من يصنع الطغاة

د. محمد محمود 
سئل أرسطو من يصنع الطغاة ، فرد قائلا : ضعف المظلومين ….!!!
ان المستبد يحاول استغلال علم النفس الاجتماعي أبشع استغلال من أجل السيطرة على الشعب ، تشير جميع النتائج الى أن الطغيان ليس وليد فراغ ، بل أنه وليد بيئة اجتماعية ملائمة يحيا و ينتشر فيها ، و ذلك من خلال الشعارات و الايديولوجيات التي تدغدغ شعور و قلوب الناس كغطاء شرعي لوجوده ، و لكن السبب الاساسي للطغيان هو وجود النفس المهزومة و المتسلقة و الانتهازية ، و الطاغية تخلق ظروف اجتماعية و اقتصادية و سسياسية ملائمة و ذلك من خلال تكريس الخوف و الجهل و التوجس و الركون و الخنوع ، لان مثل هذه النفسية لا تحترم العمل و التفكير و قبل الرأي الاخر …
فالجهل اهم عنصر من عناصر خلق الطغاة ….!!
من يصنع الطغاة :
قصة تبدأ من زعيم يحكم الارض ، تسول له نفسه المريضة و حاشيته من الوزراء و المستشارين يسولون له الطغيان و أذلال الضعفاء من أبناء الشعب ، شيئا فشيئا و على وقع التطبيل و التزمير يدعي الفرعون أنه الأله المطلق و الحاكم الاوحد لهذه الارض ( ما علمت لكم من أله غيري ).
لعل قصة الفرعون هي الفانتازيا الأشهر في تاريخ البشرية ، ذلك الرجل الذي طغى في الأرض و تجبر و أذل بني اسرائيل و اذاقهم الويلات و المأسي و الجوع و الفقر و العوز .
لم يكن هو الطاغية الأول و بالتاكيد لم يكن الأخير في قائمة  الطغاة ، على الرغم من النهاية المأساوية و البشعة لأغلب الطغاة (( فكثيرون انتهوا بالشنق او القتل )) .
في عام 1567 ، نشر الكاتب الفرنسي (( اتيان دولابوسي )) ، الذي يعتبر أحد مراجع الفكر السياسي الحديث مقالا مهما حول ( العبودية المختارة ) المقال تحول الى كتاب : فهو يرى الطاغية لا يكون مستبدا الا اذا تخلى الشعب عن حريته التي ولدت معه ، يتنازل عنها بمحض ارادته و يستسلم للعبودية بسبب الطمع و الخوف و الجبن .
كما يرى أن الشعوب هي التي تصنع الطغاة ، طعما و انانية و خوفا من البطش ، و لكن غير مدركين بأن بطش المستبدين تأتي من الطاعة العمياء للمواطنين لهم و خنوعهم و قبولهم بالتنازل عن أعز ما وهبوا بها و هي ( الحرية ) .
و لا يمكن للطاغية ان يحكم بمفرده و يمارس الظلم و الجبروت الا بوجود رموز من النخب و المثقفين المتملقين ، و لكن فأن سقوط الطاغي المستبد سهلة كما كتب الكاتب (( لا تخلعوه  ، …. فقط كفوا عن طاعته و سترونه يسقط كتمثال ضخم ازيحت قاعدته فهوى و تحطم  ..)) . و لكن الاشكالية تكمن كيفية اقناع الشعوب بأن الثمن الذي يدفعه مقابل الخنوع و الذل و الاستسلام للعبودية هو أغلى بكثير من المواجهة
من أين تأتي بذور الطغاة ….؟
لا يولد المرء طاغية أو مجرما أو ظالما ، أنما يصعد سلم الطغيان خطوة خطوة و هو بحاجة الى وسط خصب لينبت فيه ، مثلما ينبت الديدان في المستنقعات الوسخة ..،و لابد من وجود حاضنة خصبة من المطبلين و المزمرين و المصفقين تدور في فلكه و تتفاعل ايجابا مع أهوائه الدموية و السلطوية .
أما الافكار و الايديولوجيات الجوفتء و الشعارات الرنانة التي يتشدق بها الطغاة و المتستبدين و الظالمين فهي في الغالب مجرد تجميل مظهرهم القبيحة ليكون لائقا و خارقا أمام مريديه و اتباعه من الرجال و الشباب و النساء ، فكل فرد هو مشروع ديكتاتور و طاغي أذا وجد فيه البيئة المناسبة ، ولو كان هناك قانون و قضاة مستقل و منظمات مجتمع مدني قوي تراقب اعمال كل مسؤول و اعتبار السياسي و الجنرال و المسؤول و رئيس البلاد مجرد موظف يؤدي وظيفته و يتقاضى راتبه و آجره مقابل ما يقوم به من الاعمال و لا نخلق اساطير من لا شيء ، و لا نحتاج الى أبطال من الورق …..
لا يولد الطغاة طاغية من بطن أمه و لكن فأن الشعوب هي التي تصنع طغاتها بنفسها ، و ذلك بامتداحهم  لهم على كل شيء سواء كان خطأءا أو لا و مؤازرتهم على الظلم ، و السكوت عن الحق و غيرها من الامور التي تحسسهم بأنهم رجال عصرهم و سوبرمان زمانهم ، و في الحقيقة يمكن يكونوا أقل مستوى من الآخرين و ربما يكونوا أشباه الرجال ، و الشعوب تضعهم في هذه المناصب و من المفروض أن يقوموا بواجباتهم ، فهم يخضون حروبهم بدماء أبنائنا و ينفذون ظلمهم و جبروتهم و طغيانهم بأيدي ابنائنا …
كلما نتأمل في حال شعبنا السوري عموما و الكوردي خصوصا نجد ما آلت أليه من ذل و خذلان و خنوع و انكسار و هزيمة و تفرقة و كلما نتأمل في التغيير الديمغرافي الذي حصل و يحصل بيد أبناء جلدنا و تهجير و تشريد الغالبية العظمى في بقاع الارض نحس أننا أصبحنا شعب بلا وزن و لا قيمة …و نصل الى نتيجة أن الشعب هو الذي جنى على نفسه .
أليس أبناء شعبي جعلوا من الخونة أمناء و مسؤولين …؟؟
ألسنا من جعلنا من أبناء السوق و اللصوص أمراء على رؤوسنا …؟؟
ألسنا من جعلنا من الاقزام عمالقة و زعماء …؟؟
ألسنا من جعلنا من الاوغاد و القوادين قادة …؟؟
ألسنا من جعلنا من المرتزقة و السفلة مقاما …؟؟
ألسنا من جعلنا من الجهلة و الاغبياء  حكاما و منظرين و مشرعين …؟؟
ألسنا من وضعنا الخونة على كراسي الحكم و نأتي و نقول الظروف جعلنا مضطهدون …؟؟
أن الطغاة و المستبدين هم سبب هزيمتنا و ذلنا و خنوعنا و تشردنا و جوعنا و فقرنا ….!!
قال فرعون لقومه (( أنا ربكم الأعلى )) و صفقوا له ….!!
فالشعوب تصفق و تهتف ، و الاعلام يقدس و يمجد و يكذب و يلفق الاكاذيب و الصحف و المجلات تدبج الكتابات و التهاني ، و الشعراء يمدحون ، و المنافقون و اللصوص و الانتهازيون يتملقون ، و يزرعون الفتن و الحرائق بين الطاغية و الشعب .
و علماء العرش يدبجون الفتاوي و يمدحون و يشرعون القوانين و يسنون التشريعات و يقبضون ثمنها بخسا …
ثم تنهال الألقاب على الطاغية كالسيل الجرار و يقولون عنه : الزعيم الملهم ، و المفكر ، و القائد الفذ و البطل الذي لا يشق عليه غبار ،و هو صانع الامجاد و بطل تاريخي ، و ملهم الطبيعة ، و هو ربان سفينة النجاة التي لولاه لغرقت و غرق كل من عليها ، ثم تأتي مرحلة التلميع لتشمل تاريخه الفذ و الغامض في النضال الوطني و القومي و دوره البارز في محاربة الاعداء ، و أنه هو الذي كان سببا في تتدفق المياه من الينابيع الى الانهار ، و هو الذي تفتحت الزهور و الورود بوجوده  على الجيال و الوديان ،و هو السبب في ثمار الاشجار و النباتات …..!!!
و بذلك لا بد أن يتم التأمين على حياته …. و ذلك بصنع الاجهزة الامنيه و المرافقين الذين يحيطون بالزعيم و الطاغية و تصنع بينه و بين الشعب المصفق و المتمالق ملايين من الحواجز …
أن جميع الطغاة يتشابهون في السلوك العام و أن اختلفت في التفاصيل ، من التشابه (( عبادة الفرد الواحد )) ، من خلال خلق خرافات حول شخص القائد … و تحويلها مع الزمن الى حقائق ثابته في عقول و ذهون الناس و ذلك من خلال عم دراسات في اعلى المراكز لعلم النفس و كيفية تأثير الاكذوبات على عقول الناس … و ذلك من خلال بأن شخصيته ملهمة ذات مهمة ربانيه أو تكاد يكون (( أنه الرب الأعلى )) و ذلك من خلال وضع برامج منظمة من خلال خلق عالما اعلاميا خاصا به ،، و يحاول عزل الشعب عن العالم الخارجي بحجة أن العالم و الدول الاخرى أعداء و يحاربه ، و يخلق له عدو ملفق و متفق مع أسياده حتى يفرض قوته و يجعل من التعليم مادة لتمجيد الطاغية لكي يرى الاطفال صورة القائد ليلا و نهارا ليعرفوا مناقبه …
نحن من نصنع الطغاة ……. نصنعهم بقوة الخوف الذي يسكن في عقولنا و قلوبنا و بالشكوك التي التي تحتل عقولنا و بالخنوع الذي يمتص وجداننا و بالكسل الذي يشل أطرافنا ….
و الطاغية يولد من رحم الجهل و الفقر و المرض …
الطاغي يصنع عن طريق المتملقون و المتسلقون و المنتفعون و الانتهازيون و رجال باعوا مبادئهم و اخلاقهم و خانوا اوطانهم و شعوبهم من أجل ارضاء الزعيم ( المغوار و الفذ ) .
ألسنا من نمد أيدينا لنكون السيف المسلط على رقاب الشعب و أحد أدوات الطاغي …؟؟
ألسنا من غنينا للطغاة أجمل الاغاني و الكلمات …؟؟
ألسنا من جعلنا من هاماتنا مصعدا و سلما لهم حتى صعدوا الى القمم و تحولوا الى الطغاة …؟؟
الطغاة في العالم المتخلف و النامي نراهم راسخين على عروشهم ، فأذا سقط أحدهم خلفه على الفور طاغية آخرى أسوء منه .. و كأن الطغيان هو يعيد أنتاج نفسه بهذه السهولة و يؤكدون بشكل واقعي أنه هو القانون الاساسي الذي يحكم علاقات الحاكم بالمحكومين ….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…