سيول دهوك المارقة

إبراهيم محمود
ربما لأول مرة أرى دهوك بمثل هذه المشاهد التي وجدتني محاصراً بها، منذ صباح هذا اليوم” الثلاثاء، 19-3/ 2024 ” وقد خرجت من بيتي القريب من شارع ” نوهدرا ” الشهير المجاور لوسط المدينة، إلى نقطة معلومة، ومن هناك تأخذني سيارة الجامعة إلى طرف المدينة ” مالطا “، حيث  يقع مركزي البحثي في وسطها “. كانت الأمطار الغزيرة تشكل سيولاً صاخبة بصوتها، والسيارة تشقها بصعوبة وحذر شديد، كأنهما في صراع فعلي.
بقينا لمدة ثلاث ساعات، وكان الجو يزداد ثقلاً بغيومه ونُذره البرقية، ووعوده المخيفة لأهل المدينة العريقة، ذات الطبيعة التضاريسية المتباينة في أرضيتها صلابة وهشاشة، والمساحات المنخفضة بها ، وهي الأكثر تهديداً من ” ماء السماء “
أُخبِرنا بلزوم الخروج من الحرم الجامعي سريعاً، لأن هناك معلومات عن أن الساعات القديمة ستشهد هطول أمطار أكثر غزارة، وهذا يضاعف المخاطر في الشوارع والطرقات التي تؤدي إلى مركز المدينة، أو تخرج من المدينة نفسها. إذ ليس من تساو ٍ بين طريق أو شارع وآخر.. ولهذا، عانينا الكثير، حتى بلغنا بيوتنا، وقد عبرنا نقاطاً منخفضة زاد فيها ارتفاع منسوب المياه وهي تتدفق شلالياً تحت الضغط، وهي تجرف معها أتربة ووحولاً من الأطراف، بينما من جهة الجبل فقد كان هنا انجراف أحجاراً وصخوراً بأحجام مختلفة، وهي تتدحرج إلى الأسفل، ناحية” أسواق الربيع : كَري باصى “، لتصطدم بحواجز اسمنتية، أو ترتطم بالأرصفة، وتهمد في أمكنة مختلفة من هذا الشارع أو ذاك، وتتحرك تحت وطأة تدفق السيول في الشارع هنا وهناك.
دهوك المدينة الكبيرة بمساحتها المحصورة بين جبلين، ويشقها واد عميق نسبياً، وينبسط على جانبيه، وهو يشهد بناء عمرانياً مخالفاً، اضطراراً، في أطراف المدينة، دون أن يحسب المقيمون حساباً لتهديدات كهذه.
ليس هناك من عِقد موقع بين السماء والأرض، لجعل المقيمين في مواضع غير منظور في أمرها مستقبلاً، وفي مواسم من هذا القبيل. ما يجري بناؤه تلبية لحاجة لا مفر منها، كما هي حياة الساعين إلى وضع كهذا، فهم لا يمتلكون مقدرة على الدخول في حسابات دقيقة تجاه المستقبل، إنما كل ما يرجونه، هو ” السترة ” ولو إلى حين، وهذه ” ولو إلى حين ” تعني، إنهم مسلّمو أمرهم لصاحب الأمر، للمجهول، كما يعرّف بهم وضعهم المادي السيء، وهو الوضع الذي يؤطر مشاعرهم وأفكارهم، والمقدّر عليهم يتجنبونه، إذ إنهم في الحالات هذه، سوف يستمرون في وضعية التنقل دون مأوى، أو دون إقامة تؤمن لهم استقراراً ولو بسيطاً جداً.
لأول مرة شعرنا بالخوف. الخوف من الطبيعة، وفي حالة كهذه، مبرّر، خوف يتطلب تخطيطاً، بغية الاستعداد إلى أخذ الاحتياطات اللازمة، في حال تنامي التهديد جرّاء السيول التي غزت شوارع كثيرة.
محلات، بيوت جرفتها السيول، عويل نساء، صرخات رجال،وبكاء صغار، واضطراب في المناطق التي تعرضت للكارثة الطبيعية، ومشاهد كثيرة لسيارات، وخزانات مائية طافية على ظهر السيول، وسوى ذلك من الأدوات والأجهزة المنزلية كانت تتصادم، وتنجرف، وتتسابق، كما لو أن السيول عنفات سريعة وغاضبة تمضي بـ” غنائمها ” في مشاهد هستيرية إلى جهة مجهولة.
وهناك ضحايا، وهناك إصابات، وهناك مخاوف من فقدان السيطرة على الجاري، حيث ينعدم التكافؤ بين الغزارة النوعية للأمطار المنهمرة وهي تستغرق المدينة بوابلها، بحماس غير مسبوق، عمودياً، لتشكل معابر لها، أفقية، على قدر اندفاعها، وتجاوب المكان لها. يا للمشاهد السينمائية الكاتمة للأنفاس!
اتصالات بنا، من أمكنة كثيرة وبعيدة، تسألنا عن وضع المدينة التي انتقلت بخريطتها المائية ومشاهد الخراب والنهب والسلب الطبيعيين، والإصابات المحوَّلة باسم المناخ وطبيعة التربة، والرُّقع العمرانية. نحن بخير.. نقولها ولكن الخير لا يقتصر علينا، ثمة ما هو كارثي، إنها مأساة مؤلمة، ولا تستثني أحداً من وضعها الأليم، ليس هناك من يشمت إزاء حالة كهذه، لا نعرف إلى متى ستستمر، خاصة وأن ليس هناك من قنوات تصريف مائية تستوعب مثل هذا ” التسونامي ” المطري بمقياس مدينة لم تضع حساباً لوضع كهذا.
قبل تسع سنوات، ولحظة الإعداد لموسوعة ” دهوك ” طُلِب مني أن أشارك بمادة فيها، فاخترت عنواناً، ربما لا يلفت النظر كثيراً، وهو ” رن الجرس: دهوك من الخارج ” تناولت في بحثي مشاهد من هذا النوع، جهة الشوارع وطبيعتها، وصلتها بالطبيعة ومتغيراتها، والأرصفة، وأعمدة الكهرباء، والجبل وبنيته الصخرية، والتشكيل العمراني وخريطته وانتشاره السكاني، والأخطار التي تهدد المدينة في ساعة شدة، كهذه الساعة التي تمتد لزمن غير معلوم راهناً، ولكنها الساعة التي يصعب التحكم في مشاعر الناس وذعرهم من الجاري، وفي الوقت نفسه، من المصير الأكثر بؤساً الذي ينتظرهم، وهو في الأصل يعيشون في بؤس، أو ليس في مقدورهم، وهم ينجرفون، أو ينزلقون، أو يهيمون على وجوههم، إلا أن يسلّموا أمرهم لمجهول لا سلطان لهم عليه، وفيهم من القهر الكثير، وفيهم من الانجراحات النفسية الكثير، وفيهم من السخط والخرس جراء الصدمة الكثير.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…