إبراهيم محمود
للمصادفات جمالها ودلالها واعتبارها كذلك، ولها حلاوتها وطرافتها، تبعاً للمكان والزمان. مصادفات لها علاقة بذكريات، بتداعيات صور تستعيد ماضياً معيناً أو أكثر، تبعاً لأهمية كل مصادفة ومن يكونون الداخلين فيها، أو رموزها على وجه التحديد.
لا قاعدة للمصادفة بالتأكيد، لأنها لا تخضع لأي حساب زمني معلوم، يجري التنبه إليه. سوى أنها لا تعني استحالة حدوثها في زمان ومكان حسيين. فمن يهاتفك دون توقع، ومن يلتقيك فجأة، ومن يزورك دون ميعاد، ومن يطالب مجالستك أو مسامرتك على غفلة… كلها تكون في حساب اللامفكر القريب منه، أي غير المخطط له بوعيه هنا. لكنها لا تخفي في بعض الأحيان بدعتها ومتعتها. فهناك ما تسمعه وتلتقيه فجأة لا يبعث على السرور. وللمصادفة تلويناتها وتردداتها وإيقاعاتها النفسية ، وثراء مشاهدها لمن يفكر فيها.
بناء عليه، أجدني متحمساً لوقائع تنتمي إلى عالم المصادفة، ليس رغبة في المجهول، إنما لأنها تمارس اختباراً لقدرات أحدنا، لنوعية اللقاء مع شخص أو أكثر، وتمارس تدريباً للروح على ما هو مختلف، وغير مهيَّأ له بالمقابل .
وحين أمهّد لموضوع كهذا، فسعياً إلى مكاشفة حقيقة لا تستقر على صورة واحدة، وهي تقبل مكاشفة من جوانب مختلفة، ليكون لها ذلك الأثر وتداعياته، وفي الوقت نفسه، يكون للمصادفة حافز ينعش على الدهشة والترويح عن النفس كذلك.
هكذا، وفي وضع نفسي مشدود إلى حسّية المصادفة ونكهتها، أسمّي السهرة التي انتظمت دون توقيت محضّر له. سهرة ضمت من لهم صلة بما هو اجتماعي، ثقافي، وقدرات تشجع على التلاقي، والدخول في فكاهة زمن مغاير ولو لبعض ساعات.
في فندق ” جيان ” الدهوكي، مساء الأحد” 21 نيسان 2024 ” كانت السهرة الثرية التي ضمت كلاً من الأحبة الكرد: مؤيد طيب الشاعر المعروف طبعاً، والدكتور بافي نازي الباحث والكاتب المعروف بدوره طبعاً، والدكتور سعدالدين ملا، السياسي الكردي المعروف والمقيم في أوربا منذ عقود من الزمن، وأخاه الدكتور عبدالحليم ملا.” اختصاص بولية في كامب دوميز ” والصيدلاني المعروف سيد خان، المقيم في دهوك منذ زمن طويل نسبياً، والشغوف بالقراءة والتنويع فيها.. وأنا .. ستة سمّتهم المصادفة، وهم مختلفو المشارب بانشغالاتهم اليومية، ليعيشوا عالماً مشتركاً حول طاولة واحدة، تداخل فيه الكلام مع الشراب، أحاديث تفاعلت بالتناظر مع نكهة الطعام المهضوم بالمقابل. ستة كان لهذه المصادفة دورها في الجمع بينهم ، أي وهي تقرب بين المسافات الجغرافية في زمن معلوم. الكلام نفسه نظير طعام تذوقاً ونوعية هضْم.
إن الزمن الذي أمضيناه معاً لساعات عدة، في غمرة نور خفيف تمازجَ مع عتمة خفيفة، شكّل تطرية لحيوية الجلسة، وتنشيطاً لذاكرة مكانية انفتحت في مسارات مختلفة، جهة الموضوعات التي وردت بعناوينها، بمحتوياتها، بإيجازاتها، بتنوع أبعادها الزمانية. ربما يقدّر الكردي المأهول بثقافة لها حمولتها الاجتماعية وترتيبها، مثل هذه اللقاءات، وهو يجد نفسه كما هي مسامات جلده يتنفس مختلفات، ويأتي على ذكر مختلفات، وبينها قواسم مشتركة، كونها صادرة عن وحدة حال ما، عن توق الواحد إلى الآخر، حين يأتنس إليه، ويطرب لسماع صوته، ويتشجع ليسمِعه صوته، شكواه، هماً ما له، ما يمكنه البوح به، تعزيزاً آخر إلى رصيد ائتماني ودي، يضفي على علاقة كهذه تقديراً واحتراماً متبادلين.
في مصادفة لا تعود مصادفة، يشعر كل داخل في لعبتها الممتعة والتي تحرر الجسم من وطأة الروتين وبيروقراطية المكان، أن لديه ما يريد نقله إلى الآخرين، وبالحميمية عينها، يريد التقاط الصوت والتدقيق في المشهد الحركي للجسم، وما يأتي تنويعاً من هنا وهناك، كما هي الطاولة المستديرة، حيث كل كلمة تأخذ مسارها لتصل إلى المحلقين خلفها.
لا تخفي مجالسة وردت مصادفة مرارتها بالمقابل. ففي بدء اللحظة حيث يرمح الفرح برأسه، والراحة النفسية بظلها، يكون للمرارة اللحظة سطوتها، لأن المجالسة لها زمن محدود، أي ما يرفِق الوداع وشجنه بمستهل اللقاء ومرحه أيضاً.
أشدد على ما هو مهم في هذا السياق، بالنسبة لمن يريد تشخيص مشهد كهذا، وهو وجود ما يفاجىء المجالس، ما يقوي روحه، ويجعلها أكثر تنويراً من الداخل، ويلهمه بفكرة ما، بخاطرة ما، بحالة مستجدة تصبح خميرة كتابة عاجلاً أو آجلاً.
وفي هذا الوقت بالزمن، تكون الحاجة إلى الآخر، وهو أبعد ما يكون الآخر، فله مقره في النفس، وفاعل فيها، وما يمكن تسطيره في سطور كهذه، عبارة عن إبقاء هذه المصادفة بزهوها وقابليتها لأن تنعش الذاكرة والروح، وتؤبد اللحظة، وما في هذه المحاولة من سعي حثيث داخل كل منا، في أن يكون مستمراً في البقاء بكامل حيويته، ليؤمن رصيداً إضافياً له في الحياة.
شكراً على هذه المصادفة، ولمن أرادها تأريخاً من نوع آخر، وإن لم يأت على تدوينها عملياً، ولحظة زمنية بثلاثية أبعادها وإشراقتها تالياً، وقد أرشفها في ذاكرته في مسيرته الحياتية.