفقة عليها بين الغرب ، والنظام العربي الرسمي، وايران ، وإسرائيل ، وحتى لو كان هناك من يسعى الى تدمير إسرائيل فانه يصطدم بامرين لايمكن تجاوزهما بالمدى المنظور : الامر الأول هو امتلاك إسرائيل للسلاح النووي التكتيكي والاستراتيجي ، وهو جاهز للاستخدام في حال شعور حكام إسرائيل بالخطر ، والامر الثاني لن يوصل نظام طهران الصراع الى أوجه خوفا من اقدام إسرائيل وامريكا على تدمير كل مابني منذ عقود في مجال الوصول الى انجاز القنبلة النووية .
ايران الجمهورية الإسلامية بنظامها المذهبي – القومي – العسكري – الأمني المستبد تشكل الخطر الأكبر ليس على شعب كردستان ايران فحسب بل على مجمل الحركة الكردية بالمنطقة ، وهي من تقف وراء كل المصائب التي تحيق بشعب كردستان العراق ، وتحد من تطوير ، وانتعاش فيدرالية الإقليم ، وديمومة الخلاف الداخلي ، واختلاق المشاكل الأمنية ، والقانونية بين أربيل وبغداد ، وكل مايتعلق بالنفط والغاز ، والموارد ، والصلاحيات ، والمستحقات المالية ، واكثر من ذلك فان كل ماحصل من مآسي للحركة الكردية السورية منذ عدة عقود وحتى الان فان لهذا النظام البغيض دور سلبي فيها وكنا قد اشرنا مرات لبعض الجوانب .
كل التهديدات الكلامية من جانب نظام طهران وميليشياتها ، وحتى لواقترنت بهجوم صاروخي هنا وهناك فانها لن تتعدى ارسال الرسائل – المشفرة – الى الأطراف وخصوصا – الأمريكي – الأوروبي – الإسرائيلي ، تدور حول مصالح ايران ودورها في المنطقة والعالم ، والعلاقات المستقبلية ، ولاتتضمن مشاريع او مبادرات ، او شروط لحل القضية الفلسطينية كما يريدها الشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية ، وممثله منظمة التحرير . وهما غير معترف بهما من جانب ايران أساسا .