رامان إبراهيم: أنتلجنسيا كُردية ومن رموز المآساة السورية

 

شفان إبراهيم

 

لا سماء تقي الشباب من برد الشتاء، ولا أرضً تحمل طموحاتهم. يجرون ذيول الصدمة الأبدية مع أول ساعات النجاح العلمي، والذي إلى ما قبله بسويعات، لا يزال العقل البشري يُفكر بحجم “الطموحات” التي تنتظرهم. الشباب، مهلاً بالشباب ورفقاً بهم، قوة مجتمعاتنا، وشيفرة تغيير واقعنا، ومدماك بناء المستقبل، هؤلاء إما إن البحر أو الحوت أبتلعهم، أو فقدوا حياتهم في الغابات، أو قضوا نحبهم في المعارك، أو ضمن مشاريع الفرار الأبدي، وكأن هجرة الشباب تحولت إلى “الخلاص من السفر برلك” كما قالها أحد الشباب وهو يهم بالقفز على أسواراً حديدية مرتفعة في نقطة العبور بين تركيا وسري كانيه.
المهندس رامان فرحان إبراهيم (23 عاماً)، الذي قضى نحبه في غابات صربية، قصة جديدة تضاف لماسي السوريين بعد عشرات الآلاف ممن غرقت بهم زوارقهم الشراعية، أو ما توا في طريق الهجرة، أو من نهشت الكلاب أجسادهم. وهو جزء من قوافل الانتلجنسيا الكردية بذاكرتها ومآسيها وأفراحها القليلة، التي تمضي بوتيرة متسارعة صوب بلاد الغرب، بحثاً عن أماناً مفقود، ومستقبل مهدم، وبعداً عن بندقية تُعلن عن نيرانها رشاً ودراكاً، ثم تفكر لماذا.
ثلاث وعشرون صفحة من الحياة، قلَّبَتْها الأقدار واحدة تدفعُ الأخرى على عجل؛ على أمل الوصول السريع إلى المبتغى. تتشابه طفولة “رامان” مع طفولة السوريين دوماً، وهي الطفولة الفاقدة والعارية من كل معانيها وحيواتها، وبل إن طفولتنا نحن السوريين عامة والكُرد خاصة، تُشبه يتامى الأم والأب، أو كمن يهيمُ على وجهه في البراري بسبب كلُ شيء. ثلاث عشرة عاماً قضاها “رامان” في هذه البلاد منذ بداية الحدث السوري، كمثل غيره لم يهنئ لحظة واحدة بأيَّ شيء، شقاءٌ وتعاسةٌ وتفكيرٌ أرهق كُل جزئيات روحه وجسده، إنها بلادنا التي تقتص من مواليدها، فتمتص كُل طاقاتهم وترميهم جثة هامدة لا حراك ولا روح فيها، وإن بقيت على قيد الحياة.
بلادنا هذه أشبه بمومس عارية، عارية من كل شيء، وهي المومس التي لا تهتم سوى بعريها، ركض “رامان” كمن سبقوه، ومن سيلحق به، رفضاً لذلك العري، فعاد عارياً، كالعديد من شبابنا، في صندوقاً خشبياً إلى مثواه الأخير، حيث يرقدُ بأمان يفوق أماننا نحن من لا زلنا نعتقد إننا على قيد الحياة، ولسوء الحظ إن شجاعتنا ميتة، ولولاها من يدري رُبما كُنا سنرافق رامان في الذهاب أو الأياب. اراقب الدموع على خدود الرجال والنساء أثناء الدفن، دموعٌ حائرة تبكي لأسباب كثيرة، تبحث حولها عن كتل ضخمة من الشباب المُهاجر، أم تبحثُ في المصير الذي ركض له “رامان” وأيُّ مصيراً عاد به. تلك الدموع التي زُرفت رسمت معبراً من الطين والتراب المتراكم على وجوه الحضور، و الشابة ” x”  تتحدث مع دموعها عن فقدها لذكرياتها ومستقبلها مع “رامان”، قطعة المسافات بروحها وعيونها اللتان راقبتا كل شيء، وبقيت متحسرة على لحظة الوداع الذي لم يتم، فلا يعقل أن يكون الإنترنيت في بلادنا أو شبكة الهاتف، بشكل جيد، هذا عيب وحرام، كُل شيء، يعني كُل شيءً، يجب أن يكون سيئاً، وإلا لن تكون هذه البلاد، هي بلادنا التي نعرفها جيداً.
مدفونٌ أنت الآن يا مُشعل الجروح، ارتحت ولم تُرحنا، وبقي من إرثك ذكراك وأحاديثك التي يخشى النظر إليها الكسالى، ذهب صوتك وجسدك، وذهبت أحلامك، وبقيت أقلامك الرصاص والحبر بلا مقوداً على طاولة دراستك، وأيُّ دراسة تلك التي، لا أنت ولا نحن لم نهنئ بها، أهً حتى شهادتك المرهقة بغيابك لن تُعلق بيديك في إحدى زواية منزلك.
مستريحٌ أنت الأن، تماماً كما كان حديثك معنا، ومشيتك، وتفكيرك، وضحكتك، وانزعاجك.. كلها احتفظت بها لوحدك حيث ترقد يا رجُل. عجبي منك يا “رامان” في حياتك وعلمك ودراستك ورحلتك وسفرك، بما فيها موتك ورحيلك، كنت بقمة الفخامة والهدوء، هنيئاً لك هذا الحشد والاهتمام الكبير، و هنيئا لنا قدومك إلينا محملاً على أكتافنا، فالألاف قضوا نحبهم دون أن يُعثر لهم على جزءً من أجسادهم.
الشاب المهندس رامان فرحان إبراهيم، /23 عاماً/ من مدينة القامشلي،  أعزب وله شقيق واحد. حلم بالعيش في بلدٍ تُحترم فيه الكرامة والعلم، خرج عبر الهجرة الغير شرعية من تركيا إلى بلغاريا ومنها إلى صربيا، والذي لم يتمكن من إتمام مسيرته، وفقد حياته في نهايات الشهر السابع لعام 2023 في غابات صربية وحيداً دون سند.  حاصل على الإجازة في هندسة المعلوماتية من جامعة قرطبة الخاصة في القامشلي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…