نبش الماضي وحفريات التاريخ

كفاح محمود
   منذ مئات السنين، ونبشُ التاريخ يستهلكُ شعوبَ دولنا ونُخَبِها السياسية والفكرية والدينية حتى تلاشت الرؤية، ولم يعد البصر والبصيرة يرى بوضوح معالم الحاضر والمستقبل، فقد غرقت بحكايات جدّتي وصراعات الأوّلين على السلطة والمال، حتى انقسمت إلى فريقين كل منهما تبنى أحد المتصارعين التاريخيين، ثم ما لبثوا أن أصبحوا فرقًا وطوائفَ وجماعاتٍ، وغادروا الحاضر ونكروا المستقبل، واندسوا بين طيات التاريخ العميقة وهم يمثّلون أدوار المتصارعين، ويتلبّسون أرواحهم وأفكارهم، واستبدلوا السيوف بالرّشاشات وساحات عكاظ والمربد بمنابر الفيس بوك والتويتر وبقية أسواق الشعر والفكر والغناء!
   لو قارنا بين الجهود المبذولة في استحضار التاريخ وصفحاته وأحداثه وصراعاته وتأويل أسباب عقده وتفسيرها، وما ينفق عليها من مال وفعل وضغوطات نفسية واجتماعية وصراعات تركت في اعماق النفس البشرية بصماتٍ سوداء غيّرت المزاج العام بشكل مخيف انعكس على سلوكيات المجتمعات ونتاجها الحضاري، لو قارنا كل ذلك مع الجهد المبذول للتحوُّل من الوضع البائس الذي تعيشه شعوبنا فيما يتعلق  بالخدمات الخاصة لحياة المواطن ومستويات معيشته، أو في حقول الطاقة وصناعاتها، وفي الزراعة والأمن الغذائي والصناعة والاكتفاء الذاتي، لرأينا البون الشاسع والخطير بينهما.
   حقًا لو أننا أنفقنا ذلك الجهد الضائع في نبش التاريخ وصفحاته وما تنتجه تلك العملية من شدّ نفسيٍّ وإشاعة للفرقة والفتنة والصراعات العبثية وإعادة تدوير صفحات ومواقف واختلافات من التاريخ الجدلي لشعوب هذه المنطقة وعقائدها وانتماءاتها، لاستطعنا بذلك الجهد تغيير واقع هذه البلدان وحياة شعوبها إلى مستويات رفيعة تنافس أرقى بلدان العالم حضارة وتقدمًا.
   في التاريخ صفحاتٌ ناصعةٌ وعِبر لِمَن يريد أن يكون حاضره جميلًا، وفيه قصص وروايات ألّفها أناسٌ مثلنا، وربما أقل حضارة وتعليمًا وثقافة من أقرانهم اليوم، وليس من الضروري أن تكون تلك القصص والروايات صحيحة، ويعتمد عليها أو يعتبر منها، ولذلك فإن قراءة التاريخ بفكر نقدي يشكُّ في كل رواية أو حدث سيقودنا للوصول إلى صورة أكثر مقبولية ممّا يريد المؤلف فرضه علينا، ولكن دون النبش الغوغائي والأعمى، فالتاريخ يخفي بين صفحاته حقول ألغام كفيلة بتدمير الحاضر وإقصاء صورة المستقبل إلى سنين ضوئية.
   إن بناء حاضر زاهر يؤمّن الحياة الكريمة للفرد والمجتمع، ويوفّر فرصَ العمل والإبداع لجميع المواطنين بعدالة ومساواة، بعيداً عن التفرقة والتناحُر الديني والمذهبي والعرقي، يبدأ بفصل الدين عن الدولة والكف عن نبش التاريخ المليء بالصراعات وفرض الإرادات وإنكار الوجود للآخر المختلف، واعتماد التعايش السلمي بين كافة المكوّنات تحت مظلة المواطنة الجامعة ومصالح البلاد العليا بما يحفظ حقوق الجميع بعيداً عن مبدأ الغالبية والأقلية.
   لنبدأ اليوم قبل الغد بإيقاف استيراد الماضي وحفرياته، والبحث عن إشراقات التاريخ وصفحاته الناصعة، وإهمال صفحاته السوداء وترك صراعاتِ قادته، فقد أصبحوا جزءاً من الماضي.
   دعونا نعشْ بسلام، ونبني حاضرنا ومستقبلنا، فنحن خُلٍقنا في زمان غير زمانهم وعقولٍ غير عقولهم، ودول غير دُوَلهم.
kmkinfo@gmail.com

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…