الاستعراض الإيراني الناجح

ماجد ع  محمد
يظهر أن تعرض طهران للضغط الإعلامي والشعبي الكبير عقب قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع الشهر الجاري، وقتلها قادة في الحرس الثوري الإيراني بينهم القائد في فيلق القدس محمد رضا زاهدي، كان له الدور الأعظم في حث إيران على التحرك إعلامياً ودبلوماسياً ومن ثم عسكرياً عساها تحفظ ماء وجهها أمام الشعوب العربية والإسلامية، ولو أن ذلك التحرك كان شبه استعراضي وقريب من أجواء المناورات العسكرية التي عادةً ما تتم بالاتفاق المسبق وفي أماكن خالية من السكان بعيداً عن الناس، شريطة أن يتم المشروع أو تقوم المناورة بدون أن تترك أيَّ أثر سلبي وبألّا تخلِّف أضراراً جسدية أو مادية.
لأنَّ العملية التي سمتها دولة الملالي باسم “الوعد الصادق”، لو لم تكن قائمة في الإطار الاستعراضي، ولو لم تكن قريبة من أجواء الكرنفالات الجماهيرية، لكانت المقذوفات على الأقل جرحت ساق عسكري إسرائيلي أو خدشت جدران قطعة عسكرية إسرائيلية ما في مكانٍ ما، بل لو رُمي 300 حجرٍ عادي على مدينة من المدن فإن لم تتسبب المرميات العشوائية بقتل العشرات على الأقل لكانت حطّمت أسقف عشرات المنازل، بينما عملية “الوعد الصادق” التي أطلقت 185 طائرة مسيرة و36 صاروخ كروز و110 صواريخ أرض أرض لم تقتل عسكرياَ إسرائيلياَ واحداً ولا استطاعت تدمير ولو منشأة إسرائيلية واحدة،
هذا إذا ما علمنا بأن ضربة جوية ذكية واحدة فقط قضت على قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق أبو مهدي المهندس وعدد من المرافقين العراقيين والإيرانيين، كما أن غارة جوية واحدة مِن قِبل إسرائيل في 1 نيسان (أبريل) 2024، دمرت المبنى الملحق بالقنصلية الإيرانية المجاور للسفارة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، وأسفرت الغارة عن مقتل 16 شخصًا، من بينهم العميد محمد رضا زاهدي وسبعة ضباط آخرين في الحرس الثوري الإيراني، بينما أكثر من 300 ضربة إيرانية لم تصطد أي ضابط أو مجند إسرائيلي! إذ يبدو أن السلاح الذي رمَت به طهران دولة إسرائيل كان ذكياً فوق العادة، لذا لم تلحق كل تلك الغارات والضربات أيَّ ضرر بالأرواح أو الممتلكات!
وفي سياق عرض العضلات في المعركة الخلّبية، فبالرغم من أنه تم اصطياد 90 بالمئة من المسيّرات الإيرانية وصواريخها في السماء، إلاَّ أن هناك من يرى بأن عملية إيران كانت نقلة نوعية وهزت أركان الكيان الصهيوني، بما أن صواريخها الباليستية من نوعية “خيبر شيكان” لا تظهر غالباً على الرادارات الخاصة بالدفاعات الجوية حسب زعمهم، وهي والكلام لهم مزوَّدة برؤوس حربية، كما يمكنها المناورة! وهذا الرأي لا شك سيكون له دور معنوي مهم لدى المعوّلين على الغضنفر الإيراني في حربه المزعومة ضد إسرائيل، حيث ذكر في هذا الصدد الخبير العسكري المصري سمير راغب في مقابلة مع “العربية.نت” أن الضربات الإيرانية كشفت لأول مرة للأميركيين والأوروبيين والأطراف الفاعلة في المنطقة إمتلاك إيران صواريخ يصل مداها إلى 2500 كيلومتر، وباتت لديها القدرة على الوصول لمدى أكثر من محيطها ومحيط الدول المجاورة، بل يمكنها بذلك الوصول لقلب أوروبا!
حقيقةً نجحت عملية “الوعد الصادق” في استعراض قوتها الصّورية وانتصارها الوهمي بامتياز، ليس طبعاً في إطار ترهيب إسرائيل أو ردعها أو إجفالها، إنما فلحت في دغدغة مشاعر الملايين من اللاطمين واللاطمات ممن تسيّرهم الإيقاعات الطائفية وتقودهم الهتافات التمجيدية وهدير اللعنات في الشوارع والساحات، ولكنها في الوقت ذاته أخفقت في إقناع ليس فقط مجمل السوريين إنما حتى نسبة كبيرة من أبناء الطائفة العلوية في سورية بأن طهران بارعة في التمثيل وخداع المتفرجين وهم بكامل حماسهم، وباتوا على قناعة تامة بأن أذى طهران وضررها ليس أقل من ضرر أيَّ دولة أخرى من الدول التي تستبيح أرض سورية وشعبها.
على كل حال فلا نقول إن ما جرى هو كان لمصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى لأن الرد الاستعراضي جعل العالم كله ينشغل بالمشهد الكرنفالي التشويقي وينسى كل ما جرى في غزة طوال الشهور الماضية، ولا نقول بأنه كان أشبه بالعمل الدرامي الذي حقَّق كل شروط الإثارة واستطاع أن يُعيد للتلفزيون قيمته الفعلية بعد أن هُجّر وبُدّل من قبل الكثير من المشاهدين بالتلفونات الشخصية، ولكن بكل تأكيد فإن الرد بالنسبة لكل من كان يتوقع بطولات خارقة وأعمالاً عظيمة من طهران، فإن ردها الصوري كان حاملاً كل معاني الخيبة والخذلان، ولم يكن بمستوى تصوراتهم وطموحاتهم ولا تناسب الردُ الملتبس مع حجم التهويل والتوعد والإنذار الإيراني، إنما كل وعيدها وتهديدها طوال الفترة التي أعقبت استهداف سفارة طهران في دمشق من قِبل إسرائيل لا تذكِّر المتابع إلاّ بقصة ولادة الفأر بعد أن تمخَّض الجبل.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…

د. محمود عباس صرخة في وجه التكفير والخراب والإرهاب. من يهاجم المكون الدرزي في السويداء؟ من يحاصر مدنها، ويهدد شيوخها، ويحرّض على أبنائها بذريعة كلمة قيلت أو لم تُقَل؟ من نصب نفسه حاميًا للرسول الكريم وكأن الإسلام ملكيته الخاصة، وكأن نبي الرحمة جاء لقوم دون قوم، ولدين دون آخر، متناسين أن محمدًا عليه السلام نبي الإنسانية كلها، لا نبي التنظيمات…

بوتان زيباري في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح…

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…