إبراهيم محمود
المرأة الأم، الأم المرأة، تسمّي الحياة نفسها. نقول اللغة الأم، نقول: الوطن الأم، نقول: الأرض الأم، اعترافاً بأن في هذا الثالوث تكون اللغة الدالة على الإنسان في توالدها، يكون الوطن المعبّر عن احتضان الأم لأولادها ، تكون الأرض المشيرة إلى حمْل الأرض لكل ما عليها وفيها. وكردياً تكون المرأة الحياة Jin-Jîn، الحياة المرأة Jîn-Jin. ربما بالطريقة هذه، يسهل الربط بين انتماء ما، انتماء كوني إلى الأنثوي بصورة أكثر عمقاً ورحابة، إلى المرأة الأقدر على تمثيل الحياة( حوّاء، بمعنى الحياة، هي من دشَّنت الحياة بمفهوم ” الثمرة ” ذات الدلالة، من شجرة الحياة، وكان رمز الشر ذي الدلالة سليل الذكر الأول المسمى في التاريخ ” قابيل ” ولْد ” آدم “).
يشهد التاريخ في مجمله تباعاً أن المرأة هي التي شكَّلت ولازالت تشكّل صمّام الأمان، ومبعث الخير والتفاؤل في الحياة ” في حقْن الدماء وغيرها ” لتكون القرابة في حيويتها مأخوذة بها .
هنا، تبرز المرأة الكردية، المرأة عموماً، والكردية هذه خصوصاً. أن تكون المرأة معرَّفة بيوم عالمي لها، توليف ذكوري شعاراتي كثيراً، كما لو أنها تعرَف بيوم كهذا على مستوى العالم. هي دائماً عالمية، وحدث التاريخ الذي يعزز ما هو حياتي ينادى بها جهة الأسلم والأعلم والأعظم .
المرأة التي حملت صغيرها، تحتضنه، كما لو أنها تريد حمْله داخلها، لحمايته من كل أذى. لمسة يدها بلْسمية، طبية روحية، لمن يعيش نجاعة هذه اللمسة ونفاذ إكسيرها إلى الداخل .
وفي ” 12 آذار ، 2004 ” كانت لها شهادتها، كانت هي الشهادة بحواسها الخمس، بروحها الفائضة على جسدها الطبيعي، كان صوتها علامة التشديد على شموخ حضورها .
المرأة الكردية آذارية على مدار العام لحظة التذكير بآذار بمعناه الكردي ” avdar ” لقاء الماء والشجر، أو بالعكس، لقاء التاريخ بالجغرافيا، انبعاث حياة أخرى، ثمة الخصوبة وثمة الديمومة .
لا أتحدث هنا بمناسبة المعتبَر ” يوم المرأة العالمي ” إنما عن تلك اللحظة الآذارية ووفورة مأثرة هذا الشهر ودلالته، من جهة الطبيعي والمتحول فيه: بين ثلثيه المحررين بالشتاء، وثلثه الأخير المحوَّل إلى الربيع: بدء الربيع، انقلابه، وإخراج الأرض لكنوزها من نبات وخلافه.
يستحيل أن يتحدث أي منا عن تلك اللحظة الآذارية، حيث يتراءى ذلك الجمع الغفير من الرجال، الشباب، اليافعين، البنات، والنساء اللواتي كن يتابعن كل شيء بكامل مشاعرهن الزوجية، الأمومية، العائلية، والأهلية، وملؤهن فخار، كما لو أنهن بمظهرهن كن يتابعن كيف تثمر الشجرة الآذارية في كرديتها بما هو مثمر ومبهج تاريخاً كردياً طال انتظاره، وهو يسمو، مخترقاً ليل المستبد وجنجاويده وأذنابه والذين خرسوا أو تخاذلوا من الكرد عاديين وكتاباً وسواهم، متجاهلين فورة الدم الكردي المراق، صرخة الدم الكردي المسفوك في أمكنة شتى روجآفاوية، فصاحة الدم المطارد والمقاوم لرصاص النظام وقتلته وعسسه والسائرين في ركبه، والدم الكردي معمَّد بصحوة حريته وطلتها في جهاتها الأربع، وللمرأة الكردية نبراسها، معايشتها لنبل الحدث.
أتحدث عن آذارية المرأة الكردية، عن الكردية عموماً، بوصفها امرأة تعيش تاريخ إنسانها التاريخي، القومي، بشموخ قام رغم الجراحات، والكردي المحتكم إلى ضميره، يدرك جيداً ما معنى أن تكون المرأة: أماً، زوجة، أختاً، بجانبه، وراءه، معه، حارسته، محتضنته، يدرك الكردي بنسبه الآذاري الذي انتمى بوجدانه الحي، بجسده اليقظ، وحسه العميق الأثر، إلى تاريخ أفصِح عنه، بشكل غير مسبوق في رحابة اللحظة الآذارية، يدرك ما معنى أن يرى وجهه، ماضيه، آتيه، في مرآة تللك اللحظة، وهو جمْع زاخر بالحياة.
أن ترى العين هذه المرأة في الشارع، في زاويته، في الساحة، أمام باب المشفى، في كل واقعة، ومتابعة، المرأة الكردية التي تعيش اللحظة بكامل حرارتها ومبتغاها، مفخرة تاريخ كردي.
أتحدث عنها، ولو باختصار، تأكيداً على أنها أكبر من كونها امرأة، كما يجري وصفها، أو النظر إليها، أو التعامل معها، في أدبياتنا التاريخية، أو تقويمها في مجتمعنا ” الذكوري الطابع “.
لا أعني بذلك آذارية المرأة الكردية في جهة معينة، فثمة قاسم مشترك أعظمي يصل ما بين نساء الكرد أنى كن وحللن كردستانياً، هو أن هذه المرأة في تاريخ الكردي الطويل والمأساوي، وإلى الآن كانت، وربما ستكون إلى إشعار آخر: أم الكردي شهيداً، زوجة الكردي شهيداً، أخت الكردي شهيداً، قريبة الكردي عموماً شهيداً، عدا عن كونها هي نفسها شاهدة على هذا التاريخ وشهيدته.
أسفي كبير كبير كبير، حين أعاين هذا التاريخ، وأنا أستدعي إلى الذاكرة أولئك الذين يتباهون بالكردية لغة، قبل كل شيء، وبالكردية قومية، ولا ينبض في جسمهم عرْق مما هو إنساني، وليس كردياً فحسب، للتذكير بهذه اللحظة التي تعنيهم في عقر دارهم، موقفاً، أو تعبيراً كتابياً. يا للصامدين في ” تخاذلهم “، وهم يتشدقون في الحديث عن المرأة ومكانتها” ويتبروزون”، وهم بتلك الذكورة المنخورة بتباين أسمائهم ومواقعهم، وانتماءاتهم السياسية والاجتماعية هنا وهناك ..
التاريخ لهم بالمرصاد بالتأكيد!